القران كاملا مشاري

حمل المصحف بكل صيغه

 حمل المصحف

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 يناير 2023

تفسير الأيات من160 الي16.3.من سورة الأعراف

 

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

الأعراف - تفسير ابن كثير

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) }

تقدم تفسير هذا كله في سورة "البقرة"، وهي مدنية، وهذا السياق مكي، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة (1)

__________

(1) سورة البقرة الآية: 60 .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) }

هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65] يقول [الله] (1) تعالى، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: { وَاسْأَلْهُمْ } أي: واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم. وهذه القرية هي "أيلة" وهي على شاطئ بحر القلزم.

قال محمد بن إسحاق: عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } قال: هي قرية يقال لها "أيلة" بين مدين والطور. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.

وقال عبد الله بن كثير القارئ، سمعنا أنها أيلة. وقيل: هي مدين، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها. "مقنا" بين مدين وعَيدُوني.

وقوله: { إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } أي: يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك. { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } قال الضحاك، عن ابن عباس: أي ظاهرة على الماء.

وقال العوفي، عن ابن عباس: { شُرَّعًا } من كل مكان.

قال ابن جرير: وقوله: { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } أي: نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه (2) عنهم في اليوم المحلل لهم صيده { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } نختبرهم { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.

وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام.

وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت (3) اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (4)

وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا (5) ذكره الخطيب في تاريخه (6) ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا.

__________

(1) زيادة من م.

(2) في ك، م، أ: "إخفائها".

(3) في أ: "ارتكب".

(4) جزء في الخلع وإبطال الحيل لابن بطة (42).

(5) في م: "هكذا".

(6) في تاريخ بغداد (5/98، 99) أحمد بن محمد بن مسلم البغدادي ولكن لم يتكلم عليه الخطيب ولم يوثق.

الأعراف - تفسير القرطبي

الآية: 160 {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

الآية: 161 {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

الآية: 162 {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}

قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} عدد نعمه على بني إسرائيل، وجعلهم أسباطا ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم؛ فيخف الأمر على موسى. وفي التنزيل: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] وقد تقدم. وقوله: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} والسبط مذكر لأن بعده {أُمَماً} فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو قال: اثني عشر لتذكير السبط جاز؛ عن الفراء. وقيل: أراد بالأسباط القبائل والفرق؛ فلذلك أنث العدد. قال الشاعر:

وإن قريشا كلها عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر

فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة؛ فلذلك أنثها. والبطن مذكر؛ كما أن الأسباط جمع مذكر. الزجاج: المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة. {أَسْبَاطاً} بدل من اثنتي عشرة {أُمَماً} نعت للأسباط. وروى المفضل عن عاصم {وقَطَعناهم} مخففا.{{أَسْبَاطاً}}الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل عليهما السلام. والأسباط مأخوذ من السبط وهو شجر تعلفه الإبل. وقد مضى في "البقرة" مستوفى.وروى معمر عن همام بن منبه

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} قالوا: حبة في شعرة. وقيل لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} فدخلوا متوركين على أستاههم. {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} مرفوع؛ لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب. و{مَا} بمعنى المصدر، أي بظلمهم. وقد مضى في "البقرة" ما في هذه الآية من المعاني والأحكام. والحمد لله.

الأعراف - تفسير الدر المنثور

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رب أجد أمة انجيلهم فِي قُلُوبهم قَالَ: تِلْكَ أمة تكون بعْدك أمة أَحْمد

قَالَ: يَا رب أجد أمة يصلونَ الْخمس تكون كَفَّارَة لما بَينهُنَّ قَالَ: تِلْكَ أمة تكون بعْدك أمة أَحْمد

قَالَ: يَا رب أجد أمة يُعْطون صدقَات أَمْوَالهم ثمَّ ترجع فيهم فَيَأْكُلُونَ قَالَ: تِلْكَ أمة تكون بعْدك أمة أَحْمد

قَالَ: يَا رب اجْعَلنِي من أمة أَحْمد

فَأنْزل الله كَهَيئَةِ المرضية لمُوسَى {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ}

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن أبي ليلى الْكِنْدِيّ قَالَ: قَرَأَ عبد الله بن مَسْعُود {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} فَقَالَ رجل: مَا أحب إِنِّي مِنْهُم

فَقَالَ عبد الله: لم مَا يزِيد صالحوكم على أَن يَكُونُوا مثلهم وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج فِي قَوْله {وَمن قوم مُوسَى أمة} الْآيَة

قَالَ: بَلغنِي أَن بني إِسْرَائِيل لما قتلوا أنبياءهم وَكَفرُوا وَكَانُوا اثْنَي عشر سبطاً تَبرأ سبط مِنْهُم مِمَّا صَنَعُوا وَاعْتَذَرُوا وسألوا الله أَن يفرق بَينهم وَبينهمْ فَفتح الله لَهُم نفقاً فِي الأَرْض فَسَارُوا فِيهِ حَتَّى خَرجُوا من وَرَاء الصين فهم هُنَالك حنفَاء مستقلين يستقبلون قبلتنا

قَالَ ابْن جريج: قَالَ ابْن عَبَّاس: فَذَلِك قَوْله {وَقُلْنَا من بعده لبني إِسْرَائِيل اسكنوا الأَرْض فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة جِئْنَا بكم لفيفاً} الإِسراء الْآيَة 104 ووعد الْآخِرَة عِيسَى بن مَرْيَم

