==========
=====
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
تفسير ابن كثير
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
(103) } .
يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش، ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام
والأوثان: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ،
قال ابن عباس: أي وقودها، يعني كقوله: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }
[التحريم:6] .
وقال ابن عباس أيضا: { حَصَبُ جَهَنَّمَ } بمعنى: شجر جهنم. وفي رواية قال: {
حَصَبُ جَهَنَّمَ } يعني: حطب جهنم، بالزنجية.
وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: حطبها. وهي كذلك في قراءة علي وعائشة -رضي الله
عنهما.
وقال الضحاك: { حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي: ما يرمى به فيها.
وكذا قال غيره. والجميع قريب.
وقوله: { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي: داخلون.
{ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } يعني: لو كانت هذه الأصنام
والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار، ولما دخلوها، {
وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } أي: العابدون ومعبوداتهم، كلهم فيها خالدون، { لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ } ، كَمَا قَالَ: { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود: 106]،
والزفير: خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفاسهم، { وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ }
.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا ابن
فُضَيْل، حدثنا عبد الرحمن -يعني: المسعودي-عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي
من يخلد في النار، جُعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، فلا يَرَى أحد
منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا
(5/377)
عبد
الله: { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } .
ورواه ابن جرير، من حديث حجاج بن محمد، عن المسعودي، عن يونس بن خَبّاب (1) ، عن
ابن مسعود فذكره .
وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } : قال عكرمة:
الرحمة. وقال غيره: السعادة، { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لما ذكر تعالى أهل
النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسُله (2) ،
وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال:
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26]: وقال { هَلْ
جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [الرحمن:60]، فكما أحسنوا العمل في الدنيا،
أحسن الله مآلهم وثوابهم، فنجاهم من العذاب، وحَصَل (3) لهم جزيل الثواب، فقال: {
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي: حريقها في
الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن
سلمة، عن أبيه، عن الجريري (4) ، عن أبي عثمان: { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } ،
قال: حيات على الصراط (5) تلسعهم، فإذا لسعتهم قال: حَسَ حَسَ.
وقوله: { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } فسلمهم من المحذور
والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا محمد بن الحسن بن
أبي يزيد الهمداني، عن ليث بن أبي سليم، عن ابن عم النعمان بن بشير، عن النعمان بن
بشير قال -وسَمَرَ مع علي ذات ليلة، فقرأ: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان
منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم -أو قال: سعد منهم-قال: وأقيمت
الصلاة فقام، وأظنه يجر ثوبه، وهو يقول: { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } .
وقال شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف المكي، عن محمد بن حاطب (6) قال: سمعت عليا يقول
في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال: عثمان
وأصحابه.
ورواه ابن أبي حاتم أيضا، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد -وليس بابن ماهك-عن
محمد بن حاطب، عن علي، فذكره ولفظه: عثمان منهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ
مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } : فأولئك أولياء الله يمرون
على الصراط مرًا هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جِثيًا.
__________
(1) في ت: "ابن حبان".
(2) في ت: "ورسوله".
(3) في ت: "وجعل".
(4) في ت، ف، أ: "عن أبي عثمان الجريري".
(5) في ت: "على الصراط المستقيم".
(6) في ت: "خاطب".
(5/378)
فهذا
مطابق لما ذكرناه، وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين، وخرج منهم عزير
والمسيح، كما قال حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن
ابن عباس: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ،
ثم استثنى فقال: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } فيقال (1)
: هم الملائكة، وعيسى، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل. وكذا قال عكرمة،
والحسن، وابن جريج (2) .
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى } قال: نزلت في عيسى ابن مريم وعُزَير، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرَة، حدثنا أبو
زُهَير، حدثنا سعد بن طَرِيف، عن الأصبغ، عن عَليّ في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا
الشمس والقمر وعيسى ابن مريم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ، قال: عيسى،
وعُزَيْر، والملائكة.
وقال الضحاك: عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر. وكذا روي عن سعيد بن
جُبَيْر، وأبي صالح وغير واحد.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبًا جدا، فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب
الرُّخَّاني، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، حدثنا الليث بن أبي سليم، عن
مُغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال: عيسى،
وعُزَير، والملائكة (3) .
وذكر بعضهم قصة ابن الزِّبَعْرَى ومناظرةَ المشركين، قال أبو بكر بن مَرْدُويه:
حدثنا محمد بن علي بن سهل، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن
عَرْعَرَةَ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا الحكم -يعني: ابن أبان-عن عكرمة، عن
ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم
أن الله أنزل عليك هذه الآية: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ، فقال ابن الزبعرى: قد عُبدت الشمس
والقمر والملائكة، وعُزَير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت: {
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا (4) بَلْ
هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } ، ثم نزلت: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } . رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه
"الأحاديث المختارة".
__________
(1) في ف: "فقال".
(2) في ت: "وابن ماجه وابن جريج".
(3) وفي إسناده سعيد بن مسلمة وشيخه ليث بن أبي سليم وهما ضعيفان.
(4) في ت: "مثلا".
(5/379)
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قَبِيصة بن عقبة، حدثنا سفيان -يعني: الثوري-عن
الأعمش، عن أصحابه، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال المشركون:
فالملائكة (1) ،عُزَير، وعيسى يُعْبَدون من دون الله؟ فنزلت: { لَوْ كَانَ
هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } ، الآلهة التي يعبدون، { وَكُلٌّ فِيهَا
خَالِدُونَ } .
وروي عن أبي كُدَيْنَة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس مثل
ذلك، وقال فنزلت: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ } .
وقال [الإمام] (2) محمد بن إسحاق بن يسار (3) ، رحمه الله، في كتاب
"السيرة" : وجلس رسول الله -فيما بلغني-يومًا مع الوليد بن المغيرة في
المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد (4) غير واحد من رجال
قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم { إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إلى
قوله: { وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } (5) ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبَعْرَى السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد
الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد،
وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد (6) من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن
الزبعرى: أما والله لو وجدته لَخَصمته، فسلوا محمدًا: كل ما يُعْبَد (7) من دون
الله في جهنم مع من عَبَده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى
تعبد عيسى ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس، من قول عبد الله بن
الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فَذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "كل مَنْ أحَبَّ أن
يُعْبَدَ من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين (8) ومن أمَرَتْهُم
(9) بعبادته. وأنزل الله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } أي: عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار
والرهبان، الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من
دون الله. ونزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله: { وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله: { وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء:26 -29]، ونزل فيما ذُكر من أمر عيسى،
وأنه يعبد من دون الله، وعَجَب الوليد ومن حَضَره من حُجَّته وخصومته: { وَلَمَّا
ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا
أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي
الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا }
[الزخرف:57 -61]
__________
(1) في ت: "والملائكة".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت: "ابن بشار".
