القران كاملا مشاري

حمل المصحف بكل صيغه

 حمل المصحف

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 يناير 2023

 تفسير الأيات من156 الي159من سورة الأعراف

 تفسير الأيات من156 الي159من سورة اللأعراف


 وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

الأعراف - تفسير ابن كثير

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دَعَوُا الله قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، قال موسى: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } الآية.

وقال السُّدِّي: إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه. فأخذتهم

الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم (1) وقد أهلكت خيارهم؟ { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ }

وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيّرَ فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهَّروا، وطهِّروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طُور سَيْناء، لميقات وقَّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم -فقال له السبعون -فيما ذكر لي -حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه، [فقالوا] (2) لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تَغَشَّى الجبل كله. ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه (3) الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا وقعوا سُجُودا (4) فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الرجفة -وهي الصاعقة -فافتُلتَت (5) أرواحهم، فماتوا جميعا. فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } قد سفهوا، أفنهلك من ورائي من بني إسرائيل.

وقال سفيان الثوري: حدثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السَّلُولي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جَبَل، فنام (6) هارون على سرير، فتوفاه الله، عز وجل. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه الله، عز وجل. قالوا [له] (7) أنت قتلته، حَسَدتنا على خُلقه ولينه -أو كلمة نحوها -قال: فاختاروا من شئتم. قال: فاختاروا سبعين رجلا. قال: فذلك قوله تعالى: { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا } فلما انتهوا إليه قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكن توفاني الله. قالوا: يا موسى، لن تعصى بعد اليوم. قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى، عليه السلام، يرجع يمينًا وشمالا وقال: يا { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم.

هذا أثر غريب جدا، وعمارة بن عبد (8) هذا لا أعرفه. وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي، فذكره (9)

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جُرَيْج: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى: { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا }

__________

(1) في أ: "أتيتهم".

(2) زيادة من أ.

(3) في ك: "كلم".

(4) في أ: "سجدا".

(5) في أ: "فالتقت".

(6) في أ: "فقام".

(7) زيادة من ك.

(8) في ك: "عبيد".

(9) تفسير الطبري (13/142) وفي إسناده عمارة بن عبد السلولي. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: "عمارة بن عبد، عن علي، مجهول لا يحتج به. قاله أبو حاتم. وقال أحمد: مستقيم الحديث لا يروى عنه غير أبي إسحاق".

وقوله: { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف. ولا معنى له غير ذلك؛ يقول: إن الأمرُ إلا أمرُك، وإن الحكمُ إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضِل لمن هَدَيت، ولا مُعطِي لما مَنَعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر.

وقوله: { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } الغَفْر هو: الستر، وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } أي: لا يغفر الذنوب إلا أنت، { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } أي: أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم [تفسير] (1) ذلك في سورة البقرة. [الآية:201]

{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي: تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم التيمي، والسُّدِّي، وقتادة، وغير واحد. وهو كذلك لُغَة.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن نُجيَّ (2) عن علي [رضي الله عنه] (3) قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ }

جابر -هو ابن يزيد الجُعْفي -ضعيف.

قال تعالى مجيبا لموسى في قوله: { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] } (4) الآية: { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] } (5) أي: أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.

وقوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر:7]

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيري، عن أبي عبد الله الجُشَمي، حدثنا جُنْدُب -هو ابن عبد الله البَجَلي، رضي الله عنه -قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم، ارحمني ومحمدًا، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟" قالوا: بلى. قال: "لقد حَظَرْت (6) رحمةً واسعة؛ إن الله، عز

__________

(1) زيادة من ك، م، أ.

(2) في أ: "يحيى".

(3) زيادة من أ.

(4) زيادة من ك، م، أ.

(5) زيادة من م.

(6) في د: "حجرت".

وجل، خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين (1) رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ " .

رواه أبو داود عن علي بن نصر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به (2)

وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عز وجل، مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة".

تفرد (3) بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سُلَيمان -هو ابن طِرْخان -وداود بن أبي هند كلاهما، عن أبي عثمان -واسمه عبد الرحمن بن مل (4) -عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به (5)

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن النبي (6) صلى الله عليه وسلم قال: "لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين (7) الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه". تفرد به أحمد من هذا الوجه (8)

وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله مائة رحمة، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم الناس والوحش والطير".

ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به (9)

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه".

هذا حديث غريب (10) جدا، "وسعد" هذا لا أعرفه (11)

وقوله: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية، يعني: فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام:54]

__________

(1) في ك، م: "تسعا وتسعون"، وفي أ: "تسع وتسعون".

(2) المسند (4/312) وسنن أبي داود برقم (4885).

(3) في ك، م، أ: "انفرد".

(4) في أ: "بن مثل".

(5) المسند (5/439) وصحيح مسلم برقم (2753).

(6) في ك، أ: "عن النبي"، وفي م: "عن رسول الله".

(7) في أ: "من".

(8) المسند (3/55).

(9) المسند (3/55)، وسنن ابن ماجة برقم (4294).

(10) في أ: "هذا الأثر".

(11) المعجم الكبير (3/168) وقال الهيثمي في المجمع (10/216): "سعيد بن طالب أبو غيلان وثقه أبو زرعة وابن حبان، وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات".

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

وقوله: { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي: سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون، أي: الشرك والعظائم من الذنوب.

{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قيل: زكاة النفوس. وقيل: [زكاة] (1) الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما؛ فإن الآية مكية { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي: يصدقون.

{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }

{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه (2) وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد:

حدثنا إسماعيل، عن الجُرَيري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب، قال: جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعتي (3) قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد (4) في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟" فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه، إي: والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك (5) رسول الله فقال: "أقيموا اليهودي عن أخيكم". ثم ولى كفنه (6) والصلاة عليه (7)

هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح، عن أنس.

وقال الحاكم صاحب المستدرك: أخبرنا أبو محمد -عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي (8) حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه (9) وإلا لم نكلم

__________

(1) زيادة من أ.

(2) في ك، م، أ: "ببعثته".

(3) في د: "بيعي".

(4) في أ: "هل تجدني".

(5) في ك: "وأشهد أنك".

(6) في ك، م، أ: "ثم ولى كفنه وحنطه".

(7) المسند (5/411).

(8) في أ: "البكري".

(9) في د: "تكلمنا".

الرسول (1) فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال: تكلموا (2) فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ (3) فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا، والله (4) لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا (5) صلى الله عليه وسلم. قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال: قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال؟ قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك. فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة (6) فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح، فأرسل (7) إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا: أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل (8) لنا أن نحييك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك. قال: وكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها. قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها. قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم -لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت (9) من نصف ملكي. قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها (10) تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كَثير، فأقمنا ثلاثًا.

فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم، عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا

__________

(1) في ك: "الرسل".

(2) في ك: "فتكلموا".

(3) في أ: "سود".

(4) في د، ك، م: "فوالله".

(5) في أ: "نبينا محمد".

(6) في أ: "غرفة له".

(7) في د: "قال فأرسل".

(8) في د، م: "لا يحل".

(9) في د. "وأني قد خرجت".

(10) في ك، م: "أن".

نوح، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (1) حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إبراهيم، عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر (2) فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (3) أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وبكينا. قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء (4) وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مقلَّص (5) الشفة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى (6) عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون بن عمران، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوط، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال هذا إسحاق، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (7) حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. [قال] (8) هذا يعقوب، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جد نبيكم، عليهما السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (9) حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يوسف، عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج (10) حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين ضخم البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود، عليه السلام.

__________

(1) في د، ك، أ: "فاستخرج منه".

(2) في أ: "آخر فاستخرج منه حريرة سوداء".

(3) في د، م: "قال".

(4) في أ: "جسماء".

(5) في د: "مفلطس".

(6) في م: "موسى بن عمران".

(7) في د، ك، أ: "فاستخرج منه".

(8) زيادة من أ.

(9) في ك، م، أ: "فاستخرج منه".

(10) في ك، م، أ: "فاستخرج منه".

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (1) حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان بن داود، عليه (2) السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ (3) شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام.

قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال: إن آدم، عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد الله به خيرًا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.

هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب "دلائل النبوة"، عن الحاكم إجازة، فذكره (4) وإسناده لا بأس به.

وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا" قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال: "قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا".

وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي -فذكر بإسناده نحوه (5) وزاد بعد قوله: "ليس بفظ ولا غليظ": "ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".

ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق "التوراة" على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم.

__________

(1) في ك، م، أ: "فاستخرج منه".

(2) في أ: "عليهما".

(3) في د: "وإذا رجل شاب".

(4) دلائل النبوة (1/385).

(5) تفسير الطبري (13/164) وصحيح البخاري برقم (2125).

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي (1) حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم -من ولد جبير بن مطعم -قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد -وهي جدتي -عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال: خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال: هل عندكم رجل نبيًا؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم. فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال: فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال: إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر، رضي الله عنه (2)

وقال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير (3) حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قَرْنا. قال: فرفع عمر الدرة وقال (4) قرن مه؟ قال: قرن حديد، أمير شديد. قال: فكيف تجد الذي بعدي؟ قال: أجد خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثا. قال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجد صدأ حديد. قال: فوضع عمر يده على رأسه وقال: يا دفراه، يا دَفْراه! قال: يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق (5)

وقوله تعالى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم (6) في الكتب المتقدمة، وهكذا كان (7) حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله [تعالى] (8) به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل:36] وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر -هو العقدي عبد الملك بن عمرو -حدثنا سليمان -هو ابن بلال -عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي

__________

(1) في هـ: "محمد بن إدرس بن الحميدي"، وفي بقية النسخ: "محمد بن إدريس بن وراق بن الحميدي" والمثبت من الجرح والتعدل 213/204 مستفاد من هامش ط. الشعب.

(2) المعجم الكبير (2/125) ورواه أيضا في الأوسط برقم (3496) "مجمع البحرين" وقال: "لا يروى عن جبير إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن إدريس". قال الهيثمي في المجمع (8/233): "فيه من لم أعرفهم".

(3) في جميع النسخ: "عمر بن حفص أبو عمر الضرير"، والمثبت من سنن أبي داود.

(4) في أ: "فقال".

(5) سنن أبي داود برقم (4656)، "والدفر: النتن".

(6) في م: "صلوات الله وسلامه عليه".

(7) في ك، م، أ: "كانت".

(8) زيادة من م.

الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه" (1)

هذا [حديث] (2) جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [الستة] (3)

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، [والذي هو أنجي] (4) والذي هو أتقى (5) (6)

ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه (7)

وقوله: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.

وقال بعض العلماء: كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين.

وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.

وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه (8) كلام طويل أيضا.

وقوله: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي: إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة". وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما (9) بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره.

__________

(1) المسند من حديث أبي أسيد (3/497) ومن حديث أبي حميد (5/425).

(2) زيادة من أ.

(3) زيادة من أ.

(4) زيادة من أ.

(5) في أ: "أبقى".

(6) المسند (1/122).

(7) المسند (1/130).

(8) في م: "وفي ذلك".

(9) في أ: "حين".

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

وقد كانت الأمم الذين (1) كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها، وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل" (2) وقال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3) ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت (4)

وقوله: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } أي: عظموه ووقروه، { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ } أي: القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، { أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا والآخرة.

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }

يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ } يا محمد: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام:19] وقال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود:17] وقال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } [آل عمران:20] والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول الله إلى الناس كلهم.

قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر (5) حدثني بسر (6) ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يقول: كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فقال أبو الدرداء: ونحن عنده -فقال (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما صاحبكم هذا فقد غامر" -أي:

__________

(1) في ك: "التي".

(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5269) ومسلم في صحيحه برقم (127) من حديث أبي هريرة.

(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2045) من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، وقد سبق تخريجه وذكر شواهده.

(4) صحيح مسلم برقم (126) من حديث ابن عباس، رضي الله عنه.

(5) في أ: "زيد".

(6) في أ: "بشر".

(7) في ك، م، أ: "قال".

غاضب وحاقد -قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر -قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت". انفرد به البخاري (1)

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي -ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا" (3) إسناده جيد، ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه (4) يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: "لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة (5) وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها (6) وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد (7) وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" (8) إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.

وقال أيضا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة" (10)

وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل (11) من هذه الأمة: يهودي ولا (12) نصراني، ثم لا يؤمن (13) بي إلا دخل النار" (14)

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4640).

(2) زيادة من أ.

(3) المسند (1/301) قال الهيثمي في المجمع (8/258): "رجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث".

(4) في أ: "من الأنصار".

(5) في ك: "كافة".

(6) في أ: "كلها".

(7) في ك: "مسجدا".

(8) المسند (2/222).

(9) في م: "عن النبي".

(10) المسند (4/496).

(11) في م: "أحد".

(12) في م: "أو".

(13) في م: "ثم يموت ولا يؤمن".

(14) هذا لفظ حديث أبي هريرة وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (153) وحديث أبي موسى الأشعري بهذا اللفظ رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11241).

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس -وهو سليم بن جبير -عن أبي هريرة، عن رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" . تفرد به أحمد (2)

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل (3) لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا (4) وأعطيت الشفاعة -وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا" (5)

وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث (6) جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] (7) يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة" (8)

وقوله: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } صفة الله تعالى، في قوله (9) { رَسُولُ اللَّهِ } أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم.

وقوله: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، { النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أي: الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال: { النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي: يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه { وَاتَّبِعُوهُ } أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي: إلى الصراط المستقيم.

{ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) }

يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران:113]، وقال تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران:199]، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ] (10) } [القصص:52-54] ،

__________

(1) في ك: "عن النبي".

(2) المسند (2/350).

(3) في أ: "ولم تحل لأحد".

(4) في ك: "مسيرة شهر".

(5) المسند (4/416) وقال الهيثمي في المجمع (8/258): "رجاله رجال الصحيح".

(6) في ك، م، أ: "رواية".

(7) زيادة من أ.

(8) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).

(9) في ك: "قول".

(10) زيادة من م، وفي هـ: "الآية".

وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [البقرة:121]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء:107-109]

وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم، وكفروا -وكانوا اثني عشر سبطا -تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الإسراء:104] و"وعد الآخرة": عيسى ابن مريم (1) -قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفًا.

وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد (2)

__________

(1) تفسير الطبري (13/173).

(2) في أ: "سهل".

 

الأعراف - تفسير القرطبي

الآية: 156 {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ}

قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي وفقنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات. {وَفِي الْآخِرَةِ} أي جزاء عليها. {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا؛ قاله مجاهد وأبو العالية وقتادة. والهود: التوبة؛ وقد تقدم في "البقرة".

قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} أي المستحقين له، أي هذه الرجفة والصاعقة عذاب مني أصيب به من أشاء. وقيل: المعنى {مَنْ أَشَاءُ} أي من أشاء أن أضله.

قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} عموم، أي لا نهاية لها، أي من دخل فيها لم تعجز عنه. وقيل: وسعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء؛ فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون؛ فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الآية. فخرجت الآية عن العموم، والحمد لله. روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة.

الآية: 157 {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

فيه عشر مسائل:-

الأولى: روى يحيى بن أبي كثير عن نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى: أن أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ - إلى قوله – المُفْلِحُونَ} . فجعلها لهذه الأمة. فقال موسى: يا رب، اجعلني نبيهم. فقال: نبيهم منهم. قال: رب اجعلني منهم. قال: إنك لن تدركهم. فقال موسى: يا رب، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا. فأنزل الله عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]. فرضي موسى. قال نوف: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم. وذكر أبو نعيم أيضا هذه القصة من حديث الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال حدثني نوف البكالي إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الذي حفظ غيبتكم وأخذ لكم بعد سهمكم وجعل وفادة القوم لكم. وذلك أن موسى عليه السلام

وفد ببني إسرائيل فقال الله لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيثما صليتم فيها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن من صلى فيمن لم أقبل صلاته المقبرة والحمام والمرحاض. قالوا: لا، إلا في الكنيسة. قال: وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء. قالوا: لا، إلا بالماء. قال: وجعلت لكم حيثما صلى الرجل فكان وحده تقبلت صلاته. قالوا: لا، إلا في جماعة.

الثانية: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في، قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس وابن جبير وغيرهما. و {يَتَّبِعُونَ} يعني في شرعه ودينه وما جاء به. والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم اسمان لمعنيين؛ فإن الرسول أخص من النبي. وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال له: "قل آمنت بنبيك الذي أرسلت" خرجه في الصحيح. وأيضا فإن في قوله: "وبرسولك الذي أرسلت" تكرير الرسالة؛ وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه. بخلاف قوله: "ونبيك الذي أرسلت" فإنهما لا تكرار فيهما. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا؛ لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة. فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول الله. وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

الثالثة: قوله تعالى: {الْأُمِّيَّ} هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها؛ قال ابن عزيز. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب؛ قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]. وروي في الصحيح عن ابن عمر عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" . الحديث. وقيل: نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة أم القرى؛ ذكره النحاس.