قَالَ ابْن عَبَّاس: سَارُوا فِي السرب سنة وَنصفا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: افْتَرَقت بَنو إِسْرَائِيل بعد مُوسَى إِحْدَى وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا فرقة وافترقت النَّصَارَى بعد عِيسَى على اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا فرقة وتفترق هَذِه الْأمة على ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا فرقة فَأَما الْيَهُود فَإِن الله يَقُول {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} وَأما النَّصَارَى فَإِن الله يَقُول {مِنْهُم أمة مقتصدة} الْمَائِدَة الْآيَة 66 فَهَذِهِ الَّتِي تنجو وَأما نَحن فَيَقُول {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} الْأَعْرَاف الْآيَة 181 فَهَذِهِ الَّتِي تنجو من هَذِه الْأمة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن مقَاتل قَالَ: إِن مِمَّا فضل الله بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عاين لَيْلَة الْمِعْرَاج قوم مُوسَى الَّذين من وَرَاء الصين وَذَلِكَ أَن بني إِسْرَائِيل حِين عمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَقتلُوا الَّذين يأمرون بِالْقِسْطِ من النَّاس دعوا رَبهم وهم بِالْأَرْضِ المقدسة فَقَالُوا: اللهمَّ أخرجنَا من بَين أظهرهم فَاسْتَجَاب لَهُم فَجعل لَهُم سرباً فِي الأَرْض فَدَخَلُوا فِيهِ وَجعل مَعَهم نَهرا يجْرِي وَجعل لَهُم مصباحاً من نور بَين أَيْديهم فَسَارُوا فِيهِ سنة وَنصفا وَذَلِكَ من بَيت الْمُقَدّس إِلَى مجلسهم الَّذِي هم فِيهِ فَأخْرجهُمْ الله إِلَى أَرض تَجْتَمِع فِيهَا الْهَوَام والبهائم وَالسِّبَاع مختلطين بهَا لَيْسَ فِيهَا ذنُوب وَلَا معاص فَأَتَاهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة وَمَعَهُ جِبْرِيل فآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ وعلَّمهم الصَّلَاة وَقَالُوا: إِن مُوسَى قد بشَّرهم بِهِ

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} قَالَ: بَيْنكُم وَبينهمْ نهر من سهل يَعْنِي من رمل يجْرِي

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن صَفْوَان بن عَمْرو قَالَ: هم الَّذين قَالَ الله {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي سبطان من أَسْبَاط بني إِسْرَائِيل يَوْم الملحمة الْعُظْمَى ينْصرُونَ الإِسلام وَأَهله

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الشّعبِيّ قَالَ: إِن لله عباداً من وَرَاء الأندلس كَمَا بَيْننَا وَبَين الأندلس لَا يرَوْنَ أَن الله عَصَاهُ مَخْلُوق رضراضهم الدّرّ والياقوت وجبالهم الذَّهَب وَالْفِضَّة لَا يزرعون وَلَا يحصدون وَلَا يعْملُونَ عملا لَهُم شجر على أَبْوَابهم لَهَا أوراق عراض هِيَ لبوسهم وَلَهُم شجر على أَبْوَابهم لَهَا ثَمَر فَمِنْهَا يَأْكُلُون

قَوْله تَعَالَى: {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا}

أخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {فانبجست} قَالَ: فانفجرت

وَأخرج الطستي عَن ابْن عَبَّاس أَن نَافِع بن الْأَزْرَق قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْله عزَّ وجلَّ {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} قَالَ: أجْرى الله من الصَّخْرَة اثْنَتَيْ عشرَة عينا لكل عين يشربون مِنْهَا

قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم أما سَمِعت بشر بن أبي حَازِم يَقُول: فاسلبت العينان مني بواكف كَمَا انهل من واهي الكلى المتبجس

- الْآيَة (163 - 166)

الأعراف - تفسير أضواء البيان

المجلد الثاني-سورة الأعراف 

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعراف

قوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} الآية، قال مجاهد، وقتادة، والسدي: {حَرَجٌ} أي شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً، وعلى هذا القول فالآية، كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [2/147]، وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [3/60]، {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [10/94].

والممتري: هو الشاك؛ لأنه مفتعل من المرية وهي الشك، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

والمراد: نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الراجز: "الرجز"

إياك أعني واسمعي يا جارة

وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [76/24]، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/65]، وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الآية [2/120 و145] و [13/37].

ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً من ذلك، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.

وجمهور العلماء: على أن المراد بالحرج في الآية الضيق. أي: لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك؛ لأن تحمل عدواة الكفار، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة"، أخرجه مسلم. والثلغ: الشدخ وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ، وهذا البطش مما

يضيق به الصدر.

ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [11/12] وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [15/97]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [18/6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [26/3].

ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب: الضيق. وذلك معروف في كلامهم، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [24/61]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [22/78]، وقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [6/125]، أي: شديد الضيق، إلى غير ذلك من الآيات، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل: "الكامل"

فخرجت خوف يمينها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج

وقول العرجي: "السريع"

عوجي علينا ربة الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي

والمراد بالإحراج في البيتين: الإدخال في الحرج. بمعنى الضيق كما ذكرنا.

قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، لم يبين هنا المفعول به لقوله: {لِتُنْذِرَ} ، ولكنه بينه في مواضع أُخر كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [19/97]، وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [36/6]، إلى غير ذلك من الآيات. كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر، كقوله {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} الآية [18/2]، وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [92/14]، وقوله: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} الآية[78/40]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [7/3] فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدلّ لذلك قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [19/97]، وقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [50/51]، وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [50/45].

ولا ينافي ما ذكرنا من أن الإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [36/11]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم.

ومن أساليب اللغة العربية: التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء.

وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث: أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين:

أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [74/1، 2]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1].

وهذا الإنذار العام: هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} الآية؛ لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.

والثاني: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}، وقوله هنا: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} اهـ.

والإنذار في اللغة العربية: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.

قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}، خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، بأنه أهلك كثيراً من القرى بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها {بَيَاتاً}، أي: ليلاً، ومنهم من أهلكها و {هُمْ قَائِلُونَ}، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار. يعني: فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [6/10]، وقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [22/45]، وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [28/58]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [47/10]، ثم بين أنه

يريد تهديدهم بذلك بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحى في حالة اللعب، في قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [7/97، 98]، وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [16/45، 46، 47].

قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.

وأوضح هذا المعنى في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [21/11-15].

قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، حدثنا بذلك ابن حميد، حدثنا جرير عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، قال: قلت لعبد الله: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [7/5].

قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ، لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.

وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.

قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [5/109].

وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [28/65].

وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعلمون، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/92، 93].

وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [7/6]، وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [37/24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [55/39].

وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وسنزيده إيضاحاً هنا إن شاء الله تعالى.

اعلم أولاً: أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخص من السؤال المثبت فيها؛ لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة، فإنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، فخصه بكونه عن الذنوب، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، فخصه بذلك أيضاً، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه؛ لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [33/8]، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [5/116]، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الآية [5/119]، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات: المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [37/24،25]، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [52/15]، إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ، بين تعالى في هذه الآية

الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [58/7]، وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [57/4]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [10/61].