(4) في ف: "المجلس".
(5) في ت، ف: "أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها
خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون".
(6) في ت: "تعبدون".
(7) في ت: "يعبدون".
(8) في ت، ف: "الشيطان".
(9) في ف: "أمرهم".
(5/380)
أي:
ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكَفى به دليلا على
علم الساعة، يقول: { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ } [الزخرف:61] (1) .
وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في
عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها؛
ولهذا قال: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }
فكيف يورد على هذا المسيح والعزير (2) ونحوهما، ممن (3) له عمل صالح، ولم يَرْضَ
بعبادة من عبده. وعَوّل ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن "ما" لما
لا يعقل عند العرب.
وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك، وكان من الشعراء المشهورين. وكان يهاجي
المسلمين أولا ثم قال معتذرًا:
يا رَسُولَ المليك، إنّ لساني ... رَاتقٌ مَا فتَقْتُ إذْ أنَا بُورُ ...
إذْ أجَاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغَي ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَه مَثْبُور (4)
وقوله: { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ } قيل المراد بذلك الموت. رواه عبد
الرزاق، عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.
وقيل: المراد بالفزع الأكبر: النفخة في الصور. قاله العَوْفي عن ابن عباس، وأبو
سِنَان سعيد (5) ابن سنان الشيباني، واختاره ابن جرير في تفسيره.
وقيل: حين يُؤْمَر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري.
وقيل: حين تُطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جُبَيْر، وابن جُرَيج.
وقيل: حين يُذبَح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي (6) ، فيما رواه
ابن أبي حاتم، عنه.
وقوله: { وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ } ، يعني: تقول لهم الملائكة، تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم:
{ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } أي: قابلوا (7) ما يسركم.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/358) ، ورواه الطبري في تفسيره (17/76).
(2) في ف: "وعزير".
(3) في ت: "وممن".
(4) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (2/419).
(5) في ت، ف، أ: "سعد".
(6) في ف، أ: "الهمداني".
(7) في ت: "فأملوا".
(5/381)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) } .
يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } كما قال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر: 67] وقد قال
البخاري:
حدثنا مُقَدم بن محمد، حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عُبَيد الله، عن نافع، عن ابن
عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يقبض يوم القيامة
الأرضَين، وتكون السموات بيمينه" (1) .
انفرد به من هذا الوجه البخاري، رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي، حدثنا
محمد بن سلمة، عن أبي الواصل (2) ، عن أبي المليح الأزدي (3) ، عن أبي الجوزاء
الأزدي، عن ابن عباس قال: يطوي الله (4) السموات السبع بما فيها من الخليقة
والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله (5) بيمينه، يكون ذلك كله في
يده بمنزلة خردلة.
وقوله: { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قيل: المراد بالسجل [الكتاب. وقيل:
المراد بالسجل] (6) هاهنا: مَلَك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن
يمان، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي، عن أبيه، عن ابن عمر في قوله تعالى: { يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال: السجل: مَلَك، فإذا
صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورًا.
وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن ابن يمان، به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر (7) محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية: السجل: مَلَك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع (8)
كتابُه إلى السجل فطواه، ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل: المراد به اسم رجل صحابي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي: قال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ، حدثنا نوح بن قيس، عن
عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: [ { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ] (9) ، قال: السجل: هو الرجل.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7412).
(2) في ت: "المواصل".
(3) في ت: "الأودي".
(4) في ت: "إليه".
(5) في ف: "كله ذلك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ت: "أبي حفص".
(8) في ت: "دفع".
(9) زيادة من ف.
(5/382)
قال
نوح: وأخبرني يزيد بن كعب -هو العَوْذي-عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن
عباس قال: السجل كاتب (1) للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد (2) ، عن نوح بن قيس، عن يزيد بن
كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: السجل كاتب (3) للنبي
صلى الله عليه وسلم (4) .
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي، كما تقدم. ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن
عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كان للنبي (5)
صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى (6) السجل وهو قوله: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال: كما يطوى السجل الكتاب، كذلك نطوي السماء،
ثم قال: وهو غير محفوظ (7) .
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني، أنبأنا محمد بن محمد
بن يعقوب الحجاجي، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي، أن حمدان بن سعيد حدثهم، عن عبد
الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: السجلّ: كاتب للنبي
صلى الله عليه وسلم (8) .
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس،
من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه -وإن كان
في سنن أبي داود-منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي، فَسَح الله في
عمره، ونَسَأ في أجله، وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة
(9) ، ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث، ورده
أتم رد، وقال: لا يُعَرف في الصحابة أحد (10) اسمه السجِل، وكُتَّاب النبي صلى
الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصَدَق رحمه الله في ذلك، وهو
من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث. وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا،
فإنما اعتمد على هذا الحديث، لا على غيره، والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس أن
السجل هي الصحيفة، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي، عنه. ونص على ذلك مجاهد، وقتادة،
وغير واحد. واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام:
{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أي: على [هذا] (11)
الكتاب، بمعنى المكتوب، كقوله: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }
[الصافات:103]، أي: على الجبين، وله نظائر في اللغة، والله أعلم.
وقوله: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا
كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا
جديدًا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم (12) ، وذلك واجب الوقوع، لأنه من
__________
(1) في ت: "كانت".
(2) في ت: "سعد".
(3) في ت: "كانت".
(4) سنن أبي داود برقم (2935) وسنن النسائي الكبرى برقم (11335).
(5) في ت: "كان لرسول الله".
(6) في ت: "كانت تسمى".
(7) الكامل (7/205).
(8) تاريخ بغداد (8/175).
(9) في أ: "حدته".
(10) في ف: "لا يعرف أحد في الصحابة".
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ت: "إعادته".
(5/383)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
جملة
وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال: { إِنَّا كُنَّا
فَاعِلِينَ } .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى (1) ، قالا (2) : حدثنا شعبة، عن
المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بموعظة فقال: "إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا
كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين" ؛ وذكر تمام الحديث،
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ورواه (3) البخاري عند هذه الآية في كتابه (4) .
وقد روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن عائشة عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم،
نحو ذلك.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ }
قال: نهلك كل شيء، كما كان أول مرة.
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } .
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين، من السعادة في الدنيا والآخرة،
ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: { إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:128].
وقال: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [غافر:51]. وقال: { وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا ] (6) } ،الآية [النور:55] .وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب
الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } ، قال الأعمش: سألت سعيد بن جُبَير عن قوله
تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } فقال الزبور:
التوراة، والإنجيل، والقرآن (7) .
وقال مجاهد: الزبور: الكتاب.
وقال ابن عباس، والشعبي، والحسن، وقتادة، وغير واحد: الزبور: الذي أنزل على داود،
والذكر: التوراة، وعن ابن عباس: الزبور: القرآن.
وقال سعيد بن جُبَير: الذكر: الذي في السماء.
__________
(1) في هـ، ت، ف، أ: "وابن جعفر، وعفان المعنى" والمثبت من المسند.
(2) في ت: "قالوا".
(3) في ت: "وذكره" ، وفي ف، أ: "ذكره".
(4) المسند (1/235) وصحيح البخاري برقم (4625) ، (4740) وصحيح مسلم برقم (2860).
(5) في ت، ف: "عن رسول الله".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "الفرقان".
(5/384)
وقال
مجاهد: الزبور: الكتبُ بعد الذكر، والذكر: أمّ الكتاب عند الله.
واختار ذلك ابن جرير رحمه الله (1) ، وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول. وقال
الثوري: هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور: الكتب التي
نزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي (2) يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أخبر الله سبحانه (3) في التوراة والزبور
وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض، أن يُورثَ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم
الأرض ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون.
وقال مجاهد، عن ابن عباس: { أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
قال: أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، وقتادة،
والسدي، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والثوري [رحمهم الله تعالى] (4) .
وقوله: { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي: إن في هذا القرآن
الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبَلاغًا: لمَنْفعةَ وكفاية لقوم
عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة
الشيطان وشهوات أنفسهم.
وقوله [تعالى] (5) : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } : يخبر
تعالى أن الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم
كلّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ، سَعد في الدنيا والآخرة، ومن
رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ (6) الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28، 29]
، وقال الله تعالى في صفة القرآن: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44] .
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان الفَزَاريّ، عن يزيد بن
كَيْسَان، عن ابن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ادع على
المشركين، قال: "إني لم أبعَثْ لَعَّانًا، وإنما بُعثْتُ رحمة". انفرد
بإخراجه مسلم (7) .
وفي الحديث الآخر: "إنما أنا رحمة مهداة" . رواه عبد الله بن أبي عرابة،
وغيره، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا (8) . قال إبراهيم
الحربي: وقد رواه غيره عن وكيع،
__________
(1) تفسير الطبري (17/81).
(2) في ت: "أم الكتاب والذي".
(3) في ف: "الله تعالى".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ت، وفي ف، أ: "عز وجل".
(6) في ت، ف، أ: "فبئس".
(7) صحيح مسلم برقم (2559) .
(8) رواه أبو الحسن السكري في "الفوائد المنتقاة" (157/2) . كما في
السلسلة الصحيحة (1/803) للألباني - حدثنا عبد الله بن محمد ابن أسد، حدثنا حاتم
بن منصور الشاشي قال: حدثنا عبد الله بن أبي عرابة الشاشي به. ورواه غيره متصلا:
فرواه عبد الله بن نصر الأصم عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
خرجه ابن عدي في الكامل (4/231) من طريق عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر.
وقال: "هكذا حدثناه عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر عن وكيع عن الأعمش، وهذا
غير محفوظ عن وكيع عن الأعمش، إنما يرويه مالك بن سعيد عن الأعمش، وعبد الله بن
نصر هذا له غير ما ذكرت مما أنكرت عليه".
(5/385)
فلم
يذكر أبا هريرة (1) . وكذا قال البخاري، وقد سئل عن هذا الحديث، فقال: كان عند حفص
بن غياث مرسلا.
قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي هريرة مرفوعا (2) . ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد
الحاكم، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري،
عن أبي أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس (3) بن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة".
ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود، عن سفيان بن عيينة، عن مِسْعَر (4) ، عن سعيد
بن خالد، عن رجل، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
الله بعثني رحمة مهداة، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين" (5) .
قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان، حدثنا أحمد بن صالح
قال: وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد
العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن صالح التمار، عن ابن [شهاب] (6)
عن محمد بن جُبَير بن مطعم، عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم [مكة] (7) منصرفة عن
حَمْزَة: يا معشر قريش، إن محمدًا نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم
شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه (8) ، فإنه كالأسد الضاري؛ إنه حَنِق
عليكم؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم (9) ، والله إن له لَسحْرَةً، ما
رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشيطان، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني
قَيلَةَ -يعني: الأوس والخزرج-لهو عدو استعان بعدو، فقال له مطعم بن عدي: يا أبا
الحكم، والله ما رأيتُ أحدًا أصدقَ لسانًا، ولا أصدق موعدًا، من أخيكم الذي طردتم،
وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال [أبو سفيان] (10) بن الحارث:
كونوا أشدّ ما كنتم عليه، إن (11) ابني قيلَةَ إن ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم
إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة، أو تخرجوا محمدًا
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/504) عن وكيع مرسلا، ورواه ابن سعد في
الطبقات (1/182) عن وكيع مرسلا، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/157) من طريق
إبراهيم بن عبد الله عن وكيع مرسلا.
(2) ورواه البزار في مسنده برقم (2369) "كشف الأستار" والبيهقي في دلائل
النبوة (1/158) من طريق زياد بن يحيى عن مالك بن سعيد به، وقال البزار: "لا
نعلم أحدا وصله إلا مالك بن سعيد، وغيره يرسله".
(3) في ت، أ: "حسن".
(4) في أ: "عن شعبة".
(5) وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له الألباني بالضعف.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ت: "أو تحاربوه".
(9) في أ: "الناس".
(10) زيادة من أ.
(11) في ت: "فإن".
(5/386)
من
بين ظهرانيهم، فيكون وحيدا مطرودا، وأما [ابنا قَيْلة فوالله ما هما] (1) وأهل
[دهلك] (2) في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم، وقال:
سَأمْنَحُ جَانبًا منّي غَليظًا ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرب وَبُعْد ...
رجَالُ الخَزْرَجيَّة أهْلُ ذُل ... إذا مَا كَانَ هَزْل بَعْدَ جد ...
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيده، لأقتلنهم
ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة بعثني الله، ولا يَتَوفَّاني حتى
يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحي الله بي
الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" (3) .
وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحًا.
وقال الإمامُ أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثني عَمْرو بن قَيس، عن
عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال: كان حُذيفةُ بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان فقال سلمان: يا حذيفةَ،
إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [كان يغضب فيقول، ويرضى فيقول: لقد علمت أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم] (4) خطَب فقال: "أيما رجل من أمتي سَبَبتُه
[سَبَّةً] (5) في غَضَبي أو لعنته لعنةً، فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما
يغضبون، وإنما بعثني رحمةً للعالمين، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة".
ورواه أبو داود، عن أحمد بن يونس، عن زائدة (6) .
فإن قيل: فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير: حدثنا
إسحاق بن شاهين، حدثنا إسحاق الأزرق، عن المسعودي، عن رجل يقال له: سعيد، عن سعيد
بن جُبَير، عن ابن عباس في قوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ } قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا
والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف (7) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث المسعودي، عن أبي سعد -وهو سعيد بن المرزبان
البقّال-عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره بنحوه، والله أعلم.
وقد رواه أبو القاسمُ الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن عيسى بن يونس الرَمْلِي، عن
أيوب ابن سُوَيد، عن المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن
عباس: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال: من تبعه كان له
رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم من
الخسف والقذف (8) .
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من ت، أ.
(3) المعجم الكبير (2/123).
(4) زيادة من ت، أ، والمسند.
(5) زيادة من ت، أ، والمسند.
(6) المسند (5/437) وسنن أبي داود برقم (4659).
(7) تفسير الطبري (17/83).
(8) المعجم الكبير (12/23) .
(5/387)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا
تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا
تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) } .
يقول تعالى آمرًا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقول للمشركين: { إِنَّمَا
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
أي: متبعون على ذلك، مستسلمون منقادون (1) له.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: تركوا ما دعوتهم إليه، { فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى
سَوَاءٍ } أي: أعلمتكم أني حَرْب لكم، كما أنكم حَرْبٌ لي، بريء منكم كما أنكم
بُرآء مني، كقوله: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس:
41]. وقال { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلَى سَوَاءٍ } [الانفال: 58]: ليكن (2) علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء،
وهكذا هاهنا، { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي: أعلمتكم
ببراءتي منكم، وبراءتكم مني؛ لعلمي بذلك.
وقوله: { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي: هو واقع لا
محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ
الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي: إن الله يعلم الغيب جميعَه، ويعلم ما
يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما
العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم على ذلك، على القليل والجليل.
وقوله: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي:
وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك (3) عنكم فتنة لكم، ومتاع إلى أجل مسمى (4) . وحكاه
عون، عن ابن عباس، والله أعلم.
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.
قال قتادة: كان الأنبياء، عليهم السلام، يقولون: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف: 89]،
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.
وعن مالك، عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال: {
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } .
وقوله: { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي: على ما
يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان
عليكم في ذلك (5) .
__________
(1) في ت: "متقاربين".
(2) في ت: "لكن".
(3) في أ: "هذا".
(4) تفسير الطبري (17/84).
(5) وقع في ت: "آخر تفسير "سورة الأنبياء" عليهم السلام، ولله
الحمد والمنة، عفا الله لمن نظر فيه ولكاتبه وللمسلمين أجمعين".
تفسير القرطبي
الآيات:
101 - 103 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ
خَالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي الجنة
{أُولَئِكَ عَنْهَا} أي عن النار. {مُبْعَدُونَ} فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا
قال بعض أهل العلم: “إن” ههنا بمعنى “إلا” وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن
حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "إن عثمان منهم".
قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس
الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: {لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: {وَإِنْ
مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]
وقوله: {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم
أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي:
(11/345)
على
الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس
أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ
خَالِدُونَ} أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال {وَلَكُمْ فِيهَا
مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31].
قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وقرأ أبو جعفر وابن محيصن
{لا يُحْزُنُهُمُ} بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال
اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم
القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال
ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين
الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه
وسلم: "ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر
رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم
يشغله عن طاعة ربه". وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له،
فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته،
فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر” سمعت ذلك
من رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم
الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن
عباس {هَذَا يَوْمُكُمُ} أي ويقولون لهم؛ فحذف. {الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فيه
الكرامة.
الآية: 104 {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا
بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح
والأعرج والزهري {تُطْوَى} بتاء مضمومة {السَّمَاء} رفعا على ما لم يسم فاعله.
مجاهد {يَطوِي}
(11/346)
على
معنى يطوي الله السماء. الباقون {نَطْوِي} بنون العظمة. وانتصاب {يوم} على البدل
من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون
منصوبا بـ “نعيد” من قول {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. أو بقول:
{لا يَحْزُنُهُمُ} أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو
على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ} قال ابن عباس ومجاهد:
أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى “على”. وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر
والسدي: “السّجل” ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء
الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس
واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من
السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا
ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا.
وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير
{كَطَيّ السُّجُلِّ} بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة {كَطَيّ
السَّجْل} بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء
الله تعالى. والتمام عند قوله: {لِلْكتَابِ} . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين :
أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو
ويطمس رسومها ويكدر نجومها.
(11/347)
قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 1 - 2] {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11]. {لِلْكِتَابَ} وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: {لِلْكُتُبِ} جمعا ثم استأنف الكلام فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ – {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام" وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب “التذكرة” مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وقوله عز وجل: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} {وَعْداً} نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا {عَلَيْنَا} إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} قال الزجاج: معنى {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي ما وعدناكم وهو كما قال: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل: 18]. وقيل: {كَانَ} للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.
(11/348)
الآيتان:
105 - 106 {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز
أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير:
{الزَّبُورِ} التوراة والإنجيل والقرآن. {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الذي في السماء
{أَنَّ الْأَرْضَ} أرض الجنة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} رواه سفيان عن
الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: {الزَّبُورِ} زبور داود، و {الذِّكْرِ} توراة
موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد {الزَّبُورِ} كتب الأنبياء عليهم السلام، و
{الذِّكْرِ} أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: {الزَّبُورِ}
الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و {الذِّكْرِ} التوراة المنزلة
على موسى. وقرأ حمزة {فِي الزَّبُورِ} بضم الزاي جمع زبر {أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما
قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن
عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى:
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ} [الزمر: 74] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض
الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك
بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}
[الأعراف: 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله
عليه وسلم. وقرأ حمزة {عِبَادِي الصَّالِحُونَ} بتسكين الياء. {إِنَّ فِي هَذَا}
أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن {لَبَلاغاً
لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال
ابن عباس رضي الله عنهما: {عَابِدِينَ} مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال
القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو
بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة
محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو
القول الأول بعينه.
