القران كاملا مشاري

حمل المصحف بكل صيغه

 حمل المصحف

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 5 يناير 2023

تفسير سورة الشعراء من{84 الي111.}

 

تفسير سورة الشعراء من{84 الي111.}


وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)  قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)

==========

 

الشعراء - تفسير ابن كثير

 

 

وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

{ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) } .

وهذا سؤال من إبراهيم، عليه السلام، أن يؤتيه ربه حُكْما.

قال ابن عباس: وهو العلم. وقال عكرمة: هو اللب. وقال مجاهد: هو القرآن. وقال السدي: هو النبوة. وقوله: { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي: اجعلني مع (1) الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: "[اللهم الرفيق الأعلى" قالها ثلاثا (2) . وفي الحديث في الدعاء] (3) : اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين" (4) .

وقوله: { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } أي: واجعل لي ذكرًا جميلا بعدي أذكرَ به، ويقتدى بي في الخير، كما قال تعالى: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [الصافات:108-110] .

قال مجاهد، وقتادة: { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } يعني: الثناء الحسن. قال مجاهد: وهو كقوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [العنكبوت:27]، وكقوله: { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [النحل:122] .

قال ليث بن أبي سليم: كل ملة تحبه وتتولاه. وكذا قال عكرمة.

وقوله: { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } أي: أنعم عَليَّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم.

وقوله: { وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } كقوله: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [إبراهيم:41] ، وهذا مما رجَعَ عنه إبراهيم، عليه السلام، كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة:114].

__________

(1) في أ "من".

(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6509) ومسلم في صحيحه برقم (2191) من حديث عائشة، رضي الله عنها، وليس عندهما أنه قالها ثلاثا، وإنما فيهما ما يفيد أنها مرتين، والله أعلم.

(3) زيادة من ف، أ.

(4) رواه أحمد في مسنده (3/424) من حديث الزرقي، وعنده: "غير خزايا ولا مفتونين".

(6/147)

________________________________________

وقد قطع [الله] (1) تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه، فقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } [الممتحنة:4] .

وقوله: { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي: أجرني من الخزي يوم القيامة و[يوم] (2) يبعث الخلائق أولهم وآخرهم.

قال البخاري في قوله: { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } وقال إبراهيم بن طهمان، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغَبَرَةُ والقَتَرَةُ" (3) .

حدثنا إسماعيل، حدثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه، فيقول: يا رب، إنك وعدتني أنك لا تخزيني (4) يوم يبعثون. فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين" .

هكذا رواه عند هذه الآية (5) . وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به، ولفظه: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قَتَرَةٌ وغَبَرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني (6) فيقول أبوه (7) : فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يُقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار (8) .

وقال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير قوله: { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } : أخبرنا أحمد بن حفص (9) بن عبد الله، حدَّثني أبي، حدثني إبراهيم بن طَهْمَان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن سعيد بن أبي سعيد المقبرِي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغَبَرة والقَتَرة، وقال (10) له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني. قال: لكني اليوم لا أعصيك واحدة. قال: يا رب، وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فإن (11) أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم، إني (12) حرمتها على الكافرين. فأخذ منه، قال: يا إبراهيم، أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني. قال: انظر أسفل منك. فنظر (13) فإذا ذيخ يتمرغ (14) في نتنه، فأخذ بقوائمه فألقي في النار (15) .

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) زيادة من ف، أ.

(3) صحيح البخاري برقم (4768) .

(4) في ف، أ: "أن لا تخزني".

(5) صحيح البخاري برقم (4769) ولفظه: "وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون".

(6) في ف: "لا تعصيني".

(7) في ف: "أباه" وهو خطأ.

(8) صحيح البخاري برقم (3350).

(9) في ف: "جعفر".

(10) في ف: "فقال".

(11) في أ: "فأي".

(12) في أ: "فإني".

(13) في ف، أ: "فينظر".

(14) في ف: "متمرغ".

(15) النسائي في السنن الكبرى برقم (11375).

(6/148)

________________________________________

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

هذا إسناد (1) غريب، وفيه نكارة.

والذيخ (2) : هو الذكر من الضباع، كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته (3) ، فيلقى في النار كذلك.

وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه غرابة. ورواه أيضًا من حديث قتادة، عن جعفر بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

وقوله: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ } أي: لا يقي المرء (4) من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا: { وَلا بَنُونَ } ولو افتدى بِمَنْ في الأرض جميعا، ولا ينفعُ يومئذ إلا الإيمانُ بالله، وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك؛ ولهذا قال: { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي: سالم من الدنس والشرك.

قال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور.

وقال ابن عباس: { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } حَيِي (5) يشهد أن لا إله إلا الله.

وقال مجاهد، والحسن، وغيرهما: { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني: من الشرك.

وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم: هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب [الكافر و] (6) المنافق مريض، قال الله: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [البقرة:10] .

وقال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن إلى السنة.

{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) } .

{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ } أي: قربت الجنة وأدنيت (7) من أهلها يوم القيامة مزخرفة مزينة (8) لناظريها، وهم المتقون الذين رغبوا فيها، وعملوا لها [عملها] (9) في الدنيا.

{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } أي:

__________

(1) في ف: "سياق".

(2) في أ: "والذابح".

(3) في أ: "بقذرته".

(4) أ: "المؤمن".

(5) في ف، أ: "يعني".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) في ف: "أدنيت وقربت".

(8) في ف، أ: "مزينة مزخرفة".

(9) زيادة من ف، أ.

(6/149)

________________________________________

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)

أظهرت وكُشف (1) عنها، وبدت منها عُنقٌ، فزفرت زفرة بلغت منها القلوب [إلى] (2) الحناجر، وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا: { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } (3) أي: ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله، من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئًا، ولا تدفع عن أنفسها؛ فإنكم وإياها اليوم حَصَبُ جَهَنم أنتم لها واردون.

وقوله: { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } قال مجاهد: يعني: فَدُهْوِرُوا (4) فيها.

وقال غيره: كببوا فيها. والكاف مكررة، كما يقال: صرصر. والمراد: أنه ألقي بعضهم على بعض، من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك.

{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } أي: ألقوا فيها عن آخرهم.

{ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: يقول الضعفاء الذين استكبروا: { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ } [غافر:47]. ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: نجعل أمركم مطاعًا كما يطاع أمر رب العالمين، وعبدناكم مع ربِ العالمين.

{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ } أي: ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون.

{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } قال بعضهم: يعني من الملائكة، كما يقولون: { فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف:53]. وكذا قالوا: { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي: قريب.

قال قتادة: يعلمون -والله -أن الصديق إذا كان صالحًا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع.