تنبيه

في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني، القائلين: إنه تعالى عالم بذاته، لا بصفة قامت بذاته، هي العلم، وهكذا في قولهم: قادر مريد، حي سميع، بصير متكلم، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [7/7]، ونظيره قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية[4/166]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.

قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه، ولا ظلم، فلا يزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [21/47]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الآية [4/40] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من ثقلت موازينهم أفلحوا، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا.

وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار، وذلك في قوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [101/6-11].

وبين أيضاً خسران من خفت موازينة، بقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [23/103، 104]]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} الآية،لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، كقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً َعِنَباً وَقَضْباً َزَيْتُوناً وَنَخْلاً َحَدَائِقَ غُلْباً َفَاكِهَةً وَأَبّا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [80/24-32].

وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [32/27]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} [20/53، 54].

وذكر كثيراً من ذلك في سورة النحل كقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [5] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، قال بعض العلماء: معناه: ما منعك أن تسجد، و "لا" صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى: في سورة "ص" {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية [38/75]، وقد أوضحنا زيادة لفظة "لا" وشواهد ذلك من القرآن، ومن كلام العرب في سورة البلد، في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، ذكر في هذه الآية الكريمة: أن إبليس لعنه الله خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن، فقد زاد في مواضع أخر أوصافاً للنار التي خلقه منها، من ذلك أنها نار السموم، كما في قوله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [15/27]، ومن ذلك أنها خصوص المارج، كما في قوله: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍٍ} [55/15]، والمارج أخص من مطلق النار؛ لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.

وسميت نار السموم؛ لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"، ورواه عنها أيضاً الإمام أحمد.

قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغراً حقيراً ذليلا، متصفاً بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [7/13]، والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} [7/18]، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك؛ وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [40/56].

وبين في مواضع أخر كثيراً من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر، ـ أعاذنا الله والمسلمين منه، ـ فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [7/146]، ومن ذلك أَنَه من أسباب الثواء في النار، كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [38/60]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [37/35]، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [16/23]، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعاذ إلا مما هو شر، كما في قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [40/27]، إلى غير ذلك من

نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.

وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [25/63]، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [28/83] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، وقد قال الشاعر: "الطويل"

تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه ... على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى صفحات الجو وهو وضيع

وقال أبو الطيب المتنبي: "الوافر"

ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام

قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }، لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في "الحجر" و "ص"، مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم؛ لقوله: في سورة "الحجر" و "ص" {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [/80] فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.

وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بني آدم فيه قاله ظناً منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم، وقد بين تعالى في سورة "سبأ" أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} الآية [34/20]، كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} ، بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: أخرج منها في حال كونك مذءوماً مدحوراً، والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ

أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [38/84، 85]، وقوله: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [17/63، 64]، وقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [26/94، 95] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} ، حذر تعالى في هذه الآية الكريمة بني آدم أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم، وصرح في موضع آخر: أنه حذر آدم من مكر إبليس قبل أن يقع فيما وقع فيه، ولم ينجه ذلك التحذير من عدوه، وهو قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [20/117].

قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا فعلوا فاحشة، استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد.

وبين في موضع آخر: أن هذا واقع من جميع الأمم، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [43/23].

ورد الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [2/170]، وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [5/104]، وقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [43/24]، وقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [37/69، 70]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، في هذه الآية الكريمة للعلماء وجهان من التفسير:

الأول: أن معنى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، أي: كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه، فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن

سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، ويدل لهذا الوجه قوله بعده: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [7/30]، وهو ظاهر كما ترى، ومن الآيات الدالة عليه أيضاً قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [64/2]، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} الآية [11/119]، أي: ولذلك الاختلاف إلى شقي، وسعيد خلقهم.

الوجه الثاني: أن معنى قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [7/29]، أي: كما خلقكم أولاً، ولم تكونوا شيئاً، فإنه يعيدكم مرة أخرى، ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرتم عظاماً رميماً، والآيات الدالة على هذا الوجه كثيرة جداً، كقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا} [21/104]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [30/27]، وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية [36/97]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [22/5]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنه قد يكون في الآية وجهان، وكل واحد منهما حق، ويشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم على هدى.

وبين في موضع آخر: أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملاً، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [18/103، 104].

تنبيه

هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل، وعناداً،

فلذلك كان غير معذور. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يسأل سؤال إنكار من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، كاللباس في الطواف، {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كالأنعام، والحرث التي حرمها الكفار، وكاللحم والودك الذي حرمه بعض العرب في الجاهلية في الحج.

وصرح في مواضع أخر: أن من قال ذلك على الله فهو مفتر عليه جل وعلا، كقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [16/116]، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [6/140]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/59]، وطلبهم في موضع آخر طلب إعجاز أن يأتوا بالشهداء الذين يشهدون لهم أن الله حرم هذا، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم إن شهد لهم شهود زور أن يشهد معهم، وهو قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [6/150]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ، لم يبين هنا السبب الذي مكنهم من إضلالهم، ولكنه بين في موضع آخر: أن السبب الذي مكنهم من ذلك هو كونهم سادتهم وكبراءهم، ومعلوم أن الأتباع يطيعون السادة الكبراء فيما يأمرونهم به، وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [33/67، 68] . وبسط ذلك في سورة "سبأ" بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداًً} [34/31-33].

قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات: أن الأتباع يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب للمتبوعين،

وبين في مواضع أخر: أن مضاعفة العذاب للمتبوعين لا تنفع الأتباع، ولا تخفف عنهم من العذاب، كقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [43/39]، وقوله هنا: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} الآية [7/38]، وقوله: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [7/39]، وقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [40/48]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جل وعلا، ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد، والحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة، وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخواناً على سرر متقابلين آمنين من النصب، والخروج من الجنة، وهو قوله تعالى في "الحجر": {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [15/47، 48].

قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بين أهل الجنة، وأهل النار حجاباً يوم القيامة، ولم يبين هذا الحجاب هنا، ولكنه بينه في سورة "الحديد"، بقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية [57/13].

قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف، {يَعْرِفُونَ كُلّاً} من أهل الجنة، وأهل النار {بِسِيمَاهُمْ}، ولم يبين هنا سيما أهل الجنة، ولا أهل النار، ولكنه أشار لذلك في مواضع أخر، كقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية [3/106].