(11/349)
الآيات:
107 - 109 {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، قُلْ إِنَّمَا
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ،
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به
وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد:
أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}
فلا يجوز الإشراك به. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي منقادون لتوحيد الله
تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي
انتهوا.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي إن أعرضوا عن الإسلام {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ
عَلَى سَوَاءٍ} أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}
[الأنفال: 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد
ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء
في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. {وَإِنْ أَدْرِي} {إِنْ} نافيه
بمعنى {مَا} أي وما أدري. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني أجل يوم
القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم
بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.
الآيات: 110 - 112 {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا
تَكْتُمُونَ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ،
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا
تَصِفُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا
تَكْتُمُونَ} أي من الشرك وهو المجازي عليه. {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} أي لعل
الإمهال {فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي اختبار ليرى كيف صنيعكم
(11/350)
وهو
أعلم. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله
عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية
بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون ذلك. فأنزل الله تعالى {وَإِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ
لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.
قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله
عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء
المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: {رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] فأمر النبي صلى
الله عليه وسلم أن يقول: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} فكان إذا لقي العدو يقول وهو
يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي اقض به. وقال
أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و
{رَبِّ} في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن {قُلْ
رَبُّ احْكمْ بِالحَقَّ} بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز
عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب
{قَالَ رَبِّي أحْكَمُ بِالحَقَّ} بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال
محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري {قُلْ رَبي أحْكَمَ} على معنى أحكم
الأمور بالحق. {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي
تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي {عَلَى مَا يَصِفُوْنَ} بالياء على
الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب. والله أعلم.
تفسير الدر المنثور
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
أخرج
الْفرْيَابِيّ وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ
وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو دَاوُد فِي ناسخه وَالْحَاكِم وَصَححهُ من طرق عَن ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لما نزلت {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون
الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} قَالَ الْمُشْركُونَ: فالملائكة
وَعِيسَى وعزير يعْبدُونَ من دون الله
فَنزلت {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} عِيسَى
وعزير وَالْمَلَائِكَة
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه والضياء فِي المختارة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ عبد الله بن الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: تزْعم أَن الله أنزل عَلَيْك هَذِه الْآيَة {إِنَّكُم
وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} قَالَ ابْن
الزِّبَعْرَى: قد عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمَلَائِكَة وعزير وَعِيسَى ابْن
مَرْيَم كل هَؤُلَاءِ فِي النَّار مَعَ آلِهَتنَا فَنزلت (وَلما ضرب ابْن مَرْيَم
مثلا إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون) وَقَالُوا أآلهتنا خير أم هُوَ مَا ضربوه لَك
إِلَّا جدلاً بل هم قوم خصمون) (الزخرف آيَة 57) ثمَّ نزلت {إِن الَّذين سبقت
لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
وَأخرج أَبُو دَاوُد فِي ناسخه وَابْن الْمُنْذر وَابْن مرْدَوَيْه
وَالطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لما
نزلت {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا
وَارِدُونَ} شقّ ذَلِك على أهل مَكَّة
وَقَالُوا: شتم الْآلهَة
فَقَالَ ابْن الزِّبَعْرَى: أَنا أخصم لكم مُحَمَّدًا ادعوهُ لي فدعي
فَقَالَ: يَا مُحَمَّد هَذَا شَيْء لِآلِهَتِنَا خَاصَّة أم لكل عبد من دون الله
قَالَ: بل لكل من عبد من دون الله
فَقَالَ ابْن الزِّبَعْرَى: خصمت
وَرب هَذِه البنية يَعْنِي الْكَعْبَة أَلَسْت تزْعم يَا مُحَمَّد أَن عِيسَى عبد
صَالح وَأَن عُزَيْرًا عبد صَالح وَأَن الْمَلَائِكَة صَالِحُونَ
(5/679)
قَالَ:
بلَى
قَالَ: فَهَذِهِ النَّصَارَى تعبد عِيسَى
وَهَذِه الْيَهُود
تعبد عُزَيْرًا وَهَذِه بَنو مليح تعبد الْمَلَائِكَة فَضَجَّ أهل مَكَّة وفرحوا
فَنزلت {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} عُزَيْر وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَة
{أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَنزلت (وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا إِذا قَوْمك
مِنْهُ يصدون) (الزخرف آيَة 57) قَالَ: هُوَ الصَّحِيح
وَأخرج الْبَزَّار عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: نزلت هَذِه
الْآيَة {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا
وَارِدُونَ} ثمَّ نسختها {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا
مبعدون} يَعْنِي عِيسَى وَمن كَانَ مَعَه
وَأخرج ابْن جرير عَن الضَّحَّاك {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله} يَعْنِي
الْآلهَة وَمن يَعْبُدهَا
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {حصب
جَهَنَّم} قَالَ: وقودها
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا {حصب
جَهَنَّم} قَالَ: شجر جَهَنَّم
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
فِي قَوْله: {حصب جَهَنَّم} قَالَ: حطب جَهَنَّم بالزنجية