{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم يتمنون أنهم يردُّون (5) إلى الدار الدنيا، ليعملوا بطاعة ربهم -فيما يزعمون -وهو، سبحانه وتعالى، يعلم أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وقد أخبر تعالى (6) عن تخاصم (7) أهل النار في سورة "ص"، ثم قال: { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ص:64] .

ثم قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامته الحجج (8) عليهم في التوحيد لآية ودلالة واضحة جلية على أنه لا إله إلا الله { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } .

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) } .

هذا إخبار من الله، عز وجل، (9) عن عبده ورسوله نوح، عليه السلام، وهو أول رسول بُعث

__________

(1) في ف، أ. "وكشفت".

(2) زيادة من أ.

(3) في ف، أ: "تشركون".

(4) في أ: "صوروا".

(5) في ف: "أن يردون" وفي أ: "أن يردوا".

(6) في أ: "الله" وهو خطأ.

(7) في أ: "بتخاصم".

(8) في ف: "الحجة".

(9) في ف، أ: "تعالى"

(6/150)

________________________________________

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)

إلى الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، بعثه الله ناهيًا عن ذلك، ومحذرًا من وَبيل عقابه، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم، ويتنزل (1) تكذيبهم له بمنزلة تكذيب جميع الرسل؛ ولهذا قال: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ } أي: ألا (2) تخافون الله في عبادتكم غيره؟

{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي: إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالة الله لا أزيد فيها ولا أنقص منها.

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ] } (3) أي: لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم، بل أدخر ثواب ذلك عند الله { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني به وأتمنني عليه.

{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) }

__________

(1) في أ: "وتنزل".

(2) في أ: "لا".

(3) زيادة من ف، أ.

 

 

 

 

=========

 

الشعراء - تفسير القرطبي

 

 

الآية: [84] {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}

الآية: [85] {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}

الآية: [86] {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}

الآية: [87] {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}

الآية: [88] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}

الآية: [89] {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}

قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} {حُكْماً} معرفة بك وبحدودك وأحكامك؛ قال ابن عباس. وقال مقاتل: فهما وعلما؛ وهو راجع إلى الأول. وقال الكلبي: نبوة ورسالة إلى الخلق. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي بالنبيين من قبلي في الدرجة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة؛ وهو تأكيد قوله: {هَبْ لِي حُكْماً} .

قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} قال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه. وقال مجاهد: هو الثناء الحسن. قال ابن عطية: هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين؛ وكذلك أجاب الله دعوته، وكل أمة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليهوسلم . وقال مكي: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان

(13/112)

________________________________________

من يقوم بالحق؛ فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية: وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة؛ فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد.

قلت: وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات. والصلاة دعاء بالرحمة: والمراد باللسان القول، وأصله جارحة الكلام. قال القتبي: وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة، وقد تكني العرب بها عن الكلمة. قال الأعشى:

إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر

قال الجوهري: يروى من علو بضم الواو وفتحها وكسرها. أي أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة. وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر. روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم: 96] أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبه تعالى بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية. قيل:

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ. الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر {آل عمران} والحمد لله.

(13/113)

________________________________________

قوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} دعاء بالجنة وبمن يرثها، وهو يرد قول بعضهم: لا أسأل جنة ولا نارا. {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا، فلما بان أنه لا يفي بما قال تبرأ منه. وقد تقدم هذا المعنى. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} أي المشركين. {وكان} زائدة. {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة" والغبرة هي القترة. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني إلا تخزيني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين" انفرد بهما البخاري رحمه الله.

قوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} {يَوْمِ} بدل من {يَوْمِ} الأول. أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدا. والمراد بقوله: {وَلا بَنُونَ} الأعوان؛ لأن الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع؟ وقيل: ذكر البنين لأنه جرى ذكر والد إبراهيم، أي لم ينفعه إبراهيم. {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هو استثناء من الكافرين؛ أي لا ينفعه ماله ولا بنوه. وقيل: هو استثناء من غير الجنس، أي لكن {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ينفعه لسلامة قلبه. وخص القلب بالذكر؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح. وقد تقدم في أول {البقرة}. واختلف في القلب السليم فقيل: من الشك والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد؛ قال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وقال أبو عثمان السياري: هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة. وقال الحسن: سليم من آفة المال والبنين. وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ؛ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله. وقال الضحاك: السليم الخالص.

(13/114)

________________________________________

قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن، أي الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتصف بالأوصاف الجميلة؛ والله أعلم. وقد روي عن عروة أنه قال: يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]. وقال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير" يريد - والله أعلم - أنها مثلها في أنها خالية من ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا؛ كما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر أهل الجنة البله" وهو حديث صحيح. أي البله عن معاصي الله. قال الأزهري: الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبي: البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس.

الآية: [90] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}

الآية: [91] {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}

الآية: [92] {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}

الآية: [93] {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ }

الآية: [94] {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}

الآية: [95] {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}

الآية: [96] {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}

الآية: [97] {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

الآية: [98] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}

الآية: [99] {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}

الآية: [100] {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}

الآية: [101] {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}

الآية: [102] {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

الآية: [103] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}

الآية: [104] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت ليدخلوها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها. {وَبُرِّزَتِ} أي أظهرت {الْجَحِيمُ } يعني جهنم. {لِلْغَاوِينَ}

(13/115)

________________________________________

أي الكافرين الذين ضلوا عن الهدى. أي تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخولها حتى يستشعروا الروع والحزن، كما يستشعر أهل الجنة الفرح لعلمهم أنهم يدخلون الجنة. {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام والأنداد {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} من عذاب الله {يَنْتَصِرُونَ} لأنفسهم. وهذا كله توبيخ. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي قلبوا على رؤوسهم. وقيل: دهوروا وألقي بعضهم على بعض. وقيل: جمعوا. مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة؛ قاله الهروي. وقال النحاس: هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه. والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة. وقال ابن عباس: جمعوا فطرحوا في النار. وقال مجاهد: دهوروا. وقال مقاتل: قذفوا. والمعنى واحد. تقول: دهورت الشيء إذا جمعته ثم قذفته في مهواة. يقال: هو يدهور اللقم إذا كبرها. ويقال: في الدعاء كب الله عدو المسلمين ولا يقال أكبه. وكبكبه، أي كبه وقلبه. ومنه قوله تعالى: {كُبْكِبُوا فِيهَا} والأصل كببوا فأبدل من الباء الوسطى كاف استثقالا لاجتماع الباءات. قال السدي: الضمير في {كُبْكِبُوا} لمشركي العرب {هُمْ وَالْغَاوُونَ} الآلهة. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} من كان من ذريته. وقيل: كل من دعاه إلى عبادة الأصنام فاتبعه. وقال قتادة والكلبي ومقاتل: {وَالْغَاوُونَ} هم الشياطين. وقيل: إنما تلقي الأصنام في النار وهي حديد ونحاس ليعذب بها غيرهم.