الرابعة: قوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} روى البخاري قال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} ، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلقا. في غير البخاري قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفا؛ إلا أن كعبا قال بلغته: قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. قال ابن عطية: وأظن هذا وهما أو عجمة. وقد روي عن كعب أنه قالها: قلوبا غلوفا وآذانا صموما وأعينا عموميا. قال الطبري: هي لغة حميرية. وزاد كعب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشأم، وأمته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون إلى أنصاف ساقهم، رعاة الشمس، يصلون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].

الخامسة: قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عطاء: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام . {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} عبادة الأصنام، وقطع الأرحام.

السادسة: قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات؛ فكأنه وصفها بالطيب؛ إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات؛ ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره. وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم؛ إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها؛ لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع. ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات؛ فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى. والناس على هذين القولين.

السابعة: قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر: الثقل؛ قال مجاهد وقتادة وابن جبير. والإصر أيضا: العهد؛ قال ابن عباس والضحاك والحسن. وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال؛ فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال؛ كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها؛ فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وروي: جلد أحدهم. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره.

الثامنة: قوله تعالى: {وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت؛ فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه. هذا قول جمهور المفسرين. ولم يكن فيهم الدية، وإنما كان القصاص. وأمروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم، إلى غير ذلك. فشبه ذلك بالأغلال؛ كما قال الشاعر:

فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

عاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب. ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان:

اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه

أي لزمك عارها. يقال: طوق فلان كذا إذا لزمه.

التاسعة: إن قيل: كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد؛ فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة. وقرأ ابن عامر {آصارهم} بالجمع؛ مثل أعمالهم. فجمعه لاختلاف ضروب المآثم. والباقون بالتوحيد؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه. وقد أجمعوا على التوحيد في قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} [البقرة: 286]. وهكذا كلما يرد عليك من هذا المعنى؛ مثل {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]. {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43]. و {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. كله بمعنى الجمع.

قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ} أي وقروه ونصروه. قال الأخفش: وقرأ الجحدري وعيسى {وَعَزَّرُوهُ} بالتخفيف. وكذا {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12]. يقال: عزره يعزره ويعزره. {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} القرآن {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {الفَلاَحُ} الظفر بالمطلوب. وقد تقدم هذا.

الآية: 158 {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}

ذكر أن موسى بشر به، وأن عيسى بشر به. ثم أمره أن يقول بنفسه {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} .و {كَلِمَاتِهِ} كلمات الله تعالى كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن.

الآية: 159 {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

أي يدعون الناس إلى الهداية. و {يَعْدِلُونَ} معناه في الحكم. وفي التفسير: إن هؤلاء قوم من وراء الصين، من وراء نهر الرمل، يعبدون الله بالحق والعدل، آمنوا بمحمد وتركوا السبت، يستقبلون قبلتنا، لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منا إليهم أحد. فروي أنه لما وقع الاختلاف بعد موسى كانت منهم أمة يهدون بالحق، ولم يقدروا أن يكونوا بين ظهراني بني إسرائيل حتى أخرجهم الله إلى ناحية من أرضه في عزلة من الخلق، فصار لهم سرب في الأرض، فمشوا فيه سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين؛ فهم على الحق إلى الآن. وبين الناس وبينهم بحر لا يوصل إليهم بسببه. ذهب جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة المعراج فآمنوا به وعلمهم سورا من القرآن وقال لهم: هل لكم مكيال وميزان؟ قالوا: لا، قال: فمن أين معاشكم؟ قالوا: نخرج إلى البرية فنزرع، فإذا حصدنا وضعناه هناك، فإذا احتاج أحدنا إليه يأخذ حاجته. قال: فأين نساؤكم؟ قالوا: في ناحية منا، فإذا احتاج أحدنا لزوجته صار إليها في وقت الحاجة. قال: فيكذب أحدكم في حديثه؟ قالوا: لو فعل ذلك أحدنا أخذته لظى، إن النار تنزل فتحرقه. قال: فما بال بيوتكم مستوية؟ قالوا لئلا يعلو بعضنا على بعض. قال: فما بال قبوركم على أبوابكم؟ قالوا: لئلا نغفل عن ذكر الموت. ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ليلة الإسراء أنزل عليه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] يعني أمة محمد عليه السلام. يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك. وقيل: هم الذين آمنوا بنبينا محمد عليه السلام من أهل الكتاب. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه، ولم يبدلوا ولم يقتلوا الأنبياء.

الأعراف - تفسير الدر المنثور

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة} قَالَ: فَلم يُعْطهَا مُوسَى {قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء} إِلَى قَوْله {المفلحون}

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله {واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة} قَالَ: فَكتب الرَّحْمَة يَوْمئِذٍ لهَذِهِ الْأمة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج {واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حسنه} قَالَ: مغْفرَة

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم من طرق عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {إِنَّا هدنا إِلَيْك} قَالَ: تبنا إِلَيْك

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن سعيد ين جُبَير فِي قَوْله {إِنَّا هدنا إِلَيْك} قَالَ: تبنا

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن أبي وجرة السَّعْدِيّ - وَكَانَ من أعلم النَّاس بِالْعَرَبِيَّةِ - قَالَ: لَا وَالله لَا أعلمها فِي كَلَام أحد من الْعَرَب (هدنا) قيل: فَكيف قَالَ: هدنا بِكَسْر الْهَاء يَقُول: ملنا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن الْحسن وَقَتَادَة فِي قَوْله {ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَا: وسعت فِي الدُّنْيَا الْبر والفاجر وَهِي يَوْم الْقِيَامَة للَّذين اتَّقوا خَاصَّة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن عَطاء فِي قَوْله {ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَ: رَحمته فِي الدُّنْيَا على خلقه كلهم يَتَقَلَّبُونَ فِيهَا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن سماك بن الْفضل

أَنه ذكر عِنْده أَي شَيْء أعظم فَذكرُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ سَاكِت فَقَالُوا: مَا تَقول يَا أَبَا الْفضل فَقَالَ: مَا من شَيْء أعظم من رَحمته قَالَ الله تَعَالَى {ورحمتي وسعت كل شَيْء}

وَأخرج أَحْمد وَأَبُو دَاوُد عَن جُنْدُب بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِي فَأَنَاخَ رَاحِلَته ثمَّ عقلهَا ثمَّ صلى خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نَادَى: اللهمَّ ارْحَمْنِي ومحمداً وَلَا تشرك فِي رَحْمَتنَا أحدا

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد حظرت رَحْمَة وَاسِعَة أَن الله خلق مائَة رَحْمَة فَأنْزل رَحْمَة يتعاطف بهَا الْخلق جنّها وإنسها وبهائمها وَعِنْده تِسْعَة وَتسْعُونَ

وَأخرج أَحْمد وَمُسلم عَن سلمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لله مائَة رَحْمَة فَمِنْهَا رَحْمَة يتراحم بهَا الْخلق وَبهَا تعطف الوحوش على أَوْلَادهَا وَأخر تسع وَتسْعُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن سلمَان مَوْقُوفا وَابْن مرْدَوَيْه عَن سلمَان قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله خلق مائَة رَحْمَة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض كل رَحْمَة مِنْهَا طباق مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فأهبط مِنْهَا رَحْمَة إِلَى الأَرْض فِيهَا تراحم الْخَلَائق وَبهَا تعطف الوالدة على وَلَدهَا وَبهَا يشرب الطير والوحوش من المَاء وَبهَا تعيش الْخَلَائق فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة انتزعها من خلقه ثمَّ أفاضها على الْمُتَّقِينَ وَزَاد تسعا وَتِسْعين رَحْمَة ثمَّ قَرَأَ {ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} 0 وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليدخلن الْجنَّة الْفَاجِر فِي دينه الأحمق فِي معيشته وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليدخلن الْجنَّة الَّذِي قد محشته النَّار بِذَنبِهِ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليغفرن الله يَوْم الْقِيَامَة مغْفرَة يَتَطَاوَل لَهَا إِبْلِيس رَجَاء أَن تصيبه

وَأخرج أَحْمد وَعبد بن حميد فِي مُسْنده وَأَبُو يعلى وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ

أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ افتخرت الْجنَّة وَالنَّار فَقَالَت النَّار: يَا رب يدخلني الْجَبَابِرَة والملوك والأشراف

وَقَالَت الْجنَّة: يَا رب

يدخلني الْفُقَرَاء والضعفاء وَالْمَسَاكِين

فَقَالَ الله للنار: أَنْت عَذَابي أُصِيب بك من أَشَاء وَقَالَ للجنة: أَنْت رَحْمَتي وسعت كل شَيْء وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن أبي بكر الْهُذلِيّ قَالَ: لما نزلت {ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَ إِبْلِيس: يَا رب وَأَنا من الشَّيْء

فَنزلت {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} الْآيَة

فنزعها الله من إِبْلِيس

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ قَالَ: لما نزلت {ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَ إِبْلِيس: وَأَنا من الشَّيْء

فنسخها الله فَأنْزل {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} إِلَى آخر الْآيَة

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج قَالَ: لما نزلت {ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَ إِبْلِيس: أَنا من كل شَيْء

قَالَ الله {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} قَالَت يهود: فَنحْن نتقي ونؤتي الزَّكَاة

قَالَ الله {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي}

فعزلها الله عَن إِبْلِيس وَعَن الْيَهُود وَجعلهَا لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة نَحوه

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة {ورحمتي وسعت كل شَيْء} مد إِبْلِيس عُنُقه فَقَالَ: أَنا من الشَّيْء

فَنزلت {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ} فمدت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أعناقها فَقَالُوا: نَحن نؤمن بِالتَّوْرَاةِ والإِنجيل ونؤدي الزَّكَاة

فاختلسها الله من إِبْلِيس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى فَجَعلهَا لهَذِهِ الْأمة خَاصَّة فَقَالَ {الَّذين يتبعُون} الْآيَة

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَزَّار فِي مُسْنده وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سَأَلَ مُوسَى ربه مَسْأَلَة فَأَعْطَاهَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَوْله {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه} إِلَى قَوْله {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} فَأعْطى مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل شَيْء

سَأَلَ مُوسَى ربه فِي هَذِه الْآيَة

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} قَالَ: كتبهَا الله لهَذِهِ الْأمة

وَأخرج الْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دَعَا مُوسَى فَبعث الله سبعين فَجعل دعاءه حِين دَعَاهُ لمن آمن بِمُحَمد وَاتبعهُ قَوْله {فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين} {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} وَالَّذين يتبعُون مُحَمَّدًا وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} قَالَ: يَتَّقُونَ الشّرك

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ} أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مُوسَى: يَا لَيْتَني أخرت فِي أمة مُحَمَّد

فَقَالَت الْيَهُود لمُوسَى: أيخلق رَبك خلقا ثمَّ يعذبهم فَأوحى الله إِلَيْهِ: يَا مُوسَى ازرع

قَالَ: قد زرعت

قَالَ: أحصد

قَالَ: قد حصدت

قَالَ: دس

قَالَ: قد دست

قَالَ: ذَر

قَالَ: قد ذريت

قَالَ: فَمَا بَقِي قَالَ: مَا بَقِي شَيْء فِيهِ خير

قَالَ: كَذَلِك لَا أعذب من خلقي إِلَّا من لَا خير فِيهِ

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ

أَنه سُئِلَ عَن أبي بكر وَعمر فَقَالَ: إنَّهُمَا من السّبْعين الَّذين سَأَلَهُمْ مُوسَى بن

عمرَان فاخراً حَتَّى أعطيهما مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَالَ: وتلا هَذِه الْآيَة {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} الْآيَة

وَأخرج ابْن مردوية عَن عَليّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام فَرَكزَ لِوَاءُهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَغدا بِسَائِر الْمَلَائِكَة إِلَى الْمَسَاجِد الَّتِي يجمع فِيهَا يَوْم الْجُمُعَة فركزوا أَلْوِيَتهم وراياتهم بِأَبْوَاب الْمَسَاجِد ثمَّ نشرُوا قَرَاطِيس من فضَّة وأقلاماً من ذهب ثمَّ كتبُوا الأول فَالْأول من بكَّر إِلَى الْجُمُعَة فَإِذا بلغ من فِي الْمَسْجِد سبعين رجلا قد بَكرُوا طَوَوْا الْقَرَاطِيس فَكَانَ أُولَئِكَ السبعون كَالَّذِين اخْتَارَهُمْ مُوسَى من قومه وَالَّذين اخْتَارَهُمْ مُوسَى من قومه كَانُوا أَنْبيَاء

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رَاح منا إِلَى الْجُمُعَة سَبْعُونَ رجلا كَانُوا كسبعين مُوسَى الَّذين وفدوا إِلَى رَبهم أَو أفضل

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي قَوْله {النَّبِي الْأُمِّي} قَالَ: كَانَ لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي} قَالَ: هُوَ نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أُمِّيا لَا يكْتب

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا كَالْمُودعِ فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي أَنا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي أَنا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وَلَا نَبِي بعدِي أُوتيت فواتح الْكَلم وخواتمه وجوامعه وَعلمت خَزَنَة النَّار وَحَملَة الْعَرْش فَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا مَا دمت فِيكُم فَإِذا ذهب بِي فَعَلَيْكُم كتاب الله أحلُّوا حَلَاله وحرِّموا حرَامه

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّا أمة أُميَّة لَا تكْتب وَلَا تحسب وان الشَّهْر كَذَا وَكَذَا وَضرب بِيَدِهِ سِتّ مَرَّات وَقبض وَاحِدَة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ من طَرِيق مجَالد

قَالَ: حَدثنِي عون بن عبد الله بن عتبَة عَن أَبِيه قَالَ: مَا مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَرَأَ وَكتب فَذكرت هَذَا الحَدِيث لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ: صدق سَمِعت أَصْحَابنَا يَقُولُونَ ذَلِك

قَوْله تَعَالَى {الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة والإِنجيل}

أخرج ابْن سعد وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة والإِنجيل} قَالَ: يَجدونَ نَعته وَأمره ونبوّته مَكْتُوبًا عِنْدهم

وَأخرج ابْن سعد عَن قَتَادَة قَالَ: بلغنَا أَن نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الْكتب مُحَمَّد رَسُول الله لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخوب فِي الْأَسْوَاق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مثلهَا وَلَكِن يعْفُو ويصفح أمته الْحَمَّادُونَ على كل حَال

وَأخرج ابْن سعد وَأحمد عَن رجل من الْأَعْرَاب قَالَ: جلبت حلوية إِلَى الْمَدِينَة فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا فرغت من بيعتي قلت: لألقين هَذَا الرجل ولأسمعن مِنْهُ

فتلقاني بَين أبي بكر وَعمر يمشيان فتبعتهما حَتَّى أَتَيَا على رجل من الْيَهُود ناشر التَّوْرَاة يقْرؤهَا يعزي بهَا نَفسه عَن ابْن لَهُ فِي الْمَوْت كأحسن الفتيان وأجمله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْشدك بِالَّذِي أنزل التَّوْرَاة هَل تجدني فِي كتابك ذَا صِفَتي ومخرجي فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَي لَا

فَقَالَ ابْنه: أَي وَالَّذِي أنزل التَّوْرَاة إِنَّا لنجد فِي كتَابنَا صِفَتك ومخرجك وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله

فَقَالَ: أقِيمُوا الْيَهُودِيّ عَن أخيكم ثمَّ ولي كَفنه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ

وَأخرج ابْن سعد وَالْبُخَارِيّ وَابْن جرير وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن عَطاء بن يسَار قَالَ: لقِيت عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي قلت: أَخْبرنِي عَن صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَالَ: أجل - وَالله - انه لموصوف فِي التَّوْرَاة بِبَعْض صفته فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا} الْأَحْزَاب الْآيَة 45 وحرزاً للأميين أَنْت عَبدِي ورسولي سميتك المتَوَكل لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح وَلنْ يقبضهُ الله حَتَّى يُقيم بِهِ الْملَّة العوجاء بِأَن يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله

وَيفتح بِهِ أعينا عميا وآذانا صمًّا وَقُلُوبًا غلفًا

وَأخرج ابْن سعد والدارمي فِي مُسْنده وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل وَابْن عَسَاكِر عَن عبد الله بن سَلام قَالَ: صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا} الْأَحْزَاب الْآيَة 45 وحرزاً للأميين أَنْت عَبدِي ورسولي سميتك المتَوَكل لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مثلهَا وَلَكِن يعْفُو

ويصفح وَلنْ يقبضهُ الله حَتَّى يُقيم بِهِ الْملَّة العوجاء حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله

وَيفتح أعينا عميا وآذاناً صمًّا وَقُلُوبًا غلفًا

وَأخرج الدَّارمِيّ عَن كَعْب قَالَ: فِي السطر الأول: مُحَمَّد رَسُول الله عَبدِي الْمُخْتَار لَا فظ وَلَا غليظ وَلَا سخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو وَيغْفر مولده بِمَكَّة وهجرته بِطيبَة وَملكه بِالشَّام

وَفِي السطر الثَّانِي: مُحَمَّد رَسُول الله أمته الْحَمَّادُونَ يحْمَدُونَ الله فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء يحْمَدُونَ الله فِي كل منزلَة ويكبرونه على كل شرف رُعَاة الشَّمْس يصلونَ الصَّلَاة إِذا جَاءَ وَقتهَا وَلَو كَانُوا على رَأس كناسَة ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أَطْرَافهم وأصواتهم بِاللَّيْلِ فِي جوّ السَّمَاء كأصوات النَّحْل

وَأخرج ابْن سعد والدارمي وَابْن عَسَاكِر عَن أبي فَرْوَة عَن ابْن عَبَّاس

أَنه سَأَلَ كَعْب الْأَحْبَار كَيفَ قد نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة فَقَالَ كَعْب: نجده مُحَمَّد بن عبد الله يُولد بِمَكَّة ويهاجر إِلَى طابة وَيكون ملكه بِالشَّام وَلَيْسَ بفاحش وَلَا سخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا يكافىء بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو وَيغْفر أمته الْحَمَّادُونَ يحْمَدُونَ الله فِي كل سراء وَيُكَبِّرُونَ الله على كل نجد ويوضئون أَطْرَافهم ويأتزرون فِي أوساطهم يصفونَ فِي صلَاتهم كَمَا يصفونَ فِي قِتَالهمْ دويهم فِي مَسَاجِدهمْ كَدَوِيِّ النَّحْل يسمع مناديهم فِي جوّ السَّمَاء

وَأخرج أَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ مَعًا فِي الدَّلَائِل عَن أم الدراداء قَالَت: قلت لكعب: كَيفَ تَجِدُونَ صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة قَالَ: نجده مَوْصُوفا فِيهَا مُحَمَّد رَسُول الله اسْمه المتَوَكل لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَأعْطى المفاتيح ليبصر الله بِهِ أعيناً عورا وَيسمع بِهِ الله آذَانا صمًّا وَيُقِيم بِهِ السّنة المعوجة حَتَّى يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ يعين الْمَظْلُوم ويمنعه من أَن يستضعف

وَأخرج الزبير بن بكار فِي أَخْبَار الْمَدِينَة وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صِفَتي أَحْمد المتَوَكل مولده بِمَكَّة وَمُهَاجره إِلَى طيبَة لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ يَجْزِي بِالْحَسَنَة الْحَسَنَة وَلَا يكافىء بِالسَّيِّئَةِ أمته الْحَمَّادُونَ يَأْتَزِرُونَ على أَنْصَافهمْ ويوضئون أَطْرَافهم أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ يصفونَ للصَّلَاة كَمَا يصفونَ لِلْقِتَالِ قُرْبَانهمْ الَّذِي يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَيّ دِمَاؤُهُمْ رُهْبَان بِاللَّيْلِ لُيُوث بِالنَّهَارِ

وَأخرج أَبُو نعيم عَن كَعْب قَالَ: إِن أبي كَانَ من أعلم النَّاس بِمَا أنزل الله على

مُوسَى وَكَانَ لم يدّخر عني شَيْئا مِمَّا كَانَ يعلم فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت دَعَاني فَقَالَ لي: يَا بني إِنَّك قد علمت أَنِّي لم أدخر عَنْك شَيْئا مِمَّا كنت أعلمهُ إِلَّا أَنِّي قد حبست عَنْك ورقتين فيهمَا: نَبِي يبْعَث قد أظل زَمَانه فَكرِهت أَن أخْبرك بذلك فَلَا آمن عَلَيْك أَن يخرج بعض هَؤُلَاءِ الْكَذَّابين فتطيعه وَقد جعلتهما فِي هَذِه الكوة الَّتِي ترى وطينت عَلَيْهِمَا فَلَا تعرضن لَهما وَلَا تنظرن فيهمَا حينك هَذَا فَإِن الله أَن يرد ذَلِك خيرا وَيخرج ذَلِك النَّبِي تتبعه ثمَّ أَنه مَاتَ فدفناه فَلم يكن شَيْء أحب إليّ من أَن أنظر فِي الورقتين ففتحت الكوة ثمَّ استخرجت الورقتين فَإِذا فيهمَا: مُحَمَّد رَسُول الله خَاتم النَّبِيين لَا نَبِي بعده مولده بِمَكَّة وَمُهَاجره بِطيبَة لَا فظ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَيجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَة وَيَعْفُو ويصفح أمته الْحَمَّادُونَ الَّذين يحْمَدُونَ الله على كل حَال تذلل ألسنتهم بِالتَّكْبِيرِ وينصر نَبِيّهم على كل من ناوأه يغسلون فروجهم ويأتزرون على أوساطهم أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ وتراحمهم بَينهم تراحم بني الْأُم وهم أول من يدْخل الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة من الْأُمَم

فَمَكثَ مَا شَاءَ الله ثمَّ بَلغنِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خرج بِمَكَّة فأخرت حَتَّى استثبت ثمَّ بَلغنِي أَنه توفّي وَأَن خَلِيفَته قد قَامَ مقَامه وجاءتنا جُنُوده فَقلت: لَا أَدخل فِي هَذَا الدّين حَتَّى أنظر سيرتهم وأعمالهم فَلم أزل أدافع ذَلِك وأؤخره لأستثبت حَتَّى قدمت علينا عُمَّال عمر بن الْخطاب فَلَمَّا رَأَيْت وفاءهم بالعهد وَمَا صنع الله لَهُم على الْأَعْدَاء علمت أَنهم هم الَّذين كنت أنْتَظر فو الله إِنِّي لذات لَيْلَة فَوق سطحي فَإِذا رجل من الْمُسلمين يَتْلُو قَول الله {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ من قبل أَن نطمس وُجُوهًا} النِّسَاء الْآيَة 47 الْآيَة

فَلَمَّا سَمِعت هَذِه الْآيَة خشيت أَن لَا أصبح حَتَّى يحول وَجْهي فِي قفاي فَمَا كَانَ شَيْء أحب إليّ من الصَّباح فَغَدَوْت على مُسلمين

وَأخرج الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن عَليّ بن أبي طَالب أَن يَهُودِيّا كَانَ لَهُ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَنَانِير فتقاضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: ماعندي مَا أُعْطِيك

قَالَ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقك يَا مُحَمَّد حَتَّى تُعْطِينِي

قَالَ: إِذن أَجْلِس مَعَك يَا مُحَمَّد

فَجَلَسَ مَعَه فصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء والغداة وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتهددون الْيَهُودِيّ ويتوعدونه فَقَالُوا: يَا رَسُول الله يَهُودِيّ

يحبسك قَالَ: مَنَعَنِي رَبِّي أَن أظلم معاهداً وَلَا غَيره فَلَمَّا ترحل النَّهَار أسلم الْيَهُودِيّ وَقَالَ: شطر مَالِي فِي سَبِيل الله أما وَالله مَا فعلت الَّذِي فعلت بك إِلَّا لأنظر إِلَى نعتك فِي التَّوْرَاة: مُحَمَّد بن عبد الله مولده بِمَكَّة وَمُهَاجره بِطيبَة وَملكه بِالشَّام لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا متزين بالفحشاء وَلَا قوّال للخنا

وَأخرج ابْن سعد عَن الزُّهْرِيّ

أَن يَهُودِيّا قَالَ: مَا كَانَ بَقِي شَيْء من نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة إِلَّا رَأَيْته إِلَّا الْحلم وَإِنِّي أسلفته ثَلَاثِينَ دِينَارا فِي ثَمَر إِلَى أجل مَعْلُوم فتركته حَتَّى إِذا بَقِي من الْأَجَل يَوْم أَتَيْته فَقلت: يَا مُحَمَّد اقضني حَقي فَإِنَّكُم معاشر بني عبد الْمطلب مطل

فَقَالَ عمر: يَا يَهُودِيّ الْخَبيث أما وَالله لَوْلَا مَكَانَهُ لضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غفر الله لَك يَا أَبَا حَفْص نَحن كُنَّا إِلَى غير هَذَا مِنْك أحْوج إِلَى أَن تكون أَمرتنِي بِقَضَاء مَا عليّ وَهُوَ إِلَى أَن تكون أعنته على قَضَاء حَقه أحْوج فَلم يزده جهلي عَلَيْهِ إِلَّا حلماً

قَالَ: يَا يَهُودِيّ إِنَّمَا يحل حَقك غَدا ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا حَفْص أذهب بِهِ إِلَى الْحَائِط الَّذِي كَانَ سَأَلَ أوّل يَوْم فَإِن رضيه فاعطه كَذَا وَكَذَا صَاعا وزده لما قلت لَهُ كَذَا وَكَذَا صَاعا وزده فَإِن لم يرض فاعط ذَلِك من حَائِط كَذَا وَكَذَا فَأتى بِي الْحَائِط فَرضِي تمره فَأعْطَاهُ مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أمره من الزِّيَادَة فَلَمَّا قبض الْيَهُودِيّ تمره قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنه رَسُول الله وَأَنه وَالله مَا حَملَنِي على مَا رَأَيْتنِي صنعت يَا عمر إِلَّا أَنِّي قد كنت رَأَيْت فِي رَسُول الله صفته فِي التَّوْرَاة كلهَا إِلَّا الْحلم فاختبرت حلمه الْيَوْم فَوَجَدته على مَا وصف فِي التَّوْرَاة وَإِنِّي أشهدك أَن هَذَا التَّمْر وَشطر مَالِي فِي فُقَرَاء الْمُسلمين

فَقَالَ عمر: فَقلت: أَو بَعضهم فَقَالَ: أَو بَعضهم

قَالَ: وَأسلم أهل بَيت الْيَهُودِيّ كلهم إِلَّا شيخ كَانَ ابْن مائَة سنة فعسا على الْكفْر

وَأخرج ابْن سعد عَن كثيِّر بن مرّة قَالَ: إِن الله يَقُول: لقد جَاءَكُم رَسُول لَيْسَ بوهن وَلَا كسل يفتح أعيناً كَانَت عميا وَيسمع آذَانا صمًّا ويختن قلوباً كَانَت غلفًا وَيُقِيم سنة كَانَت عوجاء حَتَّى يُقَال: لَا إِلَه إِلَّا الله

وَأخرج ابْن سعد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيت الْمدَارِس فَقَالَ أخرجُوا إليَّ أعلمكُم فَقَالُوا: عبد الله ابْن صوريا

فَخَلا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَاشَدَهُ بِدِينِهِ وَبِمَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِم وأطعمهم من الْمَنّ والسلوى وظللهم بِهِ من الْغَمَام أتعلم أَنِّي رَسُول الله قَالَ: اللهمَّ نعم وَإِن الْقَوْم ليعرفون مَا أعرف وَإِن

صِفَتك ونعتك الْمُبين فِي التَّوْرَاة وَلَكنهُمْ حسدوك

قَالَ: فَمَا يمنعك أَنْت قَالَ: أكره خلاف قومِي وَعَسَى أَن يتبعوك ويسلموا فَأسلم

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ عَن الفلتان بن عَاصِم قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء رجل فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَقْرَأُ التَّوْرَاة قَالَ: نعم

قَالَ: والإِنجيل قَالَ: نعم

فَنَاشَدَهُ هَل تجدني فِي التَّوْرَاة والإِنجيل قَالَ: نجد نعتاً مثل نعتك وَمثل هيئتك ومخرجك وَكُنَّا نرجو أَن تكون منا فَلَمَّا خرجت تخوَّفنا أَن تكون هُوَ أَنْت فَنَظَرْنَا فَإِذا لَيْسَ أَنْت هُوَ

قَالَ: وَلم ذَاك قَالَ: إِن مَعَه من أمته سبعين ألفا لَيْسَ عَلَيْهِم حِسَاب وَلَا عَذَاب وَإِنَّمَا مَعَك نفر يسير

قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأَنا هُوَ إِنَّهُم لأمتي وَأَنَّهُمْ لأكْثر من سبعين ألفا وَسبعين ألفا

وَأخرج ابْن سعد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: بعثت قُرَيْش النَّضر بن الْحَارِث وَعقبَة بن أبي معيط وَغَيرهمَا إِلَى يهود يثرب وَقَالُوا لَهُم: سلوهم عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقدموا الْمَدِينَة فَقَالُوا: أَتَيْنَاكُم لأمر حدث فِينَا منا غُلَام يَتِيم يَقُول قولا عَظِيما يزْعم أَنه رَسُول الرَّحْمَن قَالُوا: صفوا لنا نَعته

فوصفوا لَهُم قَالُوا: فَمن تبعه مِنْكُم قَالُوا: سفلتنا

فَضَحِك حبر مِنْهُم فَقَالَ: هَذَا النَّبِي الَّذِي نجد نَعته ونجد قومه أَشد النَّاس لَهُ عَدَاوَة

وَأخرج أَبُو نعيم فِي الْحِلْية عَن وهب قَالَ: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجل عصى الله تَعَالَى مِائَتي سنة ثمَّ مَاتَ فَأَخَذُوهُ فألقوه على مزبلة فَأوحى الله إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: أَن أخرج فصلِّ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رب بَنو إِسْرَائِيل شهدُوا أَنه عصاك مِائَتي سنة فَأوحى الله إِلَيْهِ: هَكَذَا كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ كلما نشر التَّوْرَاة وَنظر إِلَى اسْم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبله وَوَضعه على عَيْنَيْهِ وَصلى عَلَيْهِ فَشَكَرت لَهُ ذَلِك وغفرت ذنُوبه وزوّجته سبعين حوراء

وَأخرج ابْن سعد وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَأَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ مَعًا فِي الدَّلَائِل عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكْتُوب فِي الإِنجيل لَا فظ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مثلهَا وَلَكِن يعْفُو ويصفح

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قدم الْجَارُود بن عبد الله على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم وَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد وجدت وصفك فِي الإِنجيل وَلَقَد بشَّر بك ابْن البتول

وَأخرج ابْن سعد وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق مُوسَى بن يَعْقُوب الربعِي عَن سهل مولى خَيْثَمَة قَالَ: قَرَأت فِي الإِنجيل نعت مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه لَا قصير وَلَا طَوِيل أَبيض ذُو طمرين بَين كَتفيهِ خَاتم يكثر الاحتباء وَلَا يقبل الصَّدَقَة ويركب الْحمار وَالْبَعِير ويحتلب الشَّاة ويلبس قَمِيصًا مرقوعاً وَمن فعل ذَلِك فقد برىء من الْكبر وَهُوَ يفعل ذَلِك وَهُوَ من ذُرِّيَّة اسمعيل عَلَيْهِ السَّلَام

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن وهب بن مُنَبّه رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أوحى الله يعالى إِلَى شُعَيْب إِنِّي باعث نَبيا أُمِّيا أفتح بِهِ آذَانا صمًّا وَقُلُوبًا غلفًا وَأَعْيُنًا عميا مولده بِمَكَّة وَمُهَاجره بِطيبَة وَملكه الشَّام عَبدِي المتَوَكل الْمُصْطَفى الْمَرْفُوع الحبيب المتحبب الْمُخْتَار لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح رحِيما بِالْمُؤْمِنِينَ يبكي للبهيمة المثقلة ويبكي للْيَتِيم فِي حجر الأرملة لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب فِي الْأَسْوَاق وَلَا متزين بالفحش وَلَا قوّال للخنا يمر إِلَى جنب السراج لم يطفئه من سكينته وَلَو يمشي على الْقصب الرعراع - يَعْنِي الْيَابِس - لم يسمع من تَحت قَدَمَيْهِ أبعثه مبشراً وَنَذِيرا أسدده لكل جميل وَأهب لَهُ كل خلق كريم أجعَل السكينَة لِبَاسه والبرَّ شعاره وَالْمَغْفِرَة وَالْمَعْرُوف حليته وَالْحق شَرِيعَته وَالْهدى إِمَامه والإِسلام مِلَّته وَأحمد اسْمه أهدي بِهِ من بعد الضَّلَالَة وَأعلم بِهِ بعد الْجَهَالَة وَأَرْفَع بِهِ بعد الْخَمَالَة وَأُسَمِّي بِهِ بعد النكرَة وَأكْثر بِهِ بعد الْقلَّة وأغنى بِهِ بعد الْعيلَة وَأجْمع بِهِ بعد الْفرْقَة وَأُؤَلِّف بِهِ بَين قُلُوب وَأَهْوَاء مُتَشَتِّتَة وأمم مُخْتَلفَة وَأَجْعَل أمته خير أمة أخرجت للنَّاس آمراً بِالْمَعْرُوفِ ونهياً عَن الْمُنكر وتوحيداً لي وإيماناً بِي وإخلاصاً لي وَتَصْدِيقًا لما جَاءَت بِهِ رُسُلِي وهم رُعَاة الشَّمْس

طُوبَى لتِلْك الْقُلُوب وَالْوُجُوه والأرواح الَّتِي أخلصت لي أُلهمهم التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير والتمجيد والتوحيد فِي مَسَاجِدهمْ ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم ويصفُّون فِي مَسَاجِدهمْ كَمَا تصف الْمَلَائِكَة حول عَرْشِي هم أوليائي وأنصاري أنتقم بهم من أعدائي عَبدة الْأَوْثَان يصلونَ لي قيَاما وقعوداً وسجوداً وَيخرجُونَ من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ ابْتِغَاء مرضاتي ألوفاً ويقاتلون فِي سبيلي صُفُوفا وزحوفاً اختم بكتبهم الْكتب وشريعتهم الشَّرَائِع وبدينهم الْأَدْيَان من أدركهم فَلم يُؤمن بِكِتَابِهِمْ وَيدخل فِي دينهم وشريعتهم فَلَيْسَ مني وَهُوَ مني بَرِيء واجعلهم أفضل

الْأُمَم واجعلهم أمة وسطاء شُهَدَاء على النَّاس إِذا غضبوا هللوني وَإِذا قبضوا كبَّروني وَإِذا تنازعوا سبَّحوني يطهرون الْوُجُوه والأطراف ويشدون الثِّيَاب إِلَى الأنصاف ويهللون على التلال والأشراف قُرْبَانهمْ دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلهمْ صُدُورهمْ رُهْبَان بِاللَّيْلِ لُيُوث بِالنَّهَارِ مناديهم فِي جو السَّمَاء لَهُم دوِي كَدَوِيِّ النَّحْل طُوبَى لمن كَانَ مَعَهم وعَلى دينهم ومناهجهم وشريعتهم ذَلِك فضلي أوتيه من أَشَاء وَأَنا ذُو الْفضل الْعَظِيم

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: إِن الله أوحى فِي الزبُور ياداود إِنَّه سَيَأْتِي من بعْدك نَبِي اسْمه أَحْمد وَمُحَمّد صَادِقا نَبيا لَا أغضب عَلَيْهِ أبدا وَلَا يعصيني أبدا وَقد غفرت لَهُ أَن يعصيني مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَأمته مَرْحُومَة أَعطيتهم من النَّوَافِل مثل مَا أَعْطَيْت الْأَنْبِيَاء وافترضت عَلَيْهِم الْفَرَائِض الَّتِي افترضت على الْأَنْبِيَاء وَالرسل حَتَّى يأتوني يَوْم الْقِيَامَة ونورهم مثل نور الْأَنْبِيَاء وَذَلِكَ أَنِّي افترضت عَلَيْهِم أَن يَتَطَهَّرُوا لي لكل صَلَاة كَمَا افترضت على الْأَنْبِيَاء قبلهم وأمرتهم بِالْغسْلِ من الْجَنَابَة كَمَا أمرت الْأَنْبِيَاء قبلهم وأمرتهم بِالْحَجِّ كَمَا أمرت الْأَنْبِيَاء قبلهم وأمرتهم بِالْجِهَادِ كَمَا أمرت الرُّسُل قبلهم

يَا دَاوُد إِنِّي فضَّلت مُحَمَّدًا وَأمته على الْأُمَم أَعطيتهم سِتّ خِصَال لم أعطيها غَيرهم من الْأُمَم

لَا أؤاخذهم بالْخَطَأ وَالنِّسْيَان وكل ذَنْب ركبوه على غير عمد إِذا استغفروني مِنْهُ غفرته وَمَا قدمُوا لآخرتهم من شَيْء طيبَة بِهِ أنفسهم عجلته لَهُم أضعافاً مضاعفة وَلَهُم عِنْدِي أَضْعَاف مضاعفة وَأفضل من ذَلِك وأعطيتهم على المصائب فِي البلايا إِذا صَبَرُوا وَقَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون الصَّلَاة وَالرَّحْمَة وَالْهدى إِلَى جنَّات النَّعيم فَإِن دَعونِي استجبت لَهُم فإمَّا أَن يروه عَاجلا وَإِمَّا أَن أصرف عَنْهُم سوءا وَإِمَّا أَن أؤخره لَهُم فِي الْآخِرَة يَا دَاوُد من لَقِيَنِي من أمة مُحَمَّد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنا وحدي لَا شريك لي صَادِقا بهَا فَهُوَ معي فِي جنتي وكرامتي وَمن لَقِيَنِي وَقد كذب مُحَمَّدًا وَكذب بِمَا جَاءَ بِهِ واستهزأ بكتابي صببت عَلَيْهِ فِي قَبره الْعَذَاب صبا وَضربت الْمَلَائِكَة وَجهه وَدبره عِنْد منشره من قَبره ثمَّ أدخلهُ فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار

وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: أجد فِي الْكتب أَن هَذِه الْأمة تحب ذكر الله كَمَا تحب الْحَمَامَة وَكرها وَلَهُم أسْرع إِلَى ذكر الله من الإِبل إِلَى وردهَا يَوْم ظمئها

قَوْله تَعَالَى: {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} الْآيَة

أخرج الطَّبَرَانِيّ عَن حبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ رجل من الْأَعْرَاب يستفتيه عَن الرجل مَا الَّذِي يحل لَهُ وَالَّذِي يحرم عَلَيْهِ فِي مَاله ونسكه وماشيته وعنزه وفرعه من نتاج إبِله وغنمه فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أحلَّ لَك الطَّيِّبَات وَحرم عَلَيْك الْخَبَائِث إِلَّا أَن تفْتَقر إِلَى طَعَام فتأكل مِنْهُ حَتَّى تَسْتَغْنِي عَنهُ

قَالَ: مَا فقري الَّذِي آكل ذَلِك إِذا بلغته أمْ مَا غناي الَّذِي يغنيني عَنهُ قَالَ: إِذا كنت ترجو نتاجاً فتبلغ بلحوم ماشيتك إِلَى نتاجك أَو كنت ترجو عشَاء تصيبه مدْركا فتبلغ إِلَيْهِ بلحوم ماشيتك وَإِذا كنت لَا ترجو من ذَلِك شَيْئا فاطعم أهلك مَا بدا لَك حَتَّى تَسْتَغْنِي عَنهُ

قَالَ الْأَعرَابِي: وَمَا عشائي الَّذِي أَدَعهُ إِذا وجدته قَالَ: إِذا رويت أهلك غبوقاً من اللَّبن فاجتنب مَا حرم عَلَيْك من الطَّعَام وَأما مَالك فَإِنَّهُ ميسور كُله لَيْسَ مِنْهُ حرَام غير أَن نتاجك من إبلك فرعا وَفِي نتاجك من غنمك فرعا تغذوه ماشيتك حَتَّى تَسْتَغْنِي ثمَّ إِن شِئْت فاطعمه أهلك وَإِن شِئْت تصدَّق بِلَحْمِهِ وَأمره أَن يعقر من الْغنم فِي كل مائَة عشرا

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن جريج فِي قَوْله {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات} قَالَ: الْحَلَال {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} قَالَ: الثقيل الَّذِي كَانَ فِي دينهم

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} قَالَ: كلحم الْخِنْزِير والربا وَمَا كَانُوا يسْتَحلُّونَ من الْمُحرمَات من المآكل الَّتِي حرَّمها الله

وَفِي قَوْله {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} قَالَ: هُوَ مَا كَانَ أَخذ الله عَلَيْهِم من الْمِيثَاق فِيمَا حرم عَلَيْهِم

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم} قَالَ: عَهدهم ومواثيقهم فِي تَحْرِيم مَا أحلَّ الله لَهُم

وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} يَقُول: يضع عَنْهُم عهودهم ومواثيقهم الَّتِي أخذت عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة والإِنجيل

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن صَعِيد بن جُبَير فِي قَوْله {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم}

قَالَ: التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة كَانَ أحدهم يُذنب الذَّنب فَيكْتب على بَاب دَاره: إِن توبتك أَن تخرج أَنْت وَأهْلك وَمَالك إِلَى الْعَدو فَلَا ترجع حَتَّى يَأْتِي الْمَوْت على آخركم

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم} قَالَ: مَا غلظ على بني إِسْرَائِيل من قرض الْبَوْل من جُلُودهمْ إِذا أَصَابَهُم وَنَحْوه

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن شودب فِي قَوْله {والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} قَالَ: الشدائد الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} قَالَ: تَشْدِيد شدد على الْقَوْم فجَاء مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتجاوز عَنْهُم

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم} قَالَ: مَا غلظوا على أنفسهم من قطع أثر الْبَوْل وتتبع الْعُرُوق فِي اللَّحْم وَشبهه

وَأخرج ابْن جرير عَن مُجَاهِد {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم} قَالَ: عَهدهم

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وعزروه} يَعْنِي عَظَّموه وَوَقَّروه

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ فِي قَوْله {وعزَّروه ونصروه} قَالَ: بِالسَّيْفِ

وَأخرج عبد بن حميد عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وعزَّروه} يَقُول: نصروه

قَالَ: فَأَما نَصره وتعزيره قد سبقتم بِهِ وَلَكِن خَيركُمْ من آمن وَاتبع النُّور الَّذِي أنزل مَعَه

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُجَاهِد {وعزروه} قَالَ: شدوا أمره وأعانوا رَسُوله ونصروه

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ (وعزروه) مثقلة

 

- الْآيَة (158)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

- أخرج أَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود فَقَالَ {يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا}

وَأخرج البُخَارِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: كَانَت بَين أبي بكر وَعمر محاورة فاغضب أَبُو بكر عمر فَانْصَرف عمر عَنهُ مغضباً فَأتبعهُ أَبُو بكر فَسَأَلَهُ أَن يسْتَغْفر لَهُ فَلم يفعل حَتَّى أغلق بَابه فِي وَجهه فَأقبل أَبُو بكر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَدم عمر على مَا كَانَ مِنْهُ فَأقبل حَتَّى سلَّم وَجلسَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقصَّ الْخَبَر فَغَضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل أَنْتُم تاركو لي صَاحِبي إِنِّي قلت {يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} فقلتم: كذبت

وَقَالَ أَبُو بكر: صدقت

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {يُؤمن بِاللَّه وكلماته} قَالَ: عِيسَى

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ (يُؤمن بِاللَّه وكلماته) على الْجِمَاع

 

- الْآيَة (159 - 162)

الأعراف - تفسير البغوي

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }

{ وَاكْتُبْ لَنَا } أوجب لنا { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً } النعمة والعافية، { وَفِي الآخِرَةِ } أي: وفي الآخرة { حَسَنَةً } أي المغفرة والجنة، { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي: تبنا إليك، { قَالَ } الله تعالى: { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ } من خلقي، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } عمت كل شيء، قال الحسن وقتادة: 138/ب وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة. وقال عطية العوفي: وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون، وذلك أن الكافر يرزق، ويدفع عنه بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين، فيعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة، كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما -وقتادة، وابن جريج: لما نزلت: "ورحمتي وسعت كل شيء" قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فقال الله سبحانه وتعالى: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فتمناها اليهود والنصارى، وقالوا: نحن نتقي ونؤمن، ونؤتي الزكاة، فجعلها الله لهذه الأمة فقال:

{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ } الآية. قال نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا قال الله تعالى لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا، تصلون حيث أردكتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرؤها الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا، فقال الله تعالى: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة" إلى قوله: "أولئك هم المفلحون"، فجعلها الله لهذه الأمة. فقال موسى عليه السلام: يا رب اجعلني نبيهم، فقال: نبيهم منهم، قال: رب اجعلني منهم فقال: إنك لن تدركهم، فقال موسى عليه السلام: يا رب أني أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا، فأنزل الله تعالى:(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) [الأعراف-159]، فرضي موسى (1) .

قوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما هو نبيكم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (2) وهو منسوب إلى الأم، أي هو على ما ولدته أمه. وقيل هو منسوب إلى أمته، أصله أمتي فسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني وقيل: هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة.

{ الَّذِي يَجِدُونَهُ } أي: يجدون صفته ونعته ونبوته، { مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ }

أخبرنا عبد الواحد المليحي أن أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن

__________

(1) رواية نوف البكالي هذه من الأخبار الإسرائيلية، فقد كان نوف راويا للقصص، وهو ابن زوجة كعب الأحبار، وله ترجمة في "تهذيب التهذيب". وانظر فيما يأتي التعليق على سبب نزول الآية من السورة. ص(291).

(2) أخرجه البخاري في الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" 4 / 126، ومسلم في الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال.... برقم (1080) 2 / 761. والمصنف في شرح السنة: 6 / 228 عن ابن عمر رضي الله عنهما.

عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ لا غليظ ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا" (1) .

تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال عن عطاء عن ابن سلام أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام أنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي حدثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن عبد الله بن ضمرة عن كعب -رضي الله عنه -قال: إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد، يأتزرون على أنصافهم +ويوضئون أطرافهم، صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة ومهاجره بطابة وملكه بالشام (2) .

قوله تعالى: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي: بالإيمان، { وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } أي: عن الشرك، وقيل: المعروف: الشريعة والسنة، والمنكر: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف: بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام، وينهاهم عن المنكر: عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام. { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } يعني: ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } يعني: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والزنا وغيرها من المحرمات. { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } قرأ ابن عامر "آصارهم" بالجمع. والإصر: كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل.

قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد: يعني العهد الثقيل كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.

__________

(1) أخرجه البخاري في البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق: 4 / 342-343 وفي تفسير سورة الفتح، باب "إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا" 8 / 585.

(2) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب قبل مبعثه: 1 / 5، وابن سعد في الطبقات: 1 / 360، والبغوي في المصابيح: 4 / 36، وانظر: مشكاة المصابيح: 3 / 1607.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

وقال قتادة: يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين، { وَالأغْلالَ } يعني: الأثقال { الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وذلك مثل: قتل الأنفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية، وترك العمل في السبت، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وغير ذلك من الشدائد. وشبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق. { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ } أي: بمحمد صلى اللهعليه وسلم . { وَعَزَّرُوهُ } وقّروه، { وَنَصَرُوهُ } على الأعداء { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } يعني: القرآن { أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) }

قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي: آياته وهي القرآن. وقال مجاهد والسدي: يعني عيسى ابن مريم، ويقرأ "كلمته" { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

قوله عز وجل: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى } يعني: بني إسرائيل 139/أ { أُمَّةٌ } أي: جماعة، { يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أي: يرشدون ويدعون إلى الحق. وقيل: معناه يهتدون ويستقيمون عليه، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي: بالحق يحكمون وبالعدل يقومون. قال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين، بأقصى الشرق على نهر [يجري الرمل] (1) يسمى نهر أوداف، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون بالليل ويصحون بالنهار، ويزرعون حتى لا يصل إليهم منا أحد، وهم على الحق (2) .

وذُكر: أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكلمهم [فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا فقال لهم: هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به] (3) فقالوا: يا رسول الله إن موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منا السلام، فرد النبي صلى الله عليه وسلم على

__________

(1) في بعض النسخ: (مجرى الرمل).

(2) انظر: الطبري: 13 / 173-174، البحر المحيط: 4 / 406.

(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".

موسى وعليهم، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمِّعوا ويتركوا السبت (1) .

وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي (2) صلى الله عليه وسلم. والأول أصح (3) .

__________

(1) انظر: الدر المنثور: 3 / 586، روح المعاني للآلوسي: 9 / 84.

(2) انظر: البحر المحيط: 4 / 406.

(3) هذه الروايات التي ساقها المصنف - رحمه الله - في تفسير الآية، من الإسرائيليات التي لو صح سندها إلى قائليها فإنه لا يحتج بها في هذه الأمور الغيبية التي لا نص عليها في الكتاب والسنة وقد استبعدها ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز": 6 / 109. وقال الآلوسي في روح المعاني: 9 / 85 "وضعّف هذه الحكاية ابن الخازن، وأنا لا أراها شيئا، ولا أظنك تجد لها سندا يعوّل عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء". ولهذا نثبت هنا خلاصة ما قاله ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية الكريمة: "يقول الله تعالى مخبرا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" وقال تعالى: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن الله سريع الحساب"... ثم أشار إلى رواية ابن جرير وقال: "وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرا عجيبا". وكذلك أبدى ابن عطية رحمه الله رأيه في تفسير الآية فقال: يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين المتقين من بني إسرائيل، على عهد موسى عليه السلام وما والاه من الزمن.. ويحتمل: أن يريد الجماعة التي آمنت بمحمد، صلى الله عليه وسلم، من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم". انظر: المحرر الوجيز: 6 / 108-109، الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة ص (291-292).

===التدوين ===

 وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج33. كتاب مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

  ج33. كتاب   مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إ...