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {حصب
جَهَنَّم} قَالَ: حطب جَهَنَّم
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ مثله
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة
رَضِي الله عَنهُ {حصب جَهَنَّم} قَالَ: يقذفون فِيهَا
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {حصب جَهَنَّم}
قَالَ: حطبها
قَالَ بعض الْقُرَّاء حطب جَهَنَّم من قِرَاءَة عَائِشَة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك {حصب جَهَنَّم} يَقُول: إِن
جَهَنَّم تحصب بهم وَهُوَ الرَّمْي: يَقُول: يَرْمِي بهم فِيهَا
وَأخرج ابْن جرير عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: حضب جَهَنَّم بالضاد
(5/680)
وَأخرج
عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي صفة النَّار
وَالطَّبَرَانِيّ الْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: إِذا بَقِي فِي النَّار من يخلد فِيهَا جعلُوا فِي توابيت من حَدِيد
النَّار فِيهَا مسامير من حَدِيد نَار ثمَّ جعلت تِلْكَ التوابيت فِي توابيت من
حَدِيد ثمَّ قذفوا فِي أَسف الْجَحِيم فَمَا يرى أحدهم أَنه يعذب فِي النَّار
غَيره
ثمَّ قَرَأَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ {لَهُم فِيهَا زفير وهم فِيهَا لَا
يسمعُونَ}
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} قَالَ: عِيسَى
وَالْمَلَائِكَة وعزير
وَأخرج ابْن جرير عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {أُولَئِكَ عَنْهَا
مبعدون} قَالَ: عِيسَى وعزير وَالْمَلَائِكَة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أصبغ عَن عَليّ فِي قَوْله: {إِن الَّذين سبقت
لَهُم منا الْحسنى} الْآيَة
قَالَ: كل شَيْء يعبد من دون الله فِي النَّار إِلَّا الشَّمْس وَالْقَمَر
وَعِيسَى
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا {إِن الَّذين سبقت
لَهُم منا الْحسنى} قَالَ: أُولَئِكَ أَوْلِيَاء الله يَمرونَ على الصِّرَاط مرا
هُوَ أسْرع من الْبَرْق فَلَا تصيبهم و {يسمعُونَ حَسِيسهَا} وَيبقى الْكفَّار
فِيهَا حَبِيسًا
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن عدي وَابْن مرْدَوَيْه عَن النُّعْمَان بن بشير:
أَن عليا قَرَأَ {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
فَقَالَ: أَنا مِنْهُم وَعمر مِنْهُم وَعُثْمَان مِنْهُم وَالزُّبَيْر مِنْهُم
وَطَلْحَة مِنْهُم وَسعد وَعبد الرَّحْمَن مِنْهُم
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن أبي عُثْمَان
النَّهْدِيّ فِي قَوْله: {لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} قَالَ: حيات على الصِّرَاط
تلسعهم فَإِذا لسعتهم قَالُوا: حس
حس
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي قَوْله: {لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} قَالَ: حيات على الصِّرَاط تَقول: حس حس
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد {إِن الَّذين
سبقت لَهُم منا الْحسنى} قَالَ: السَّعَادَة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُحَمَّد بن حَاطِب قَالَ:
(5/681)
سُئِلَ
عَليّ عَن هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} قَالَ: هُوَ
عُثْمَان وَأَصْحَابه
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {لَا يسمعُونَ
حَسِيسهَا} يَقُول: لَا يسمع أهل الْجنَّة حسيس أهل النَّار إِذا نزلُوا
مَنَازِلهمْ من الْجنَّة
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن سُفْيَان {لَا
يسمعُونَ حَسِيسهَا} قَالَ: صَوتهَا
وَأخرج ابْن جرير عَن عِكْرِمَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ قَالَا: قَالَ فِي سُورَة
الْأَنْبِيَاء {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا
وَارِدُونَ} إِلَى قَوْله: {وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ} ثمَّ اسْتثْنى فَقَالَ: {إِن
الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} فقد عبدت الْمَلَائِكَة
من دون الله وعزير وَعِيسَى
وَأخرج ابْن جرير عَن الضَّحَّاك قَالَ: يَقُول نَاس من النَّاس: إِن الله قَالَ:
{إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} يَعْنِي من
النَّاس أَجْمَعِينَ وَلَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا يَعْنِي من يعبد الله تَعَالَى
وَهُوَ لله مُطِيع مثل عِيسَى وَأمه وعزير وَالْمَلَائِكَة
وَاسْتثنى الله تَعَالَى هَؤُلَاءِ من الْآلهَة المعبودة الَّتِي هِيَ مَعَ من
يَعْبُدهَا فِي النَّار
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي صفة النَّار عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {لَا
يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر} قَالَ: أذا أطبقت جَهَنَّم على أَهلهَا
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {لَا يحزنهم
الْفَزع الْأَكْبَر} يَعْنِي النفخة الْآخِرَة
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن
جُبَير فِي قَوْله: {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر} قَالَ: النَّار إِذا أطبقت
على أَهلهَا
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير عَن الْحسن {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر}
قَالَ: أذا أطبقت النَّار عَلَيْهِم يَعْنِي على الْكفَّار
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر}
قَالَ: انصراف العَبْد حِين يُؤمر بِهِ إِلَى النَّار
وَأخرج ابْن جرير فِي قَوْله: {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر} قَالَ: حِين تطبق
جَهَنَّم
وَقَالَ: حِين ذبح الْمَوْت
(5/682)
وَأخرج
الْبَزَّار وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن للمهاجرين مَنَابِر من ذهب يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا
يَوْم الْقِيَامَة قد أمنُوا من الْفَزع
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن أبي أُمَامَة أَن رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: بشر المدلجين فِي الظُّلم بمنابر من نور يَوْم الْقِيَامَة يفزع النَّاس
وَلَا يفزعون
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: سَمِعت رَسُول
الله صلى عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: المتحابون فِي الله فِي ظلّ الله يَوْم لَا ظلّ
إِلَّا ظله على مَنَابِر من نور يفزع النَّاس وَلَا يفزعون
وَأخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: ثَلَاثَة على كُثْبَان الْمسك لَا يهولهم الْفَزع الْأَكْبَر
يَوْم الْقِيَامَة: رجل أمَّ قوما وهم بِهِ راضون وَرجل كَانَ يُؤذن فِي كل يَوْم
وَلَيْلَة وَعبد أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {وتتلقاهم الْمَلَائِكَة} قَالَ:
تتلقاهم الْمَلَائِكَة الَّذين كَانُوا قرناءهم فِي الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة
فَيَقُولُونَ: نَحن أولياؤكم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة لَا
نفارقكم حَتَّى تدْخلُوا الْجنَّة