فبياض الوجوه وحسنها؛ سيما أهل الجنة، وسوادها وقبحها، وزرقة العيون، سيما أهل النار، كما قال أيضاً في سيما أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [83/24] ، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الآية [75/22]، وقال في سيما أهل النار: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [10/27] . وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} الآية [80/40] ، وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [20/102].

قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، ذكر تعالى في هذه

الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار: {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا.

وبين في مواضع أخر وجه ذلك: وهو أن الإنسان يوم القيامة، يحشر فرداً، لا مال معه، ولا ناصر، ولا خادم، ولا خول. وأن استكباره في الدنيا يجزى به عذاب الهون في الآخرة، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [6/94]، وقوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [19/80]، وقوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [19/95]، وقوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [46/20].

قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار، إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق، ويتمنون أحد أمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل، ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر، فبين: أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} الآية [26/100]، وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [74/48]، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21/28] مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [39/7]، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [9/96]، وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [32/12، 13].

فقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية، دليل على أن النار وجبت لهم، فلا يردون، ولا يعذرون، وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [35/37].

فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا؛ بالإمهال مدة يتذكرون فيها؛ وإنذار الرسل،

وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: {َأَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [14/44]، جواباً لقولهم: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [40/12]، بعد قوله تعالى عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [40/11] ، وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآية [42/45]، بعد قوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [42/44]، وقوله هنا: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم} الآية [7/53]، بعد قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ} الآية.

فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه.

وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان؛ وهو قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [6/28]، وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى، ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به في قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، ويعلم أن المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك لا يحضرونها؛ لأنه هو الذي ثبطهم عنها لحكمة كما بينه بقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} الآية [9/46]، وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآية [9/47] ، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [23/75]، إلى غير ذلك من الآيات.

وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، لا ينفعهم كقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [67/11]، وقوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]، ونحو ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة "فصلت" بقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ

الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [41/9-12].

قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الآية، هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [48/10] ونحو ذلك، أشكلت على كثير من الناس إشكالاً ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة، فصار قوم إلى التعطيل وقوم إلى التشبيه، سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن ذلك كله، والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين:

أحدهما: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

والثاني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُُ} [2/140]، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [53/3،4]، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعماً أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا، سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!.

ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال، والتنزيه عن مشابهة الخلق، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا؛ هي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [42/11]، فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الإتصاف بصفات الكمال والجلال.

والظاهر أن السر في تعبيره بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، دون أن يقول مثلاً:

وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة؛ أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فبين أن الله متصف بهما، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى، وبين صفات خلقه، ولذا جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحاً تاماً بحسب طاقتنا، وبالله جل وعلا التوفيق.

اعلم أولاً: أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:

صفة نفسية، وصفة سلبية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة جامعة، والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية؛ لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة، فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجوداً قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء؛ لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية، وليستا من صفات الأفعال، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عالم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح؛ لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز، وإن كان المقصود به صحيحاً؛ لأن الصفة النفسية في الإصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس، كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً، المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينا لك، من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى؛ لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته، ولا من صفاته، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة.

والفصل: هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضاً وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به؛ لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد؛ لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.

فمن ذلك: الصفات السبع، المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي: القدرة، والإدارة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.

فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [2/284] و[3/29] و[3/189] و [5/19] و [5/40] و [8/41].

وقال في وصف الحادث بها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [5/34]، فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء، وبين قدرته وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه.

وقال في وصف نفسه بالإرادة: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [11/107] و[85/16]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36/82]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2/185]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف المخلوق بها: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآية[8/67]، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [33/13]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [61/8]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضاً مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالعلم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [24/35]، {لَكِنِ اللَّهُ

يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية[4/ 166]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [7/7].

وقال في وصف الحادث به: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [51/28]، وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [12/68]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالحياة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [2/255]، {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية [40/65]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [25/58]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف المخلوق بها: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [19/15]، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [21/30]، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [30/19].

فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضاً حياة مناسبة لحاله؛ وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [22/75] و [31/28]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف الحادث بهما: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [76/2]، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية[19/38]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله، وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالكلام {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [4/164]، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [7/144]، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [9/6]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف المخلوق به: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [12/54]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} الآية[36/65]، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [ 19/29]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله؛ وللمخلوق كلام أيضاً مناسب لحاله. وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.

والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها، فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته هكذا فراراً منهم من تعدد القديم.

ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلاً استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة، قال في "مراقي السعود":"الرجز"

وعند فقد الوصف لا يشتق ... وأعوز المعتزلي الحق

وأما الصفات المعنوية عندهم: فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة، وهي كونه تعالى: قادراً، مريداًً، عالماً حياً، سميعاً بصيراً، متكلماً.

والتحقيق: أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بالمعاني، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني، مبني على ما يسمونه الحال المعنوية، زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود، ولا معدوم؛ والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها؛ لأن العقل الصحيح حاكم حكماً لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة، فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود، فإنه معدوم قطعاً، وكل ما هو غير معدوم، فإنه موجود قطعاً، وهذا مما لا شك فيه كما ترى.

وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني، مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها.

وأما الصفات السلبية عندهم: فهي خمس، وهي عندهم: القدم، والبقاء، والوحدانية، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق، المعروف عندهم بالقيام بالنفس.

وضابط الصفة السلبية عندهم: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلاً، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله.

أما الصفة التي تدل على معنى وجودي، فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى، فالقدم مثلاً عندهم لا معنى له بالمطابقة، إلا سلب العدم السابق، فإن قيل: القدرة مثلاً تدل على سلب العجز، والعلم يدل على سلب الجهل، والحياة تدل على سلب الموت، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضاً؟.

فالجواب: أن القدرة مثلا تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية. وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلاً، وهكذا في باقي المعاني.