{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يعني الإنس والشياطين والغاوين والمعبودين اختصموا حينئذ. {تَاللَّهِ} حلفوا بالله {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسارة وتبار وحيرة عن الحق بينة إذا اتخذنا مع الله آلهة فعبدناها كما يعبد؛ وهذا معنى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي في العبادة وأنتم لا تستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسكم .{وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} يعني الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام. وقيل: أسلافنا الذين قلدناهم. قال أبو العالية وعكرمة: {الْمُجْرِمُونَ} إبليس وابن آدم القاتل هما أول من سن الكفر والقتل وأنواع المعاصي. {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين. {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي صديق مشفق؛ وكان علي رضي الله عنه يقول: عليكم بالإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة؛

(13/116)

________________________________________

ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الزمخشري: وجمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقتله؛ ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم مضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته؛ رحمة له وحسبة وإن لمم تسبق له بأكثرهم معرفة؛ وأما الصديق فهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فأعز من بيض الأنوق؛ وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق الجمع والحميم القريب والخاص؛ ومنه حامة الرجل أي أقرباؤه. وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار؛ ومنه الحمام والحمى؛ فحامة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه؛ يقال: وهم حزانته أي يحزنهم ما يحزنه. ويقال: حم الشيء وأحم إذا قرب، ومنه الحمى؛ لأنها تقرب من الأجل. وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميما؛ لأنه يحمي لغضب صاحبه، فجعله مأخوذا من الحمية. وقال قتادة: يذهب الله عز وجل يوم القيامة مودة الصديق ورقة الحميم. ويجوز: "ولا صديق حميم" بالرفع على موضع {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} ؛ لأن {مِنْ شَافِعِينَ} في موضع رفع. وجمع صديق أصدقاء وصدقاء وصداق. ولا يقال صدق للفرق بين النعت وغيره. وحكى الكوفيون: أنه يقال في جمعه صدقان. النحاس: وهذا بعيد؛ لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان. وحكموا أيضا صديق وأصادق. وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا نحو أشجع وأشاجع. ويقال: صديق للواحد والجماعة وللمرأة؛ قال الشاعر:

نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهن صديق

ويقال: فلان صديقي أي أخص أصدقائي، وإنما يصغر على جهة المدح؛ كقول حباب بن المنذر: "أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب" ذكر الجوهري. النحاس: وجمع حميم أحماء وأحمة وكرهوا أفعلاء للتضعيف. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} {أَنَّ} في موضع رفع، المعنى ولو وقع لنا رجوع إلى الدنيا لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. تمنوا حين لا ينفعهم التمني.

(13/117)

________________________________________

وإنما قالوا ذلك حين شفع الملائكة والمؤمنون. قال جابر بن عبدالله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل فلان وصديقه في الجحيم فلا يزال يشفع له حتى يشفعه الله فيه فإذا نجا قال المشركون: {مَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . وقال الحسن: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض وهم عند الله شافعون مشفعون. وقال كعب: إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا، فيمر أحدهما بصاحبه وهو يجر إلى النار، فيقول له أخوه: والله ما بقي لي إلا حسنة واحدة أنجو بها، خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى، وأبقى أنا وإياك من أصحاب الأعراف. قال: فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم والحمد الله.

الآية: [105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}

الآية: [106] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}

الآية: [107] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}

الآية: [108] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

الآية: [109] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}

الآية: [110] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

الآية: [111] {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}

 

 

===========

 

الشعراء - تفسير الدر المنثور

 

 

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)

- قَوْله تَعَالَى: الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين

(6/305)

________________________________________

رب هَب لي حكما وألحقني بالصالحين وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم

أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ يُقَال أول نعْمَة الله على عَبده حِين خلقه

وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله {أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} قَالَ: قَوْله {إِنِّي سقيم} الصافات الْآيَة 29 وَقَوله {بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا} الْأَنْبِيَاء الْآيَة 63 وَقَوله لسارة: إِنَّهَا أُخْتِي

حِين أَرَادَ فِرْعَوْن من الفراعنة أَن يَأْخُذهَا

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وألحقني بالصالحين} يَعْنِي أهل الْجنَّة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} قَالَ: يُؤمن بإبراهيم كل مِلَّة

وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي الذّكر وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ العَبْد لصَلَاة مَكْتُوبَة فاسبغ الْوضُوء ثمَّ خرج من بَاب دَاره يُرِيد الْمَسْجِد فَقَالَ حِين يخرج: بِسم الله الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين

هداه الله للصَّوَاب - وَلَفظ ابْن مرْدَوَيْه: لصواب الْأَعْمَال - وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين

أطْعمهُ الله من طَعَام الْجنَّة وسقاه من شراب الْجنَّة وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين

شفَاه الله وَجعل مَرضه كَفَّارَة لذنوبه وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين

أَحْيَاهُ الله حَيَاة السُّعَدَاء وأماته ميتَة الشُّهَدَاء وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين

غفر الله خطاياه كلهَا وَإِن كَانَت أَكثر من زبد الْبَحْر رب هَب لي حكما وألحقني بالصالحين

وهب الله لَهُ حكما وألحقه بِصَالح من مضى وَصَالح من بَقِي وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين

كتب فِي ورقة بَيْضَاء أَن فلَان بن فلَان من الصَّادِقين ثمَّ وَفقه الله بعد ذَلِك للصدق واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم

جعل الله لَهُ الْقُصُور والمنازل فِي الْجنَّة وَكَانَ الْحسن يزِيد فِيهِ - واغفر لوالدي كَمَا ربياني صَغِيرا

(6/306)

________________________________________

وَأخرج ابْن جرير وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله إِن ابْن جدعَان كَانَ يقري الضَّيْف ويصل الرَّحِم وَيفْعل وَيفْعل

أينفعه ذَلِك قَالَ: لَا

إِنَّه لم يقل يَوْمًا قطّ: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين

(6/307)

________________________________________

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)

- قَوْله تَعَالَى: واغفر لأبي إِنَّه كَانَ من الضَّالّين وَلَا تخزني يَوْم يبعثون يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون

أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {واغفر لأبي} قَالَ: اُمْنُنْ عَلَيْهِ بتوبة يسْتَحق بهَا مغفرتك

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وَلَا تخزني يَوْم يبعثون} قَالَ: ذكر لنا أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ليجيئن رجل يَوْم الْقِيَامَة من الْمُؤمنِينَ آخِذا بيد أَب لَهُ مُشْرك حَتَّى يقطعهُ النَّار ويرجو أَن يدْخلهُ الْجنَّة فيناديه مُنَاد: أَنه لَا يدْخل الْجنَّة مششرك

فَيَقُول: رب أبي

 

ووعدت أَن لَا تخزيني

قَالَ: فَمَا يزَال متشبثاً بِهِ حَتَّى يحوله الله فِي صُورَة سَيِّئَة وريح مُنْتِنَة فِي سُورَة ضبعان فَإِذا رَآهُ كَذَلِك تَبرأ مِنْهُ وَقَالَ: لست بِأبي قَالَ: فَكُنَّا نرى أَنه يَعْنِي إِبْرَاهِيم وَمَا سمى بِهِ يَوْمئِذٍ

وَأخرج البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يلقى إِبْرَاهِيم أَبَاهُ آزر يَوْم الْقِيَامَة وعَلى وَجه آزر قترة وغبرة فَيَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم: ألم أقل لَك لَا تعصيني فَيَقُول أَبوهُ: فاليوم لَا أعصيك فَيَقُول إِبْرَاهِيم: رب إِنَّك وَعَدتنِي أَن لَا تخزيني يَوْم يبعثون فَأَي خزي أخزى من أبي الْأَبْعَد

فَيَقُول الله: إِنِّي حرَّمت الْجنَّة على الْكَافرين

ثمَّ يُقَال: يَا إِبْرَاهِيم مَا تَحت رجليك فَإِذا هُوَ بذيخ متلطخ فَيُؤْخَذ بقوائمه فَيلقى فِي النَّار

وَأخرج أَحْمد عَن رجل من بني كنَانَة قَالَ: صليت خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْفَتْح فَسَمعته يَقُول اللَّهُمَّ لَا تخزني يَوْم الْقِيَامَة

(6/307)

________________________________________

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

- قَوْله تَعَالَى: إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم

أخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} قَالَ: شهداة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله

(6/307)

________________________________________

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن قَتَادَة فِي قَوْله {إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} قَالَ: كَانَ يُقَال: سليم من الشّرك

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} قَالَ: من الشّرك

لَيْسَ فِيهِ شكّ فِي الْحق

وَأخرج عبد بن حميد عَن عون قَالَ: ذكرُوا الْحجَّاج عِنْد ابْن سِيرِين فَقَالَ: غير مَا تَقولُونَ أخوف على الْحجَّاج عِنْدِي مِنْهُ قلت: وَمَا هُوَ قَالَ: إِن كَانَ لَقِي الله بقلب سليم فقد أصَاب الذُّنُوب خير مِنْهُ قلت: وَمَا الْقلب السَّلِيم قَالَ: إِن يعلم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله

(6/308)

________________________________________

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)

- قَوْله تَعَالَى: وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين وبرزت الْجَحِيم للغاوين وَقيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ من دون الله هَل ينصرونكم أَو ينتصرون

أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك {وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين} قَالَ: قربت لأَهْلهَا

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن نُبيح ابْن امْرَأَة كَعْب قَالَ: تزلف الْجنَّة ثمَّ تزخرف ثمَّ ينظر إِلَيْهَا من خلق الله

من مُسلم أَو يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ إِلَّا رجلَانِ

رجلا قتل مُؤمنا مُتَعَمدا أَو رجلا قتل معاهدا مُتَعَمدا

(6/308)

________________________________________

فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)

- قَوْله تَعَالَى: فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون وجنود إِبْلِيس أَجْمَعُونَ قَالُوا وهم فِيهَا يختصمون تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين

أخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {فكبكبوا فِيهَا} قَالَ: جمعُوا فِيهَا {هم والغاوون} قَالَ: مُشْرِكُوا الْعَرَب والآلهة

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد {فكبكبوا} قَالَ: رموا

وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ {فكبكبوا فِيهَا} قَالَ: فِي النَّار {هم} قَالَ: الْآلهَة {والغاوون} قَالَ: مشركو قُرَيْش {وجنود إِبْلِيس} قَالَ: ذُرِّيَّة إِبْلِيس وَمن ولد

(6/308)

________________________________________

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {والغاوون} قَالَ: الشَّيَاطِين

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن النَّاس يَمرونَ يَوْم الْقِيَامَة على الصِّرَاط: والصراط دحض مزلة يَتَكَفَّأ بأَهْله

وَالنَّار تَأْخُذ مِنْهُم وَإِن جَهَنَّم لتنطف عَلَيْهِم مثل الثَّلج إِذا وَقع لَهَا زفير وشهيق

فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك اذا جَاءَهُم نِدَاء من الرَّحْمَن: عبَادي من كُنْتُم تَعْبدُونَ فِي دَار الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ: رب أَنْت تعلم انا إياك كُنَّا نعْبد

فَيُجِيبهُمْ بِصَوْت لم يسمع الْخَلَائق مثله قطّ: عبَادي حق عليّ أَن لَا أَكِلَكُمُ الْيَوْم إِلَى أحد غَيْرِي فقد عَفَوْت عَنْكُم ورضيت عَنْكُم

فتقوم الْمَلَائِكَة عِنْد ذَلِك بالشفاعة فينحون من ذَلِك الْمَكَان فَيَقُول الَّذين تَحْتهم فِي النَّار {فَمَا لنا من شافعين وَلَا صديق حميم فَلَو أَن لنا كرة فنكون من الْمُؤمنِينَ} إِبْرَاهِيم الْآيَة 43 قَالَ الله {فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون} قَالَ ابْن عَبَّاس: ادخروا فِيهَا إِلَى آخر الدَّهْر)

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أمتِي ستحشر يَوْم الْقِيَامَة فَبَيْنَمَا هم وقُوف إِذْ جَاءَهُم مُنَاد من الله: ليعتزل سفاكو الدِّمَاء بِغَيْر حَقّهَا

فيميزون على حِدة فيسيل عِنْدهم سيل من دم ثمَّ يَقُول لَهُم الدَّاعِي: اعيدوا هَذِه الدِّمَاء فِي أجسادها فَيَقُول: احشروهم إِلَى النَّار

فَبَيْنَمَا هم يجرونَ إِلَى النَّار إِذْ نَادَى مُنَاد فَقَالَ: إِن الْقَوْم قد كَانُوا يهللون

فيوقفون مِنْهَا مَكَانا يَجدونَ وهجها حَتَّى يفرغ من حِسَاب أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يكبكبون فِي النَّار {هم والغاوون} {وجنود إِبْلِيس أَجْمَعُونَ}

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي أُمَامَة أَن عَائِشَة قَالَت: يَا رَسُول الله يكون يَوْم لَا يغنى عَنَّا فِيهِ من الله شَيْء قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم

فِي ثَلَاث مَوَاطِن عِنْد الْمِيزَان وَعند النُّور والظلمة وَعند الصِّرَاط

من شَاءَ الله سلمه وَأَجَازَهُ وَمن شَاءَ كبكبه فِي النَّار قَالَت: يَا رَسُول الله وَمَا الصِّرَاط قَالَ: طَرِيق بَين الْجنَّة وَالنَّار يجوز النَّاس عَلَيْهِ مثل حد الموسى وَالْمَلَائِكَة صافون يَمِينا وَشمَالًا يخطفونهم بالكلاليب مثل شوك السعدان وهم يَقُولُونَ: سلم سلم {وأفئدتهم هَوَاء} إِبْرَاهِيم الْآيَة 43 فَمن شَاءَ الله سلمه وَمن شَاءَ كبكبه فِي النَّار

(6/309)

________________________________________

وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

- قَوْله تَعَالَى: وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون فَمَا لنا من شافعين وَلَا صديق حميم فَلَو أَن لنا كرة فنكون من الْمُؤمنِينَ إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم

أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله {وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} يَقُول: الأوّلون الَّذين كَانُوا قبلنَا اقتدينا بهم فضللنا

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن عِكْرِمَة {وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} قَالَ: إِبْلِيس وَابْن آدم الْقَاتِل

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن جريج {فَمَا لنا من شافعين} قَالَ: من أهل السَّمَاء {وَلَا صديق حميم} قَالَ: من أهل الأَرْض

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد {وَلَا صديق حميم} قَالَ: شفيق

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {فَلَو أَن لنا كرة} قَالَ: رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا {فنكون من الْمُؤمنِينَ} قَالَ: حَتَّى تحل لنا الشَّفَاعَة كَمَا حلت لهَؤُلَاء

وَالله أعلم

 

 

 

=

 

الشعراء - تفسير أضواء البيان

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشعراء

قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَْ}

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، وفي آخر سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} .

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .

أشار جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة إلى أن كثرة ما أنبت في الأرض، {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ، أي؛ صنف حسن من أصناف النبات، فيه آية دالَّة على كمال قدرته.

وقد أوضحنا في مواضع متعدّدة من هذا الكتاب المبارك أن إحياء الأرض بعد موتها، وإنبات النبات فيها بعد عدمه من البراهن القاطعة على بعث الناس بعد الموت.

وقد أوضحنا دلالة الآيات القرءانية على ذلك في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ، إلى قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} ، وفي أوّل سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . قوته تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} .

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} .

(6/86)

________________________________________

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيّه موسى عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ، أي: بسبب أني قتلت منهم نفسًا، وفررت منهم لما خفت أن يقتلوني بالقتيل الذي قتلته منهم، ويوضح هذا المعنى الترتيب بالفاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ؛ لأن من يخاف القتل فهو يتوقع التكذيب، وقوله: {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} ، أي: من أجل العقدة المذكورة في قوله تعالى عن موسى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} ، قدّمنا في الكلام على آية "طه" ، هذه بعض الآيات الدالَّة على ما يتعلق بهذا المبحث.

قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} .

قوله تعالى عن نبيه موسى : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .

لم يبيّن هنا هذا الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه، وقد بيَّن في غير هذا الموضع أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم الغبطي، فقد صرّح تعالى بالقتل المذكور في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، فقوله: {قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} مفسّر لقوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} ، ولذا رتّب بالفاء على كل واحد منهما. قوله: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، وقد أوضح تعالى قصّة قتل موسى له بقوله في "القصص" : {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقوله: {فَقَضَى عَلَيْهِ} ، أي: قتله، ولك هو الذنب المذكور في آية "الشعراء" هذه.

وقد بيَّن تعالى أنه غفر لنبيّه موسى ذلك الذنب المذكور، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} .

قوله تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} .

صيغة الجمع في قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، للتعظيم، وما ذكره جلَّ وعلا في

(6/87)

________________________________________

هذه الآية من ردّه على موسى خوفه القتل من فرعون وقومه، بحرف الزجر الذي هو {كَلَّا} ، وأمره أن يذهب هو وأخوه بآياته مبيّنًا لهما أن اللَّه معهم، أي: وهي معيّة خاصة بالنصر والتأييد، وأنه مستمع لكل ما يقول لهم فرعون، أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} .

قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، و "طه" ، وبيّنا في سورة "طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ، وجه تثنيته الرسول في "طه" ، وإفراده هنا في "الشعراء" ، مع شواهده العربية.

قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} .

تربية فرعون لموسى هذه التي ذكرها له هي التي ذكر مبدؤها في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .

قوله تعالى في كلام فرعون لموسى : {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .

أبهم جلَّ وعلا هذه الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: {الَّتِي فَعَلْتَ} ، وقد أوضحها في آيات أُخر، وبيَّن أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسًا منهم؛ كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} ، وقوله عن الإسرائيلي الذي استغاث بموسى مرّتين: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} .

وأظهر الأقوال عندي في معنى قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، أن المراد به كفر

(6/88)

________________________________________

النعمة، يعني أنعمنا عليك بتربيتنا إياك صغيرًا، وإحساننا إليك تتقلب في نعمتنا فكفرت نعمتنا، وقابلت إحساننا بالإساءة لقتلك نفسًا منّا، وباقي الأقوال تركناه؛ لأن هذا أظهرها عندنا.

وقال بعض أهل العلم: ردّ موسى على فرعون امتنانه عليه بالتربية، بقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} ، يعني: تعبيدك لقومي، وإهانتك لهم لا يعتبر معه إحسانك إليّ لأني رجل واحد منهم، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} .

أي: قال موسى مجيبًا لفرعون: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً} ، أي: إذ فعلتها {وَأَنَا} في ذلك الحين {مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: قبل أن يوحي اللَّه إليّ، ويبعثني رسولاً، وهذا هو التحقيق إن شاء اللَّه في معنى الآية.

وقول من قال من أهل العلم: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: من الجاهلين، راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه بالنسبة إلى ما علمه اللَّه من الوحي يعتبر قبله جاهلاً، أي: غير عالم بما أوحى اللَّه إليه.

وقد بيَّنا مرارًا في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرءان، وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات:

الإطلاق الأوّل : يطلق الضلال مرادًا به الذهاب عن حقيقة الشىء، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شىء ضلّ عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شىء ما، وليس من الضلال في الدين.

ومن هذا المعنى قوله هنا: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي، لأني في ذلك الوقت لم يوحَ إليّ، ومنه على التحقيق: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، أي: ذاهبًا عمّا علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي.

ومن هذا المعنى قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، أي: لا يذهب عنه علم شىء كائنًا

(6/89)

________________________________________

ما كان، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، فقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} ، أي: تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ،وقوله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، على التحقيق في ذلك كلّه. ومن هذا المعنى قول الشاعر:

وتظنّ سلمى أنني أبغي بها ... بدلاً أراها في الضلال تهيم

والإطلاق الثاني : وهو المشهور في اللغة، وفي القرءان هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحقّ إلى الباطل، وعن طريق الجنّة إلى النار، ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .

والإطلاق الثالث : هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضلّ الشىء إذا غاب واضمحلّ، ومنه قولهم: ضلّ السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحلّ، ولأجل هذا سمّت العرب الدفن في القبر إضلالاً؛ لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحلّ.

ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، يعنون: إذا دفنوا وأكلتهم الأرض، فضلوا فيها، أي: غابوا فيها واضمحلّوا.

ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارثبن أبي شمر الغساني:

فإن تحيي لا أملك حياتي وأن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل

فآب مضلّوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل

وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم:

أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها ... وفارسها في الدهر قيس بن عاصم

فقول الذبياني: فآب مضلّوه، يعني: فرجع دافنوه، وقول السعدي: أضلّت، أي: دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضًا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:

(6/90)

________________________________________

كنت القذى في موج أكدر مزيد ... قذف الأتى به فضل ضلالا

وقول الآخر:

ألم تسأل فتخبرك الديار ... عن الحي المضلل أين ساروا

وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقًا رابعًا، قال: ويطلق أيضًا على المحبّة، قال: ومنه قوله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، قال: أي في حبّك القديم ليوسف، قال: ومنه قول الشاعر:

هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحقّقا

عجبًا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

وزعم أيضًا أن منه قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، قال: أي محبًّ للهداية فهداك، ولا يخفى سقوط هذا القول، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} .

خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم، قد أوضحه تعالى وبيّن سببه في قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، وبيّن خوفه المذكور بقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} .

قوله تعالى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة "مريم" ،وغيرها.

وقوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} ، قال بعضهم: الحكم هنا هو النبوّة، وممن يروى عنه ذلك السدي.

والأظهر عندي: أن الحكم هو العلم الذي علّمه اللَّه إيّاه بالوحي، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

(6/91)

________________________________________

ظاهر هذه الآية الكريمة أن فرعون لا يعلم شيئًا عن ربّ العالمين، وكذلك قوله تعالى عنه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وقوله: {ئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ، ولكن اللَّه جلَّ وعلا بيَّن أن سؤال فرعون في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، تجاهل عارف أنه عبد مربوب لربّ العالمين، بقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقوله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ف} .

وقد أوضحنا هذا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وفي سورة "طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} .

قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ، إلى آخر القصّة.

قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية في سورة "طه" و "الأعراف" .

قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، ـ إلى قوله - {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} .

قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} ، وفي "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .

(6/92)

________________________________________

قوله تعالى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * َاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون، فيها جاء موضحًا في مواضع أُخر من كتاب اللَّه تعالى؛ كقوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * َالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} ، إلى قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .

وقد قدّمنا إيضاح هذا بالآيات القرءانية في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ، وفي سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .

قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} .

قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ، وفي سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {هَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا } .

قوله تعالى :{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

دلَّت هذه الآية الكريمة على أمرين:

الأول منهما أن الكفّار يوم القيامة، يتمنّون الردّ إلى الدنيا، لأن {لَوْ} في قوله هنا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا} للتمنّي، والـ {كَرَّةً} هنا: الرجعة إلى الدنيا، وإنهم زعموا أنهم إن ردّوا إلى الدنيا كانوا من المؤمنين المصدقين للرسل، فيما جاءت به، وهذان الأمران قد قدّمنا الآيات الموضحة لكل واحد منهما.

أمّا تمنّيهم الرجوع إلى الدنيا، فقد أوضحناه بالآيات القرءانية في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} . وأمّا زعمهم

(6/93)

________________________________________

أنهم إن ردّوا إلى الدنيا آمنوا، فقد بيّنا الآيات الموضحة له في "الأعراف" ، في الكلام على الآية المذكورة، وفي "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ،.

قد قدّمنا الكلام عليها في سورة "الحج" وفي غيرها، وتكلّمنا على قوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، في قصّة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب. وبيَّنا الآيات الموضحة لذلك في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .

قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} .

قد قدّمنا الكلام عليه في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى عن قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} .

قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} .

قد قدّمنا ما يدلّ عليه من القرءان في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} .

وأوضحناه بالآيات القرءانيّة في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، إلى قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وفي سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} .

قوله تعالى هنا عن نوح: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} ، أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً *

(6/94)

________________________________________

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} ، وقوله هنا: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} ، أي: احكم بيني وبينهم حكمًا، وهذا الحكم الذي سأل ربّه إيّاه هو إهلاك الكفّار، وإنجاؤه هو ومن آمن معه، كما أوضحه تعالى في آيات أُخر؛ كقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} ، وقوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} ، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا عن نوح: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قد بيَّن في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا؛ كقوله هنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وقوله هنا: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

و {الْمَشْحُونِ} المملوء، ومنه قول عبيد بن الأبرص:

شحنا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذلّ من الصّراط

والفلك: يطلق على الواحد والجمع، فإن أطلق على الواحد جاز تذكيره؛ كقوله هنا: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، وإن جمع أنّث، والمراد بالفلك هنا السفينة؛ كما صرّح تعالى بذلك في قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} .

قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} .

قال أكثر أهل العلم: إن أصحاب الأيكة هم مدين. قال ابن كثير: "وهو الصحيح"، وعليه فتكون هذه الآية بيّنتها الآيات الموضحة قصّة شعيب مع مدين، ومما استدلّ به أهل هذا القول، أنّه قال هنا لأصحاب الأيكة: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، وهذا الكلام ذكر اللَّه عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعدّدة؛ كقوله في "هود" : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا

(6/95)

________________________________________

الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدّمنا في سورة "الأعراف" ، قولنا: فإن قيل الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر اللَّه جلَّ وعلا في "الأعراف" أنه رجفة، وذكر في "هود" أنه صيحة، وذكر في "الشعراء" ، أنه عذاب يوم الظلّة.

فالجواب ما قاله ابن كثير رحمه اللَّه في تفسيره، قال: "وقد اجتمع عليهم ذلك كلّه، أصابهم عذاب يوم الظلّة، وهي سحابة أظلّتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، انتهى. وعلى القول بأن شعيبًا أرسل إلى أُمّتين: مدين وأصحاب الأيكة، وأن مدين ليسوا هم أصحاب الأيكة، فلا إشكال. وقد جاء ذلك في حديث ضعيف عن عبد اللَّه بن عمرو، وممن روي عنه هذا القول: قتادة، وعكرمة وإسحاق بن بشر".

وقد قدّمنا بعض الآيات الموضحة لهذا في سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، وأوضحنا هنالك أن نافعًا، وابن عامر، وابن كثير قرأوا {لَيْكَةَ} في سورة "الشعراء" ، و سورة "ص?" ، بلام مفتوحة أول الكلمة، وتاء مفتوحة آخرها من غير همز، ولا تعريف على أن اسم للقرية غير منصرف، وأن الباقين قرأوا: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} بالتعريف والهمز وكسر التاء، وأن الجميع اتّفقوا على ذلك في "ق" و "الحجر" ، وأوضحنا هنالك توجيه القراءتين في "الشعراء" و "ص?" ، ومعنى {الْأَيْكَةِ} في اللغة مع بعض الشواهد العربية.

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}

{الْجِبِلَّةَ} : الخلق، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} ، وقد استدلّ بآية "ي?س" ، المذكورة على آية "الشعراء" هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير، ومن ذلك قول الشاعر:

والموت أعظم حادث ... مما يمرّ على الجبلة

(6/96)

________________________________________

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .

أكَّد جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرءان العظيم تنزيل ربّ العالمين، وأنه نزل به الروح الأمين الذي هو جبريل على قلب نبيّنا صلى اللَّه عليهما وسلم ليكون من المنذرين به، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين، وما ذكره جلَّ وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع. أمّا كون هذا القرءان تنزيل رب العالمين، فقد أوضحه جلّ وعلا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، وقوله: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، بيّنه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ، أي: نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به، جاء مبيّنًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} ، أي: أنزل إليك لتنذر به، وقوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} . وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، ذكره أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {لسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} .

وقد بيَّنا معنى اللسان العربي بشواهده في سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرءان

(6/97)

________________________________________

على قلبه صلى الله عليه وسلم بالآيات القرءانية في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} .

قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} .

قد قدَّمنا هذه الآية الكريمة، مع ما يوضحها من الآيات في "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {ِلسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} .

واعلم أن كل صوت غير عربيّ تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة:

فلم أرَ مثلي شاقه صوت مثلها ولا عربيًّا شاقه صوت أعجما

قوله تعال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .

قوله: {سَلَكْنَاهُ} ، أي: أدخلناه، كما قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانيّة والشواهد العربية في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى :{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ، والضمير في {سَلَكْنَاهُ} ، قيل: للقرءان، وهو الأظهر. وقيل: للتكذيب والكفر، المذكور في قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} ، وهؤلاء الكفار الذين ذكر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وسبق في علم اللَّه أنهم أشقياء؛ كما يدلّ لذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، وقد أوضحنا شدّة تعنّت هؤلاء، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة "الفرقان" ، وفي سورة "بني إسرائيل" وغيرهما. وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} نعت لمصدر محذوف، أي: كذلك السلك، أي: الإدخال، {سَلَكْنَاهُ} ، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين، وإيضاحه على أنه القرءان: أن اللَّه أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه لأنه بلغتهم، ودخلت معانيه في قلوبهم، ولكنهم لم يؤمنوا به؛ لأن كلمة العذاب حقّت عليهم، وعلى أن الضمير في {سَلَكْنَاهُ} للكفر والتكذيب، فقوله عنهم: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} ، يدلّ على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم، أي: كذلك السلك سكناه، الخ.

(6/98)

________________________________________

قوله تعالى: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} .

لفظة: {هَلْ} هنا يراد بها التمنّي، والآية تدلّ على أنهم تمنّوا التأخير والإنظار، أي: الإمهال، وقد دلّت آيات أُخر على طلبهم ذلك صريحًا، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا؛ كقوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} ، وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، وقوله تعالى: {مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الرعد" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، وذكرنا طرفًا منه في سورة "يونس" ، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} .

قد قدَّمنا إيضاحه في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} .

قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} .

قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .

قوله تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الدالّة عليه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ

(6/99)

________________________________________

حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ،إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {ذِكْرِى} ، أعربه بعضهم مرفوعًا، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وأعربه بعضهم منصوبًا، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه:

منها أنه ما ناب عن المطلق، من قوله: {مُنذِرُونَ} ، لأن أنذر وذكر متقاربان.

ومنها أنه مفعول من أجله، أي: منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة.

ومنها أنها حال من الضمير في {مُنذِرُونَ} ، أي: ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة.

قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا} .

قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} .

قد أوضحنا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، بالدليل القرءاني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاطب بمثل هذا الخطاب، والمراد التشريع لأُمّته مع بعض الشواهد العربيّة، وقوله هنا: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية، جاء معناه في آيات كثيرة؛ كقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} ، وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}

هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين، لا ينافي الأمر بالإنذار العام، كما دلّت على ذلك الآيات القرءانية؛ كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، وقوله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

(6/100)

________________________________________

قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "المائدة" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وفي "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وقد وعدنا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، بأنا نوضح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة "الشعراء" ، في هذا الموضع، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسمّاة: "منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز" .

فقد قلنا فيها، ما نصّه: والجواب عن قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ، أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يدّ الإنسان وعضده وإبطه. قال تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ، والخفض مستعمل في معناه الحقيقي، الذي هو ضدّ الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما؛ كما قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع، ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر

وأنت الشهير بخفض الجنا ... ح فلا تكُ في رفعه أجدلا

وأما إضافة الجناح إلى الذلّ، فلا تستلزم المجاز كما يظنّه كثير؛ لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك: حاتم الجود.

فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:

لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي

جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئًا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني

(6/101)

________________________________________

بريشة من جناح الذل صببت لك شيئًا من ماء الملام، فلا حجّة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذلّ جناحًا، وإنما يراد بها خفض الجناح المتّصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود، ونظيره في القرءان الإضافة في قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} ، و {عَذَابَ الْهُونِ} ، أي: مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذلّ مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح، أن خفض الجناح كني به عن ذلّ الإنسان، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ، وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} ، وأمثال ذلك كثيرة في القرءان، وفي كلام العرب. وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدلّ عليه كلام السلف من المفسّرين.

وقال ابن القيّم في "الصواعق" : "إن معنى إضافة الجناح إلى الذلّ أن للذلّ جناحًا معنويًّا يناسبه لا جناح ريش، واللَّه تعالى أعلم"، انتهى. وفيه إيضاح معنى خفض الجناح.

والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كما أوضحنا، والعلم عند اللَّه تعالى. وقال الزمخشري في "الكشاف" ، في تفسير قوله تعالى: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، "فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتّبعون للرسول، فما قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

قلت: فيه وجهان، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، لمشارفتهم ذلك. وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتّبع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق، لا يخفض لهما الجناح.

والمعنى: المؤمنين من عشريتك وغيرهم، أي: أنذر قومك فإن اتّبعوك وأطاعوك، فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتّبعوك فتبرّأ منهم ومن أعمالهم من الشرك باللَّه وغيره"، انتهى منه.

(6/102)

________________________________________

والأظهر عندي في قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرءان العظيم؛ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} ، ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ، ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم، وقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ، وقوله تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} .

قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، وتكون في الآية قرينة، تدلّ على عدم صحته، وذكرنا أمثلة متعدّدة لذلك في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب.

وإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله هنا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، قال فيه بعض أهل العلم المعنى: وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين، أي: المؤمنين باللَّه كآدم ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل.

واستدلّ بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه، بقوله تعالى عن إبراهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} ، وممّن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي، وفي الآية قرينة تدلّ على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالى قبله مقترنًا به: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعًا، وأوّل الآية مرتبط بأخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك ومجلسك، ويرى {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: المُصلِّين، على أظهر الأقوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يتقلب في المصلّين قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وقال بعضهم: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: إلى الصلاة وحدك، و {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: المصلّين إذا صلُّيت بالناس.

وقوله هنا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، يدلّ على الاعتناء به صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .

(6/103)

________________________________________

وقوله: {وَتَوَكَّلْ} قرأه عامّة السبع غير نافع وابن عامر: {وَتَوَكَّلْ} بالواو، وقرأه نافع وابن عامر: {فَتَوَكَّلْ} بالفاء، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء، وقوله هنا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الفاتحة" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وبسطنا إيضاحه بالآيات القرءانية مع بيان معنى التوكّل في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} .

قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} .

{وَالشُّعَرَاءُ} : جمع شاعر، كجاهل وجهلاء، وعالم وعلماء. و {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} : جمع غاو وهو الضالّ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} يدلّ على أن اتّباع الشعراء من اتِّباع الشيطان، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} ، وقرأ هذا الحرف نافع وحده: {يَتَّبِعُهُمُ} بسكون التاء المثناة، وفتح الباء الموحدة، وقرأه الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} بتشديد المثناة، وكسر الموحدة، ومعناهما واحد.

وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة، في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، يدلّ على تكذيب الكفار في دعواهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر؛ لأن الذين يتبعهم الغاوون، لا يمكن أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم.

ويوضح هذا المعنى ماجاء من الآيات، مبيّنًا أنهم ادّعوا عليه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر وتكذيب اللَّه لهم في ذلك، أما دعواهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقوله تعالى: {أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . وأمّا تكذيب اللَّه لهم في ذلك، فقد ذكره في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ؛ لأن

(6/104)

________________________________________

قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون.

مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: "لأن يمتلىء جوف رجل قيحًا يريه خير له من أن يمتلىء شعرًا" ، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقوله في الحديث: "يريه" بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء، مضارع ورى القيح جوفه، يريه، وريا إذا أكله وأفسده، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد.

واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.

ومن الأدلّة القرءانيّة على ذلك أنه تعالى لمّا ذمّ الشعراء، بقوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} .

وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرّح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرءان، وطاعة اللَّه تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمّن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيّات، ونحو ذلك.

المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدًا، هل يقام عليه الحدّ؟ على قولين:

أحدهما : أنه يقام عليه لأنه أقرّ به، والإقرار تثبت به الحدود.

والثاني : أنه لا يحد بإقراره في الشعر؛ لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد، واقع لا نزاع فيه.

قال مقيّده -عفا اللَّه عنه وغفر له- : أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقرّ في شعره بما يستوجب الحدّ، لا يقام عليه الحدّ؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا صرّح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحدّ،

(6/105)

________________________________________

ولكن الأظهر أنه إن أقرّ بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحدّ به، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصّة عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة.

قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية الكريمة: "وقد ذكر بن محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في "الطبقات" ، والزبير بن بكّار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه استعمل النعمان بن عديّ بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال:

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم

إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم

فإن كنت ندماني فبالأكبر سقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم

فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، قال: "إي واللَّه إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، {حم* تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، أما بعد: فقد بلغني قولك:

لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم

وايم اللَّه إنه ليسوءني، وقد عزلتك. فلمّا قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال: واللَّه يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وما ذلك الشعر إلا شىء طفح على لساني، فقال عمر: أظنّ ذلك، ولكن واللَّه لا تعمل لي عملاً أبدًا، وقد قلت ما قلت"، فلم يذكر أنه حدّه على الشراب، وقد ضمّنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به"، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا.

وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمانبن عبد الملك، لما سمع قول الفرزدق:

فبتن بجانبي مصرعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام

قال له: "قد وجب عليك الحدّ"، فقال الفرزدق: "يا أمير المؤمنين? قد درأ اللَّه عني

(6/106)

________________________________________

الحدّ، بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} "، فلم يحدّه مع إقراره بموجب الحدّ.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} .

هذا الذي ذكره هنا عن الشعراء من أنهم يقولون ما لا يفعلون، بيّن في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده جلَّ وعلا، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، والمقت في لغة العرب: البغض الشديد، فقول الإنسان ما لا يفعل، كما ذكر عن الشعر يبغضه اللَّه، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} ، مع شواهده العربية.

قوله تعالى: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} .

أثنى اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم اللَّه كثيرًا، وهذا الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر اللَّه، أمر به في آيات أُخر، وبيَّن جزاءه؛ قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} .

قوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له؛ كقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، في آخر سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} .

(6/107)

________________________________________

قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

المنقلب هنا المرجع والمصير، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي، وقد تقرّر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول.

والمعنى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أيّ مرجع يرجعون، وأيّ مصير يصيرون، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون، أي: يعلمون العاقبة السيّئة التي هي مآلهم، ومصيرهم ومرجعهم، جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} ، وقوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.

وقوله: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ} ، ما ناب عن المطلق من قوله: {يَنْقَلِبُونَ} ، وليس مفعولاً به، لقوله: {وَسَيَعْلَمُ} ، قال القرطبي: و {أَيُّ} منصوب {يَنْقَلِبُونَ} ، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبًا بـ {سَيَعْلَمُ} ، لأن أيًا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض، انتهى منه. والعلم عند اللَّه تعالى

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج33. كتاب مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

  ج33. كتاب   مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إ...