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد فِي قَوْله: {هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون}
قَالَ: هَذَا قبل أَن يدخلُوا الْجنَّة
وَأخرج عبد بن حميد عَن عَليّ فِي قَوْله: {كطي السّجل} قَالَ: ملك
وَأخرج عبد بن حميد عَن عَطِيَّة قَالَ: السّجل اسْم ملك
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عمر فِي قَوْله: {يَوْم نطوي
السَّمَاء كطي السّجل} قَالَ: السّجل ملك فَإِذا صد بالاستغفار قَالَ: اكتبوها
نورا
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن عَسَاكِر عَن أبي جَعْفَر الباقر قَالَ: السّجل ملك
وَكَانَ هاروت وماروت من أعوانه وَكَانَ لَهُ كل يَوْم ثَلَاث لمحات ينظرهن فِي أم
الْكتاب فَنظر نظرة لم تكن لَهُ فأبصر فِيهَا خلق آدم وَمَا فِيهِ من الْأُمُور
فأسّر ذَلِك إِلَى هاروت وماروت فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: (إِنِّي جَاعل فِي
الأَرْض خَليفَة قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا) (الْبَقَرَة آيَة 30)
قَالَ: ذَلِك استطالة على الْمَلَائِكَة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ قَالَ: السّجل ملك مُوكل بالصحف
فَإِذا مَاتَ دفع كِتَابه إِلَى السّجل فطواه وَرَفعه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
(5/683)
وَأخرج
عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد فِي الْآيَة قَالَ: السّجل
الصَّحِيفَة
وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي
حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مَنْدَه فِي الْمعرفَة وَابْن مرْدَوَيْه
وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: السّجل كَاتب
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن عدي وَابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ
لرَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسلم كَاتب يُسمى السّجل وَهُوَ قَوْله: {يَوْم نطوي
السَّمَاء كطي السّجل للكتب}
وَأخرج النَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن
عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: السّجل هُوَ الرجل زَاد ابْن مرْدَوَيْه بلغَة
الْحَبَشَة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {كطي السّجل
للكتب} قَالَ: كطي الصَّحِيفَة على الْكتاب
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {كَمَا بدأنا أوّل خلق نعيده}
يَقُول: نهلك كل شَيْء كَمَا كَانَ أوّل مرّة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن
مُجَاهِد فِي قَوْله: {كَمَا بدأنا أوّل خلق نعيده} قَالَ: عُرَاة حُفَاة غرلًا
وَأخرج ابْن جرير عَن عَائِشَة قَالَت: دخل عليَّ رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسلم
وَعِنْدِي عَجُوز من بني عَامر فَقَالَ: من هَذِه الْعَجُوز يَا عَائِشَة فَقلت:
إِحْدَى خَالَاتِي
فَقَالَت: ادْع الله أَن يدخلني الْجنَّة
فَقَالَ: إِن الْجنَّة لَا يدخلهَا الْعَجُوز
فَأخذ الْعَجُوز مَا أَخذهَا فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى ينشهنه خلقا غير خَلقهنَّ
ثمَّ قَالَ: تحشرون حُفَاة عُرَاة غلفًا
فَقَالَت: حاشا لله من ذَلِك
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بلَى
إِن الله تَعَالَى قَالَ: {كَمَا بدأنا أوّل خلق نعيده وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا
فاعلين} فَأول من يكسى إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ قَالَ: يَبْعَثهُم الله يَوْم الْقِيَامَة على
قامة آدم وجسمه وَلسَانه السريانية عُرَاة حُفَاة غرلًا كَمَا ولدُوا
الْآيَة 105 - 108
(5/684)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
أخرج
ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد
الذّكر} الْقُرْآن {أَن الأَرْض} قَالَ: أَرض الْجنَّة
وَأخرج ابْن جرير عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من
بعد الذّكر} قَالَ: يَعْنِي بِالذكر كتبنَا فِي الْقُرْآن من بعد التَّوْرَاة و
{الأَرْض} أَرض الْجنَّة
وَأخرج ابْن جرير عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد
الذّكر} يَعْنِي بِالذكر التَّوْرَاة وَيَعْنِي بالزبور الْكتب من بعد التَّوْرَاة
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور} قَالَ: الْكتب
{من بعد الذّكر} قَالَ: التَّوْرَاة
وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة قَالَ:
الزبُور التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَالذكر الأَصْل الَّذِي نسخت
مِنْهُ هَذِه الْكتب الَّذِي فِي السَّمَاء وَالْأَرْض أَرض الْجنَّة
وَأخرج هناد وَعبد بن حميد وَابْن جريرعن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {وَلَقَد
كتبنَا فِي الزبُور} قَالَ: الزبُور التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن {من
بعد الذّكر} قَالَ: الذّكر الَّذِي فِي السَّمَاء
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُجَاهِد فِي الْآيَة قَالَ: الزبُور الْكتب
وَالذكر أم الْكتاب عِنْد الله وَالْأَرْض الْجنَّة
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد فِي الْآيَة قَالَ: الزبُور الْكتب الَّتِي أنزلت
على الْأَنْبِيَاء وَالذكر أم الْكتاب الَّذِي يكْتب فِيهِ الْأَشْيَاء قبل ذَلِك
وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله:
{أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} قَالَ: أَرض الْجنَّة
(5/685)
وَأخرج
ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله:
{وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور} الْآيَة
قَالَ: أخبر الله سُبْحَانَهُ فِي التَّوْرَاة وَالزَّبُور وسابق علمه قبل أَن
تكون السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن يُورث أمة مُحَمَّد الأَرْض ويدخلهم الْجنَّة وهم
{الصالحون} وَفِي قَوْله: {لبلاغاً لقوم عابدين} قَالَ: عَالمين
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَلَقَد
كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} قَالَ:
أَرض الْجنَّة يَرِثهَا الَّذين يصلونَ الصَّلَوَات الْخمس فِي الْجَمَاعَات
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي
حَاتِم وَالْحَاكِم عَن الشّعبِيّ فِي قَوْله: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد
الذّكر} قَالَ: فِي زبور دَاوُد {من بعد} ذكر مُوسَى التَّوْرَاة {أَن الأَرْض
يَرِثهَا} قَالَ: الْجنَّة
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة مثله
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي الْآيَة قَالَ: كتب الله فِي زبور دَاوُد
بعد التَّوْرَاة
وَأخرج ابْن جرير عَن أبي الْعَالِيَة فِي قَوْله: {أَن الأَرْض يَرِثهَا} قَالَ:
الْجنَّة
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد فِي قَوْله: {أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي
الصالحون} قَالَ: الْجنَّة وَقَرَأَ (وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده
وأورثنا الأَرْض نتبوّأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء) (الزمر آيَة 74) قَالَ: فالجنة