أما القدم عندهم مثلا: فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود، إلا سلب العدم السابق، وهكذا في باقي السلبيات، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم، والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} الآية[57/3]، جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضاً، قال في وصف الحادث بالقدم: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [36/39]، وقال: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [ 12/95]، وقال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [26/75، 76]، وقال في وصف الحادث بالبقاء: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [37/77]، وقال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [16/96]، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية المذكورتين في الآية، قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [77/16، 17]، ووصف نفسه بأنه واحد، قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [2/163]، وقال في وصف الحادث بذلك: {يُسْقَى بِمَاءٍ

وَاحِدٍ} [13/4]، وقال في وصف نفسه بالغنى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [35/15]، {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [14/8]، وقال في وصف الحادث بالغنى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية [4/6]، {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} الآية [24/32]، فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، والحادث موصوف بها أيضاً على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه، وعجزه وافتقاره، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق، كما بيناه في صفات المعاني.

وأما الصفة النفسية عندهم، فهي واحدة، وهي: الوجود، وقد علمت ما في إطلاقها على الله، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة، كأبي الحسن الأشعري، وعلى كل حال، فلا يخفى أن الخالق موجود، والمخلوق موجود، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق، كما بينا.

ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم.

وأما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه، قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} الآية [51/58]، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [34/39]، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الآية [11/6]، وقال في وصف الحادث بذلك: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [4/8]، وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية [2/233]، ووصف نفسه بالعمل، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} الآية [36/71]، وقال في وصف الحادث به: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [66/7]، ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [55/1-4].

وقال في وصف الحادث به: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية [62/2].

وجمع المثالين في قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [5/4]، ووصف

نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بذلك، وجمع المثالين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [66/3]، ووصف نفسه بالإيتاء، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [2/258]، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [2/269]، وقال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [11/3]، وقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [57/21].

وقال في وصف الحادث بذلك: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [4/20]، {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [4/2]، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [4/4]، وأمثال هذا كثيرة جداً في القرآن العظيم.

ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضاً، على الوجه المناسب لحاله، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وأما الصفات الجامعة، كالعظم والكبر والعلو، والملك والتكبر والجبروت، ونحو ذلك. فإنها أيضاً يكثر جداً وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم.

ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق. قال في وصف نفسه جلا وعلا بالعلو والعظم والكبر: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [2/255]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [4/34]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [13/9] .

وقال في وصف الحادث بالعظم: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[26/63]، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [17/40]، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [27/23]، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [9/129]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف الحادث بالكبر: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [67/12]، وقال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [17/31]، وقال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [8/73]، وقال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [2/143]، وقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [2/45.]

وقال في وصف الحادث بالعلو: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [19/57]، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [19/50]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف نفسه بالملك: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} الآية [62/1]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} الآية [59/23]، وقال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [54/55].

وقال في وصف الحادث به: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} الآية [12/43]، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [12/50] و [12/54]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [18/79]، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [2/247]، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [3/26] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف نفسه بالعزة: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [2/209]، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [62/1]، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [38/9].

وقال في وصف الحادث بالعزة {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} الآية[12/51]، {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [38/23].

وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [59/23].

وقال في وصف الحادث بهما: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [40/35]، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [39/60]، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [26/130] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف نفسه بالقوة: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [51/58]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [22/40].

وقال في وصف الحادث بها: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الآية [41/15]، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية[11/52]، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [28/26]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ

جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} الآية [30/54]، إلى غير ذلك من الآيات.

وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله، وجلاله. وإنما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث، ولا إشكال في شيء من ذلك، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون؛ هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته؛ أنها صفات معان أثبتها الله، جل وعلا، لنفسه، كالرأفة والرحمة.

قال في وصفه جل وعلا بهما: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [16/47]، وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [9/128]، وقال في وصف نفسه بالحلم: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [22/59].

وقال في وصف الحادث به: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [37/101]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [9/114].

وقال في وصف نفسه بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [2/182] و [5/34] و [5/39] و [5/98] و [8/69] و [9/5] و [9/99] و [9/102] و [24/62] و [29/14] و [60/12] و [73/20]. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [49/3]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف الحادث بها: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [42/43]، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} الآية[45/14]، . {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [2/263]، ونحو ذلك من الآيات.

ووصف نفسه جل وعلا بالرضى، ووصف الحادث به أيضاً فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [5/119]، ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة، ووصف الحادث بها، فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [5/54]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية[3/31].

ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الآية[5/60]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية [4/93].

وقال في وصف الحادث بالغضب: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [7/150]، وأمثال هذا كثير جداً.

والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع أوهام المشابهة بين صفاته جل وعلا، وبين صفات خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

فإذا حققت كل ذلك علمت ذلك أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات، فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه، ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال، والجلال؛ القاضية بعظمته وجلاله جل وعلا، وأنه الرب وحده، المستحق لأن يعبد وحده.

الموضع الأول: بحسب ترتيب المصحف الكريم، قوله هنا في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [54].

الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة "يونس": {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [3-4].

الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة "الرعد": {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2، 3، 4].

الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة "طه": {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [2-6].

الموضع الخامس: قوله في سورة "الفرقان" {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [58، 59].

الموضع السادس: قوله تعالى في سورة "السجدة" {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} الآية [4، 5].

الموضع السابع: قوله تعالى في سورة "الحديد" {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [57/4].

وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الآية[43/13]، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الآية[23/28]، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} الآية [11/44]، ونحو ذلك من الآيات.

وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضاً استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق؛ على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، كما تقدم إيضاحه.

وينبغي للناظر في هذه المسألة التأمل في أمور:

الأمر الأول: أن جميع الصفات من باب واحد؛ لأن الموصوف بها واحد، ولا

يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم، فمن أثبت مثلاً أنه: سميع بصير. وسمعه وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات؛ كالاستواء، واليد، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال.

الأمر الثاني: أن الذات والصفات من باب واحد أيضاً، فكما أنه جل وعلا، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق.

الأمر الثالث: في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات؛ كالاستواء واليد مثلاً.

اعلم أولاً: أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا: في الآيات القرآنية، هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً؛ لأن اعتقاد ظاهرة كفر؛ لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.

والنَّبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [16/44]، لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء، على أنه صلى الله عليه وسلم: لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنَّبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!

ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث.

فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى

ـــــــ

1 واحتج أهل التأويل بحديث ابن ماجه الذي أخرجه في مقدمته بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، فقال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل". فهذا يشعر أن التأويل حاجة لا بد منها وإن أتت متأخرة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته، وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.

والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله؛ لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهاً أولا، ومعطلا ثانياً، فارتكب ما لا يليق الله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي، طاهراً من أقذار التشبيه؛ لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فلو قال متنقطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها، قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا، فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو، كما أثنى على نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [20/110]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [112/1-4]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [16/74].

فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد، وأن الحق فيها متركب من أمرين:

الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشهابة الخلق.

والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً، أو نفياً؛ وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، والسلف الصالح رضي الله عنهم، ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم، ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي: "الطويل":

وكيف أخاف الناس والله قابض ... على الناس والسبعين في راحة اليد

ـــــــ

1 أي التي تشعر بالجسمية.

ومراده بالسبعين: سبع سماوات، وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة.

ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، ذكر في هذه الآية الكريمة: أن رحمته جل وعلا قريب من عباده المحسنين، وأوضح في موضع آخر صفات عبيده الذين سيكتبها لهم في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآية[7/156].

ووجه تذكير وصف الرحمة مع أنها مؤنثة في قوله: {قَرِيبٌ} [7/56]، ولم يقل قريبة، فيه للعلماء أقوال تزيد على العشرة، نذكر منها إن شاء الله بعضاً، ونترك ما يظهر لنا ضعفه أو بعده عن الظاهر.

منها: أن الرحمة مصدر بمعنى الرحم، فالتذكير باعتبار المعنى.

ومنها: أن من أساليب اللغة العربية أن القرابة إذا كانت قرابة نسب تعين التأنيث فيها في الأنثى فتقول: هذا المرأة قريبتي أي في النسب، ولا تقول: قريب مني؛ وإن كانت قرابة مسافة جاز التذكير والتأنيث، فتقول: داره قريب وقريبة مني، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [42/17]، وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [33/63]، وقول امرىء القيس: "الطويل"

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

ومنها: أن وجه ذلك إضافة الرحمة إلى الله جل وعلا.

ومنها: أن قوله {قَرِيبٌ}، صفة موصوف محذوف، أي: شيء قريب من المحسنين.

ومنها: أنها شبهت بفعيل بمعنى مفعول الذي يستوي فيه الذكر والأنثى.

ومنها: أن الأسماء التي على فعيل ربما شبهت بالمصدر الآتي على فعيل، فأفردت لذلك؛ قال بعضهم: ولذلك أفرد الصديق في قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [24/61]، وقول الشاعر: "المتقارب"

وهن صديق لمن لم يشب اهـ

والظهير في قوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [66/4]، إلى غير ذلك من الأوجه.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، على قراءة عاصم {بَشَرًا} بضم الباء الموحدة، وإسكان الشين: جمع بشير؛ لأنها تنتشر أمام المطر مبشرة به، وهذا المعنى يوضحه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} الآية [30/46]، وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [7/57]، يعني برحمته المطر كما جاء مبيناً في غير هذا الموضع، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} الآية [42/28]، وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [30/50].

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية، بين في هذه الآية الكريمة أنه يحمل السحاب على الريح، ثم يسوقه إلى حيث يشاء من بقاع الأرض، وأوضح هذا المعنى آيات كثيرة كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية[35/9]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [32/27]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} الآية، أنكر تعالى في هذه السورة الكريمة على قوم نوح، وقوم هود عجبهم من إرسال رجل؛ وبين في مواضع أخر أن جميع الأمم عجبوا من ذلك. قال في عجب قوم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [10/2]، وقال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} الآية[50/2]، وقال عن الأمم السابقة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ

رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [64/6]، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} الآية [54/23، 24]، وقال: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [23/34]، وصرح بأن هذا العجب من إرسال بشر مانع للناس من الإيمان بقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [17/94].

ورد الله عليهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} الآية[21/7]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [25/20]، وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} الآية[6/9]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا}، لم يبين هنا كيفية إغراقهم، ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} الآية [54/11]، وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [29/14].

قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الآية، لم يبين هنا شيئاً من هذا الجدال الواقع بين هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين عاد. ولكنه أشار إليه في مواضع أخر كقوله: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [11/53-56].

قوله تعالى: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} الآية،لم يبين هنا كيفية قطعه دابر عاد، ولكنه بينه في مواضع أُخر كقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} الآية [69/6]، وقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} الآية [51/41]، ونحو ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} الآية، ظاهر هذه الآية الكريمة أن عقرها باشرته جماعة، ولكنه تعالى بين في سورة القمر: أن المراد أنهم نادوا واحداً منهم، فباشر

عقرها، وذلك في قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [29].

قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية،لم يبين هنا هذا الذي يعدهم به، ولكنه بين في مواضع أخر أنه العذاب كقوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [11/64]، وقوله هنا {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ} [7/73]، وقوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [11/65]، ونحو ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، لم يبين هنا سبب رجفة الأرض بهم، ولكنه بين في موضع آخر أن سبب ذلك صيحة الملك بهم، وهو قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} الآية [11/67]، والظاهر أن الملك لما صاح بهم رجفت بهم الأرض من شدة الصيحة، وفارقت أرواحهم أبدانهم، والله جل وعلا أعلم.

قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} الآية، وبين تعالى هذه الرسالة التي أبلغها نبيه صالح إلى قومه في آيات كثيرة كقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، بين تعالى أن المراد بهذه الفاحشة اللواط بقوله بعده: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} الآية[7/81]، وبين ذلك أيضاً بقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [26/165]، وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [29/29].

قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لم ينج مع لوط إلا خصوص أهله، وقد بيَّن تعالى ذلك في "الذاريات" بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [51/35، 36]، وقوله هنا: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [7/83]، أوضحه في مواضع أخر: فبين أنها خائنة، وأنها من أهل النار، وأنها واقعة فيما أصاب قومها من الهلاك، قال فيها: هي وامرأة نوح: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [66/10، وقال فيها وحدها، أعني امرأة لوط {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [11/81]،

وقوله هنا في قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [7/84].

لم يبين هنا هذا المطر ما هو، ولكنه بين في مواضع أخر أنه مطر حجارة أهلكهم الله بها كقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [15/74]، وأشار إلى أن السجيل الطين بقوله في "الذاريات": {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [51/33]، وبين أن هذا المطر مطر سوء لا رحمة بقوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [25/40]، وقوله تعالى في "الشعراء": {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [173].

قوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} ، الضمير في قوله: {وَتَبْغُونَهَا}، راجع إلى السبيل وهو نص قرآني على أن السبيل مؤنثة، ولكنه جاء في موضع آخر ما يدل على تذكير السبيل أيضاً، وهو قوله تعالى: في هذه السورة الكريمة: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [7/146].

قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، بين تعالى حكمه الذي حكم به بينهم بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [11/94]، وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [7/78]، وقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}، وقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [26/189]، فإن قيل: الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر تعالى في الأعراف أنه رجفة، وذكر في هود أنه صيحة، وذكر في الشعراء أنه عذاب يوم الظلة.

فالجواب: ما قاله ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"، قال: وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابه عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام اهـ. منه.

قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، بين جل وعلا الرسالات التي أبلغها رسوله شعيب إلى قومه

في آيات كثيرة كقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} الآية [11/84]، ونحوها من الآيات. وبين نصحه لهم في آيات كثيرة، كقوله: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} الآية [11/89]، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [7/93]، أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى، أي: الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجاً وعناداً، وإنكاره لذلك يدل على أنه لا ينبغي، وقد صرح تعالى بذلك فنهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه في قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [5/68]، ومعنى {لا تَأْسَ}: لا تحزن،

وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} الآية [16/127].

قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} الآية، ذكر أنباءهم مفصلة في مواضع كثيرة، كالآيات التي ذكر فيها خبر نوح وهود، وصالح ولوط، وشعيب وغيرهم، مع أممهم صلوات الله وسلامه عليهم.

قوله تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} الآية، في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه من التفسير: بعضها يشهد له القرآن.

منها: أن المعنى فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به، ولم يؤمنوا به، لاستحالة التغير فيما سبق به العلم الأزلي. ويروى هذا عن أبي بن كعب وأنس، واختاره ابن جرير، ويدل لهذا الوجه لآيات كثيرة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية[10/96]، وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [10/101]، ونحو ذلك من الآيات.

ومنها: أن معنى الآية أنهم أخذ عليهم الميثاق، فآمنوا كرهاً، فما كانوا ليؤمنوا بعد ذلك طوعاً. ويروى هذا عن السدي وهو راجع في المعنى إلى الأول.

ومنها: أن معنى الآية أنهم لو ردوا إلى الدنيا مرة لكفروا أيضاً، فما كان ليؤمنوا في الرد إلى الدنيا بما كذبوا به من قبل، أي: في المرة الأولى، ويروى هذا عن مجاهد. ويدل لمعنى هذا القول قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [6/28]، لكنه بعيد من ظاهر الآية.

ومنها: أن معنى الآية: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، وهذا القول حكاه ابن عطية، واستحسنه ابن كثير، وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية الكريمة. ووجهه ظاهر؛ لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [4/155]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [61/5]، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [2/10]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [63/3]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها أوجه من التفسير كلها يشهد له قرآن، وكلها حق. فنذكر جميعها والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} الآية، بين تعالى هنا أن فرعون وملأه ظلموا بالآيات التي جاءهم بها موسى، وصرح في النمل بأنهم فعلوا ذلك جاحدين لها، مع أنهم مستيقنون أنها حق لأجل ظلمهم وعلوهم؛ وذلك في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [13، 14].

وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ، ذكر تعالى هنا أن موسى نزع يده فإذا هي بيضاء، ولم يبين أن ذلك البياض خال من البرص، ولكنه بين ذلك في سورة "النمل" و "القصص" في قوله فيهما: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [12؛/32]، أي من غير برص.

قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ، بين هنا أن موسى لما جاء بآية العصا واليد، قال الملأ من قوم فرعون إنه ساحر، ولم يبين ماذا قال فرعون: ولكنه بين في "الشعراء" أن فرعون قال مثل ما قال الملأ من قومه، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [26/34].

قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} ، لم يبين هنا هذا السحر العظيم ما هو؟ ولم يبين هل أوجس موسى في نفسه الخوف منه؟ ولكنه بين كل ذلك في "طه" بقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي

يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [66-69]، ولم يبين هنا أنهم تواعدوا مع موسى موعداً لوقت مغالبته مع السحرة، وأوضح ذلك في سورة "طه" في قوله عنهم: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} الآية[58-59].

قوله تعالى: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، لم يبين هنا الشيء الذي توعدهم بأنهم يصلبهم فيه، ولكنه بينه في موضع آخر، كقوله في "طه" {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} الآية[71].

قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي قحط وجدب ونحو ذلك، تطيروا بموسى وقومه فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} الآية [4/78]، وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية [27/47]، وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية[36/18]، وبين تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم ومعاصيهم، لا من قبل الرسل، قال في "الأعراف": {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [131]، وقال في سورة "النمل" في قوم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [27/47]، وقال في "يس": {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية[19].

قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية، لم يبين هنا من هؤلاء القوم، ولكنه صرح في سورة "الشعراء": بأن المراد بهم بنو إسرائيل لقوله في القصة بعينها: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} الآية[59]، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية[7/137].

قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية،لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم، ولكنه بينها في "القصص" بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [28/5، 6].

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تراني} الآية، استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكور، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم، كما صرح به تعالى في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [75/22]، وقوله في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [83/15]، فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.

وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [10/26]، {الْحُسْنَى}: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [50/35]، وقد تواترت الأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار: جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا، قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [7/143]؛ لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى، وأما شرعاً فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح، وأما في الدنيا فممنوعة شرعاً كما تدل عليه آية "الأعراف" هذه، وحديث: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا"، كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب".

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}، بين في هذه الآية الكريمة سخافة عقول عبدة العجل، ووبخهم على أنهم يعبدون ما لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً، وأوضح هذا في "طه"، بقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} الآية[89]، وقد قدمنا في سورة "البقرة"، أن جميع آيات اتخاذهم العجل إلاهاً حذف فيها المفعول الثاني في جميع القرآن، كما في قوله هنا: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} الآية" 7/148]، أي اتخذوه إلاها، وقد قدمنا أن النكتة في حذفه دائماً التنبيه: على أنه لا ينبغي التلفظ بأن عجلاً مصطنعاً من جماد إله، وقد أشار تعالى إلى هذا المفعول المحذوف دائماً في "طه" بقوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [20/88].

قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ

لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن عبدة العجل اعترفوا بذنبهم، وندموا على ما فعلوا، وصرح في سورة "البقرة" بتوبتهم ورضاهم بالقتل وتوبة الله جل وعلا عليهم بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [54].

قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} الآية، أوضح الله ما ذكره هنا بقوله في "طه" {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} .الآية [86، 87].

قوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} الآية، أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ما اعتذر به نبي الله هارون لأخيه موسى عما وجهه إليه من اللوم، وأوضحه في "طه"، بقوله: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [94]، وصرح الله تعالى ببراءته بقوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [20/90، 91].

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/28]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1]، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [11/17]، وقيد في موضع آخر: عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [6/19]، وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [3/20]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} الآية، لم يبين هنا كثرة كلماته، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً

لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [18/109]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [31/27].

قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} الآية، هذا الميثاق المذكور يبينه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [3/187].

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}.

في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء:

أحدهما: أن معنى أخذه ذرية بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين كما قال تعالى: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [6/133]، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} [35/39]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} [27/62]، ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [7/172]، أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه فمعنى: {قَالُواْ بَلَى}، أي: قالوا ذلك: بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [9/17]، أي: بلسان حالهم على القول بذلك، وقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [100/6، 7]، أي: بلسان حاله أيضاً على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضاً.

واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن الله جل وعلا جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك به جل وعلا، في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [7/172، 173]، قالوا: فلو كان الإشهاد المذكور الإشهاد عليهم يوم الميثاق، وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم؛

لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسل بالميثاق المذكور كاف في ثبوته، قلنا: قال ابن كثير في "تفسيره" : "الجواب عن ذلك أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا} الآية. اهـ منه بلفظه.

فإذا علمت هذا الوجه الذي ذكرنا في تفسير الآية، وما استدل عليه قائله به من القرآن، فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة.

أما وجه دلالة القرآن عليه، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من غرائب صنع الله؛ الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]، فإنه قال فيها: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.

ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية[4/165]، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم: هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.

وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في "طه" بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [134]، وأشار لها في "القصص" بقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [47]، ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك

بنصب الأدلة كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [67/8،9]، وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]، ومعلوم أن لفظة {كُلَّمَا} في قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ}، صيغة عموم، وأن لفظة {الَّذِينَ} في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، صيغة عموم أيضاً؛ لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته.

وأما السنة: فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال أبو عمر، يعني ابن عبد البر، لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. اهـ. محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة، هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في "شرح مسلم"، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في "مراقي السعود"، بقوله:

ذو فترة بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع

وقد حققنا هذه المسألة مع مناقشة أدلة الفريقين في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولذلك اختصرناها هنا.

قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} الآية، ضرب الله تعالى المثل لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب، ولم تكن حقارة الكلب مانعة من ضربه تعالى المثل به، وكذلك ضرب المثل بالذباب في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [22/73]، وكذلك ضرب المثل ببيت

العنكبوت في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [29/41]، وكذلك ضرب المثل بالحمار في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [62/5]، وهذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يستحيي من بيان العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة، وقد صرح بهذا المدلول في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [2/26] .

قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، هدّد تعالى في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين:

الأول: صيغة الأمر في قوله: {وَذَرُوا} فإنها للتهديد.

والثاني: في قوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وهدد الذين يلحدون في آياته في سورة حم "السجدة" بأنهم لا يخفون عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [41/40]، ثم أتبع ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} الآية، وأصل الإلحاد في اللغة: الميل، ومنه اللحد في القبر، ومعنى إلحادهم في أسمائه هو ما كاشتقاقهم اسم اللات من اسم الله، واسم العزى من اسم العزيز، واسم مناة من المنان، ونحو ذلك. والعرب تقول لحد وألحد بمعنى واحد، وعليهما القراءتان يلحدون بفتح الياء والحاء من الأول، وبضمها وكسر الحاء من الثاني.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدل على ذلك أيضاً كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [79/42، 43، 44]، وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [6/59]، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [31/34].

قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} الآية، وهذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وقد أمره تعالى أن يقول إنه لا يعلم الغيب في قوله في "الأنعام": {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}

[50] وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [72/26، 27]، وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية [27/65]، إلى غير ذلك من الآيات.

والمراد بالخير في هذه الآية الكريمة قيل: المال، ويدل على ذلك كثرة ورود الخير بمعنى المال في القرآن، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [100/8]، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [2/180]، وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} الآية [2/215]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقيل: المراد بالخير فيها العمل الصالح كما قاله مجاهد وغيره، والصحيح الأول لأنه صلى الله عليه وسلم مستكثر جداً من الخير الذي هو العمل الصالح؛ لأن عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملاً أثبته.

قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الآية، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي: ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [30/21].

قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، والقرآن يشهد لأحدهما:

الأول: أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت، فجاءها الشيطان، فقال لها سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث فقال تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} [7/190]، أي: ولداً إنساناً ذكراً جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث، وقد جاء بنحو هذا حديث مرفوع وهو معلول كما أوضحه ابن كثير في "تفسيره".

الوجه الثاني: أن معنى الآية أنه لما آتى آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء؛ لأنهما أصل لذريتهما كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [7/11]، أي بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم بدليل قوله بعده: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده: {فَتَعَالَى اللَّهُ

عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [7/190، 191]، وهذا نص قرآني صريح في أن المراد المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن البصري، واختاره ابن كثير ، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، بين في هذه الآية الكريمة ما بنبغى أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن، فبين أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته، وأن شيطان الجن لا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه، قال في الأول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [7/199]، وقال في الثاني: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [7/200]، وبين هذا الذي ذكرنا في موضعين آخرين.

أحدهما: في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [23/1]، قال فيه في شيطان الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [96]، وقال في الآخر: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [97، 98].

والثاني: في حم "السجدة"، قال فيه في شيطان الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [41/34]، وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلا لذي الحظ الكبير والبخت العظيم عنده، فقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [41/35]، ثم قال في شيطان الجن: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [41/36].

قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}، ذكر في هذه الآية الكريمة أن إخوان الإنس من الشياطين يمدون الإنس في الغي، ثم لا يقصرون، وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [19/83]، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} [6/128]، وبين في موضع آخر أن بعض الإنس إخوان للشياطين، وهو قوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [17/27] .

تم بحمد الله تفسير سورة الأعراف

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج33. كتاب مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

  ج33. كتاب   مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إ...