مبتدؤها فِي الأَرْض ثمَّ تذْهب درجاً علوّا
وَالنَّار مبتدؤها فِي الأَرْض وَبَينهمَا حجاب سور مَا يدْرِي أحد مَا ذَاك
السُّور
وَقَرَأَ (بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب) (الْحَدِيد
آيَة 13) قَالَ: ودرجها تذْهب سفالاً فِي الأَرْض ودرج الْجنَّة تذْهب علوّاً فِي
السَّمَاء
وَأخرج ابْن جرير عَن صَفْوَان قَالَ: سَأَلت عَامر بن عبد الله أَبَا الْيَمَان
هَل لأنفس الْمُؤمنِينَ مُجْتَمع فَقَالَ: يَقُول الله: {وَلَقَد كتبنَا فِي
الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} قَالَ: هِيَ الأَرْض
الَّتِي تجمع إِلَيْهَا أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ حَتَّى يكون الْبَعْث
(5/686)
وَأخرج
البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَابْن أبي حَاتِم عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ الله تَعَالَى: {أَن الأَرْض يَرِثهَا
عبَادي الصالحون} فَنحْن الصالحون
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن جريج فِي قَوْله: {إِن فِي هَذَا
لبلاغاً} قَالَ: كل ذَلِك يُقَال: إِن فِي هَذِه السُّورَة وَفِي هَذَا الْقُرْآن
لبلاغاً
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد فِي قَوْله: {أَن فِي هَذَا لبلاغاً لقوم عابدين}
قَالَ: إِن فِي هَذَا لمَنْفَعَة وعلماً {لقوم عابدين} ذَلِك الْبَلَاغ
وَأخرج ابْن جرير عَن كَعْب الْأَحْبَار {إِن فِي هَذَا لبلاغاً لقوم عابدين}
قَالَ: لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخرج ابْن جرير عَن كَعْب فِي قَوْله: {إِن فِي هَذَا لبلاغاً لقوم عابدين}
قَالَ: صَوْم شهر رَمَضَان والصلوات الْخمس
وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر عَن أبي هُرَيْرَة {إِن فِي هَذَا
لبلاغاً لقوم عابدين} قَالَ: فِي الصَّلَوَات الْخمس شغلاً لِلْعِبَادَةِ
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَرَأَ هَذِه الْآيَة {لبلاغاً لقوم عابدين} قَالَ: هِيَ الصَّلَوَات الْخمس فِي
الْمَسْجِد الْحَرَام جمَاعَة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف عَن مُحَمَّد بن كَعْب {أَن فِي هَذَا
لبلاغاً لقوم عابدين} قَالَ: الصَّلَوَات الْخمس
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ {لقوم عابدين} قَالَ: الَّذين
يُحَافِظُونَ على الصَّلَوَات الْخمس فِي الْجَمَاعَة
وَأخرج عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ {لقوم عابدين} قَالَ: عاملين
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالطَّبَرَانِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي
قَوْله: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} قَالَ: من آمن تمت لَهُ
الرَّحْمَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن لم يُؤمن عوفي مِمَّا كَانَ يُصِيب
الْأُمَم فِي عَاجل الدُّنْيَا من الْعَذَاب من المسخ والخسف وَالْقَذْف
وَأخرج مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قيل يَا رَسُول الله ادْع
على الْمُشْركين
قَالَ: إِنِّي لم أبْعث لعاناً وَإِنَّمَا بعثت رَحْمَة
(5/687)
وَأخرج
أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله بَعَثَنِي رَحْمَة للْعَالمين
وَهدى لِلْمُتقين
وَأخرج أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ عَن سلمَان: أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا رجل من أمتِي سببته سبة فِي غَضَبي أَو لعنته لعنة
فَإِنَّمَا أَنا رجل من ولد آدم أغضب كَمَا تغضبون وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَة
للْعَالمين وأجعلها عَلَيْهِ صَلَاة يَوْم الْقِيَامَة
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا أَنا رَحْمَة مهداة
وَأخرج عبد بن حميد عَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قيل يَا رَسُول الله
أَلا تلعن قُريْشًا بِمَا أَتَوا إِلَيْك فَقَالَ: لم أبْعث لعاناً إِنَّمَا بعثت
رَحْمَة يَقُول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين}
الْآيَة 109 - 110
(5/688)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
أخرج
ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {على سَوَاء} قَالَ:
على مهل
الْآيَة 111 - 112
(5/688)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
أخرج
ابْن أبي شيبَة وَابْن عَسَاكِر عَن الرّبيع بن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما
أسرِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله {وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه
فتْنَة لكم ومتاع إِلَى حِين} يَقُول: هَذَا الْملك
وَأخرج ابْن سعد وَابْن أبي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن الشّعبِيّ
قَالَ: لما سلم الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة
قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: قُم فَتكلم فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن
هَذَا الْأَمر تركته لمعاوية
إِرَادَة إصْلَاح الْمُسلمين وحقن دِمَائِهِمْ {وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه فتْنَة لكم
ومتاع إِلَى حِين} ثمَّ اسْتغْفر وَنزل
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: خطب الْحسن رَضِي الله عَنهُ
فَقَالَ: أما بعد:
(5/688)
أَيهَا
النَّاس إِن الله هدَاكُمْ بأوّلنا وحقن دمائكم بآخرنا وَإِن لهَذَا الْأَمر
مُدَّة وَالدُّنْيَا دوَل وَإِن الله تَعَالَى قَالَ لنَبيه: {وَإِن أَدْرِي
أَقَرِيب أم بعيد مَا توعدون} إِلَى قَوْله: {ومتاع إِلَى حِين} الدَّهْر كُله
وَقَوله: (هَل أَتَى على الإِنسان حِين من الدَّهْر) (الْإِنْسَان آيَة 1)
الدَّهْر: الدَّهْر كُله
وَقَوله: (تؤتي أكلهَا كل حِين بِإِذن رَبهَا) (إِبْرَاهِيم آيَة 25) قَالَ: هِيَ
النَّخْلَة من حِين تثمر إِلَى أَن تصرم
وَقَوله: (ليسجننه حَتَّى حِين) (يُوسُف آيَة 35)
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس {وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه
فتْنَة لكم} يَقُول: مَا أخْبركُم بِهِ من الْعَذَاب والساعة أَن يُؤَخر عَنْكُم
لمدتكم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {قَالَ رب احكم
بِالْحَقِّ} قَالَ: لَا يحكم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن إِنَّمَا يستعجل بذلك
فِي الدُّنْيَا يسْأَل ربه على قومه
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن قَتَادَة:
أَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا شهد قتالاً قَالَ: {رب احكم
بِالْحَقِّ}
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة قَالَ: كَانَت الْأَنْبِيَاء تَقول: (رَبنَا
افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين) (الْأَعْرَاف
آيَة 89) فَأمر الله نبيه أَن يَقُول: {رب احكم بِالْحَقِّ} أَي اقْضِ بِالْحَقِّ
وَكَانَ رَسُول الله - صلى عَلَيْهِ وَسلم - يعلم أَنه على الْحق وَأَن عدوّه على
الْبَاطِل وَكَانَ إِذا لَقِي العدوّ قَالَ: {رب احكم بِالْحَقِّ} وَالله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق