==========
مشاري راشد في سورة الأنبياء
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
===
تفسير ابن كثير
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ
وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) } .
قال ابن إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ عناقيده.
وكذا قال شُرَيْح.
قال ابن عباس: النَّفْشُ: الرعي.
وقال شُرَيح، والزهري، وقتادة: النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة: والهَمْلُ بالنهار.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي، عن
أشعت، عن أبي إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود في قوله: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } قال: كرم
قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغَنَم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان:
غيرُ هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه
حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما
كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: { فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ } .
وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، حدثنا (1) خليفة، عن ابن عباس قال: فحكم (2)
داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى
بينكم؟
فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف
تقضي بينهم؟ قال (3) أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها
وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي
كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا خُدَيْج، عن أبي
إسحاق، عن مُرَّة، عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت
فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم
رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها (4) أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها
ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه (5) حتى يعود كالذي كان ليلة
نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.
__________
(1) في ف: "حدثني".
(2) في ف، أ: "قضى".
(3) في ف: "فقال" .
(4) في ف: "فتعطى".
(5) في ف: "فيعمره ويصلحوه".
(5/355)
وهكذا
قال شُرَيح، ومُرَّة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن
عامر، قال: جاء رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما: إن شاة هذا قطعت غزلا لي، فقال
شريح: نهارًا أم ليلا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلا ضَمِن، ثم
قرأ: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ
فِيهِ } الآية.
وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث
الليث بن سعد، عن الزهري، عن حَرام بن مُحَيْصة (1) ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت
حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها
بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2) . وقد عُلِّل هذا الحديث،
وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب "الأحكام" وبالله التوفيق.
وقوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال
ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حميد؛ أن إياس بن معاوية لما
استقضى أتاه الحسن فبكى، قال (3) ما يبكيك؟ قال (4) يا أبا سعيد، بلغني أن القضاة:
رجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب
فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان، عليهما
السلام، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: {
وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم
يذم داود. ثم قال -يعني: الحسن-: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا: لا يشترون به
ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثم تلا { يَا دَاوُدُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (5) ] } [ص:26] وقال: {
فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة:44] ، وقال { وَلا تَشْتَرُوا
بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة:44] .
قلت: أما الأنبياء، عليهم السلام، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل. وهذا
مما لا خلاف (6) فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت
في صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
__________
(1) في ف: "عن حرام عن الزهري بن محيصة".
(2) المسند (5/435) وسنن أبي داود برقم (3570) وسنن ابن ماجه برقم (2332).
تنبيه: هذا الطريق إنما هو طريق ابن ماجه، أما أحمد فرواه عن مالك وسفيان ومعمر عن
الزهري، وأما أبو داود فرواه عن معمر والأوزعي عن الزهري.
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) في ف، أ: "فقال"
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "ما لا اختلاف فيه".
(5/356)
وإذا
اجتهد فأخطأ (1) فله أجر" (2) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه "إياس"
من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم.
وفي السنن: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق
وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق
وقضى بخلافه، فهو في النار (3) .
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال:
حدثنا علي بن حَفْص، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما،
جاء (4) الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا.
فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو
ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى" (5) .
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما (6) وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء:(باب
الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق) (7) .
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة "سليمان عليه
السلام" من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن
مسلم، عن سعيد بن بشر، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس -فذكر قصة مطولة (8)
ملخصها-: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم،
فامتنعت على (9) كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود، عليه
السلام، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها. فلما
كان عشية ذلك اليوم، جلس سليمان، واجتمع معه وِلْدانٌ، مثله، فانتصب حاكمًا وتزيا
أربعة منهم بزيّ أولئك، وآخر بزيّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها
كلبًا، فقال سليمان: فرقوا بينهم. فقال لأولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود.
فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال: أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر:
أبيض. فأمر بقتلهم، فحكي ذلك لداود، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين
عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم (10) .
__________
(1) في ف: "وأخطأ".
(2) صحيح البخاري برقم (7352) .
(3) سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم
(2315)
(4) في ف: "إذ جاء".
(5) المسند (2/322)
(6) في ف: "صحيحيهما".
(7) صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم
(5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل
ليستبين له الحق".
(8) في ف: "طويلة".
(9) في أ: "عن".
(10) تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")
(5/357)
وقوله:
{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا
فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا تَرَنَّم به تقف
الطير في الهواء، فتجاوبه، وتَرد عليه الجبال تأويبًا؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي
صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري، وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت
طيب [جدًا] (1) . فوقف واستمع لقراءته، وقال: "لقد أوتي هذا مزامير آل
داود". قال يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع (2) لحبرته لك تحبيرًا (3) .
وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى
رضي الله عنه، ومع هذا قال: لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.
وقوله: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (4) مِنْ
بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع.
قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال تعالى:
{ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ }
[سبأ:10، 11] أي: لا توسع الحلقة فتقلق (5) المسمار، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ
الحَلْقة؛ ولهذا قال: { لِيُحْصِنَكُمْ (6) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني: في القتال، {
فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه
ذلك من أجلكم.
وقوله: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة،
{ تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام،
{ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وذلك أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه
كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة، والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح
أن تحمله فتدخل تحته، ثم تحمله فترفعه وتسير به، وتظله الطير من الحر، إلى حيث
يشاء من الأرض، فينزل وتوضع آلاته وخشبه (7) ، قال الله تعالى: { فَسَخَّرْنَا
لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص:36] ، وقال {
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ :12] .
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة، عن أبي سِنَان، عن سعيد بن جبير قال:
كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من
ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه
وسلم (8) .
وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح، فتجتَمع كالطَّود
العظيم، كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفَرَس من ذوات
الأجنحة، فترتفع (9) حتى تصعد (10) على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف
دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل، وشكرًا
لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "تستمع".
(3) سبق الحديث في فضائل القرآن.
(4) في ف، أ: "لتحصنكم".
(5) في ف: "فتفلق".
(6) في ف، أ: "لتحصنكم".
(7) في أ: "وحشمه"
(8) في أ: "فتحملهم عليه السلام".
(9) في ف، أ: "فيرتفع".
(10) في ف، أ: "يصعد".
(5/358)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
تعالى
(1) حتى تضعه (2) . الريح حيث شاء أن تضعه (3)
وقوله: { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي: في الماء يستخرجون
اللآلئ [وغير ذلك. { وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ } أي: غير ذلك، كما قال
تعالى: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * ] (4) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } . [ص: 37، 38] .
وقوله: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } (5) أي: يحرسه الله أن يناله أحد من
الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه
والقرب منه، بل هو مُحَكَّم (6) فيهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء؛
ولهذا قال: { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ (84) } .
يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده
(7) ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل
مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده -يقال: بالجذام في سائر
بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس،
وأفردَ في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد (8) يحنو عليه سوى زوجته، كانت
تقوم بأمره (9) ، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل
فالأمثل" (10) وفي الحديث الآخر: "يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في
دينه صلابة زيد في بلائه" (11) .
وقد كان نبي الله أيوب، عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك.
وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب، عليه السلام، بذهاب الأهل والمال
والولد، ولم له يبق شيء، أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب، الذي أحسنت إلي،
أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة، إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني،
وفرَّغت قلبي، ليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت، حسدني.
قال: فلقي إبليس من ذلك منكرًا.
قال: وقال أيوب، عليه السلام: يا رب، إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي
أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول
لنفسي:
__________
(1) في ف، أ: "عز وجل".
(2) في ف: "يضعه".
(3) في ف، أ: "حيث يشاء أن يضعه".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "له".
(6) في ف، أ: "يحكم".
(7) في ف: "وجسده وولده".
(8) في ف: "أحد من الناس".
(9) في ف: "بأوده".
(10) رواه أحمد في المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) وابن ماجه في
السنن برقم (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال الترمذي: "هذا
حديث حسن صحيح".
(11) هو جزء من الحديث المتقدم، والله أعلم.
(5/359)
يا
نفس، إنك لم تخلقي لوطء الفرش (1) ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي
حاتم.
وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند
عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول (2) .
وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا
الدعاء، فقال الحسن وقتادة، ابتلي أيوب، عليه السلام، سبع سنين وأشهرًا، ملقى على
كُنَاسَة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه، وعَظَمَّ له الأجر،
وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه
وتأتيه بالزاد يكون فيه، فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب، لو دعوت ربك (3)
يفرج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهل (4) قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟
فجَزَعت من ذلك فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه، وإن إبليس
انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيوب
أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن شرب
منه بَرَأ. فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا (5) : نحن فلان
وفلان! فرحَّب بهما وقال: مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء، فقالا يا أيوب، لعلك
كنت تُسر شيئًا وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: هو
يعلم، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا
له: يا أيوب، اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه بَرَأت. قال: فغضب وقال جاءكما
الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام. فقاما من عنده، وخرجت
امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصًا (6) ، وكان ابنهم
نائمًا، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها.
فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته
الخبر. قال: فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله.
[فانطلقي به إليه. فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت: تعس أيوب
الخطاء! فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله] (7) ، لا
يقبل منهم شيئًا غيره، فقالت: رحم الله أيوب فدفعت القرص إليه ورجعت. ثم إن إبليس
أتاها في صورة طبيب، فقال لها: إن زوجك قد طال سُقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ
ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك لأيوب،
فقال: قد أتاك الخبيث. لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة. فخرجت تسعى عليه،
فحظر عنها الرزق، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على
أيوب
__________
(1) في ف: "الفراش".
(2) تفسير الطبري (1/42).
(3) في ف، أ: "الله".
(4) في أ: "فهو".
(5) في ف، أ: "قالا".
(6) في ف، أ: "قرصة".
(7) زيادة من ف، أ.
(5/360)
الجوع
حلقت من شعرها قرنًا فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا
فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني.
فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا فباعته من
تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم
من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا شديدًا، فعند ذلك دعا
ربه عز وجل: { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا أبو
عمران الجوني، عن نَوْف البِكَالي؛ أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له:
"سوط" (1) ، قال: وكانت امرأة أيوب تقول: "ادع الله فيشفيك" ،
فجعل لا يدعو، حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه
إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: "رب إني مسني الضر وأنت أرحم
الراحمين".
وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير
قال: كان لأيوب، عليه السلام، أخوان فجاءا يومًا، فلم يستطيعا أن يدنوا منه، من
ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه
بهذا؟ فجزع أيوب من قولهما جَزعا لم يجزع من شيء قط، فقال: اللهم، إن كنت تعلم أني
لم أبت ليلة قط شبعان (2) وأنا أعلم مكان جائع، فصدقني. فصدق من السماء وهما
يسمعان. ثم قال: اللهم، إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عار،
فَصَدقني فصدق من السماء وهما يسمعان. اللهم (3) بعزتك ثم خر ساجدًا، ثم قال (4)
اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني. فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال: أخبرنا يونس بن عبد
الأعلى، أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد، عن عُقَيل، عن الزهري، عن أنس بن
مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه
ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه،
كانا (5) يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تَعَلَّم -والله-لقد أذنب أيوب
ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة
لم يرحمه الله فيكشف (6) ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له،
فقال أيوب، عليه السلام: ما أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر
على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهة أن يذكرا
الله إلا في حق. قال: وكان يخرج في حاجته (7) ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى
يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى إلى
__________
(1) في ف، أ: "مبسوط".
(2) في ف: "شبعانا".
(3) في ف، أ: "ثم قال: اتللهم".
(4) في ف: "فقال".
(5) في ف، أ: "له".
(6) في ف: "فكشف".
(7) في ف: "حاجة" .
(5/361)
أيوب
في مكانه: أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب" (1) .
رفع هذا الحديث غريب جدًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن
زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب
فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله، أين ذهب المبتلى
الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، فجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك! أنا
أيوب! قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال: ويحك! أنا أيوب، قد رد الله علي جسدي.
وبه قال ابن عباس: ورد عليه ماله وولده عيانا، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب: قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم،
فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صاحبتك (2) قربانًا، واستغفر لهم،
فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
[وقال] (3) أيضًا: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة،
عن النضر ابن أنس، عن بَشير (4) بن نَهِيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لما عافى الله أيوب، أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعله
في ثوبه". قال: "فقيل له: يا أيوب، أما تشبع؟ قال: يا رب، ومن يشبع من
رحمتك".
أصله في الصحيحين (5) ، وسيأتي في موضع آخر.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } قد تقدم عن ابن عباس أنه
قال: ردوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس أيضًا. وروي مثله عن ابن
مسعود ومجاهد، وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد
النَّجْعَة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب، وصح ذلك عنهم، فهو مما لا يصدق ولا
يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه -رحمه الله تعالى-قال: ويقال: اسمها ليا ابنة
مِنَشَّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ويقال: ليا بنت يعقوب، عليه
السلام، زوجة أيوب كانت معه بأرض البَثَنيَّة.
وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب، إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2091) "موارد" من طريق حرملة بن يحيى
عن ابن وهب بنحوه.
(2) في ف: "صحابتك".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "بشر".
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/582) من طرق عن عمرو بن مرزوق به، وسيأتي أصل
الحديث في صحيح البخاري عند تفسير الآية: 42 من سورة ص.
(5/362)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
تركناهم
لك في الجنة، وعوضناك مثلهم. قال: لا بل اتركهم لي في الجنة. فتُركوا له في الجنة
وعوض مثلهم في الدنيا.
وقال حماد بن زيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن نَوف البِكَالي قال: أوتي أجرهم في
الآخرة، وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مُطَرَّفا، فقال: ما عرفت وجهها قبل
اليوم.
وهكذا روي عن قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
وقوله: { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي: فعلنا به ذلك رحمة من الله به، {
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي: وجعلناه في ذلك قدوة، لئلا يظن أهل البلاء إنما
فعلنا بهم ذلك (1) لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه
لعباده بما (2) يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) } .
أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة
مريم، وكذلك إدريس، عليه السلام (3) وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن
مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحًا، وكان ملكًا عادلا
وحكمًا مقسطًا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد في قوله: { وَذَا الْكِفْلِ } قال: رجل صالح غير نبي،
تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك،
فَسُمي: ذا الكفل. وكذا روَى ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عفان، حدثنا وُهَيب، حدثنا داود، عن
مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي،
حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس، فقال: من يتقبل مني بثلاث: أستخلفه يصوم النهار،
ويقوم الليل، ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنت تصوم
النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردهم (4) ذلك اليوم، وقال مثلها
في اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل وقال (5) أنا. فاستخلفه، قال: وجعل
إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم ذلك (6) ، قال: دعوني (7) وإياه، فأتاه
في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة
__________
(1) في ف: "إنما فعل ذلك بهم".
(2) في ف: "فيما".
(3) انظر: تفسير الآيات: 54-57.
(4) في ف، أ: "فيردهم".
(5) في ف: "فقال"
(6) في ف، أ: "ذلك الرجل" .
(7) في أ: "دعوني أنا وإياه".
(5/363)
-وكان
لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة-فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير
مظلوم. قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة،
وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة،
فقال (1) : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق، وراح. فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل
يرى الشيخ؟ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس، وينتظره ولا
(2) يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال
(3) الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له (4) فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ قال:
إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا (5) أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك. وإذا قمت جحدوني.
قال: فانطلق، فإذا رحت فأتني. قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره (6) ولا
يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدًا يَقرب هذا الباب حتى أنام،
فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه (7) فقال له الرجل: وراءك وراءك؟
فقال: إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا
يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا
هو يدق الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان، ألم آمرك؟ فقال (8) أما
من قبلي والله فلم تؤتَ، فانظر من أين أتيت؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما
أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم، أعييتني في كل
شيء، ففعلت ما تَرَى لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به (9) .
وهكذا رواه بن أبي حاتم، من حديث زهير بن إسحاق، عن داود، عن مجاهد، بمثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن
الأعمش، عن مسلم، قال: قال ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل، فحضره الموت، فقال:
من يقوم مقامي على ألا يغضب؟ قال: فقال رجل: أنا. فسمي ذا الكفل. قال: فكان (10)
ليله جميعًا يصلي، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس -قال: وله (11) ساعة
يقيلها-قال: فكان كذلك، فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه: ما لك؟ قال:
إنسان مسكين، له على رجل حق، وقد غلبني عليه. قالوا: كما أنت حتى يستيقظ -قال: وهو
فوق نائم-قال: فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه (12) ، قال: فسمع، فقال: ما لك؟ قال:
إنسان مسكين، له على رجل حق. قال: اذهب فقل له يعطيك. قال: قد أبى. قال: اذهب أنت
إليه. قال: فذهب، ثم جاء من الغد، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك
رأسًا. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقك، قال: فذهب، ثم جاء من الغد حين قال، قال:
فقال له أصحابه: اخرج، فعل الله بك، تجيء كل يوم حين ينام، لا
__________
(1) في ف: "وقال".
(2) في ف، أ: "فلا".
(3) في ف: "فقال".
(4) في ف: "ففتح الباب" .
(5) في ف، أ: "اعترفوا".
(6) في ف: "ينتظر".
(7) في ف: "جاءه".
(8) في ت: "قال".
(9) تفسير الطبري (17/59).
(10) في ف: "فقال".
(11) في ف: "فله".
(12) في ف: "يغضبه".
(5/364)
تدعه
ينام؟. فجعل (1) يصيح: من أجل أني إنسان مسكين، لو كنت غنيا؟ قال: فسمع أيضًا،
فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فضربني. قال: امش حتى أجيء معك. قال: فهو ممسك بيده،
فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه (2) فَفَر.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حُجَيرة الأكبر، وغيرهم من
السلف، نحو من هذه القصة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر (3) ، أخبرنا سعيد بن بشير،
حدثنا قتادة، عن أبي كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر:
ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان -يعني: في بني إسرائيل-رجل صالح يصلي كل يوم مائة
صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: "قال أبو
موسى الأشعري..." فذكره منقطعا (4) ، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال:
حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد (5) مولى
طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه
إلا مرة أو مرتين -حتى عدّ سبع مرات-ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: "كان
الكفل من بني إسرائيل، لا يتورّع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا،
على أن يَطَأها، فلما قعد منها (6) مَقعدَ الرجل من امرأته، أرعِدَت (7) وبكت،
فقال: ما يبكيك؟ أكْرَهْتُك؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حَمَلني
عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ فَنزل (8) فقال: اذهبي فالدنانير
لك. ثم قال: "والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا
على بابه: قد غفر الله للكفل" (9) .
هكذا وقع في هذه الرواية "الكفل" ، من غير إضافة، فالله أعلم. وهذا
الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (10) ، وإسناده غريب، وعلى كل تقدير
فلفظ الحديث إن كان "الكفل" ، ولم يقل: "ذو الكفل" ، فلعله
رجل آخر، والله أعلم.
__________
(1) في ف، أ: "قال: فجعل".
(2) في أ: "منه فذهب".
(3) في ف، أ: "أبو الجماهير".
(4) تفسير الطبري (17/60).
(5) في ف، أ: "سعيد".
(6) في أ: "معها".
(7) في أ: "ارتعدت".
(8) في ف: "ثم نزل".
(9) المسند (2/23).
(10) قلت: بل أخرجه الترمذي في السنن برقم (2496) من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه
به، وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه
وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه".
(5/365)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ
إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) } .
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة "الصافات" وفي سورة "ن" (1)
وذلك أن يونس بن مَتَّى، عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى" ،
وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من
بين أظهرهم مغاضبا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن
النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات
وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا (2) إليه، ورغت الإبل وفُضْلانها،
وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحُمْلانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله
تعالى: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ (3) الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98] .
وأما يونس، عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم، وخافوا أن
يغرقوا (4) . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على
يونس، فأبوا (5) أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا، فأبوا، ثم أعادوها
فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [
الصافات:141]، أي: وقعت عليه القرعة (6) ، فقام يونس، عليه السلام، وتجرد من
ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله، سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر
-فيما قاله ابن مسعود-حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من
السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظما؛ فإن يونس
ليس لك رزقا، وإنما بطنك له يكون سجنًا.
وقوله: { وَذَا النُّونِ } يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله: { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك: لقومه، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [أي: نضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس،
ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، واختاره (7) ابن جرير، واستشهد عليه بقوله تعالى: {
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [
الطلاق:7] .
وقال عطية العَوفي: { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } (8) ، أي: نقضي عليه،
كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول: قدَر وقَدّر بمعنى واحد، وقال
الشاعر:
__________
(1) سورة الصافات الآيات: (139-148) ، وسورة نون (القلم) الآيات: (48-50).
(2) في ت: "ولجؤوا".
(3) في ت: "العذاب".
(4) في ت، ف: "تغرق بهم".
(5) في ت: "فأتوا".
(6) في ف: "فوقعت القرعة عليه".
(7) في ت: "واختارهم".
(8) زيادة من ت، ف، أ.
(5/366)
فَلا
عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى ... تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ، فَلَكَ الأمْرُ
...
ومنه قوله تعالى: { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر: 12]،
أي: قدر.
وقوله: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر،
وظلمة الليل. وكذا روي عن ابن عباس (1) ، وعمرو بن ميمون، وسعيد بن جُبَير، ومحمد
بن كعب، والضحاك، والحسن، وقتادة.
وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمةُ حُوت في بطن حوت (2) ، في ظلمة البحر.
قال ابن مسعود، وابنُ عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها،
حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع (3) يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك
وهنالكَ قال: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد
مكانه، ثم نادى: يا رب (4) ، اتخذت لك مسجدًا (5) في موضع ما اتخذه (6) أحد.
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما (7) ابن
جبير.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة-سمعتُ
أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أراد الله حَبْسَ
يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما،
فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسًا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله
إليه، وهو في بطن (8) الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر. قال: فَسَبَّح وهو في بطن
الحوت، فسمع (9) الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [بأرض
غريبة] (10) قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا:
العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح؟. قال: نعم".
قال: "فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله عز وجل:
(11) { وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات: 145].
ورواه ابن جرير (12) ، ورواه البزار في مسنده، من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله
بن رافع، عن أبي هريرة، فذكره بنحوه، ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله
عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد (13) ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة،
عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلمَة (14) ،
__________
(1) في ف: "ابن مسعود".
(2) في ف، أ: "حوت آخر".
(3) في ت، أ: "حتى يسمع" ، وفي ف: "حتى سمع".
(4) في ت: "رب الحوت" .
(5) في ت: "مسجد".
(6) في ف، أ: "ما أخده".
(7) في ت: "رواها".
(8) في ف: "وهو ببطن".
(9) في ف، أ: "فسمعت".
(10) زيادة من ف، أ.
(11) في ت: "الله تعالى".
(12) تفسير الطبري (17/65).
(13) مسند البزار برقم (2254) "كشف الأستار".
(14) في ت، ف: "مسلم".
(5/367)
عن
علي مرفوعًا: لا ينبغي لعبد أن يقول: " أنا (1) خير من يونس بن متى"؛
سبح لله في الظلمات (2) .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة، من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وعبد الله بن
جعفر، وسيأتي أسانيدها في سورة "ن" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب، حدثنا
عمي: حدثني أبو صخر: أن يزيد الرقاشي حدثه قال: سمعت أنس بن مالك -ولا أعلم إلا أن
أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أن يونس النبي، عليه السلام،
حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: "اللهم، لا إله إلا
أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين". فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش (4) ،
فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك (5) ؟
قالوا: لا يا رب (6) ، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل
يُرفَع له عَمَلٌ متقبل (7) ، ودعوة مجابة؟. [قال: نعم] (8) . قالوا: يا رب،
أَوَلا (9) ترحم ما كان يصنع (10) في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر
الحوت فطرحه في العراء (11) .
وقوله: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: أخرجناه من بطن
الحوت، وتلك الظلمات، { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي: إذا كانوا في
الشدائد ودَعَونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد
جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء، قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل بن عُمَر، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد
(12) ابن سعد، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد، -وهو ابن أبي وقاص -قال: مررت بعثمان
بن عفان، رضي الله عنه، في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يَردُدْ عليّ
السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين، هل حدث في الإسلام شيء؟
مرتين، قال: لا وما ذاك؟ قلت: لا إلا أني مررتُ بعثمان (13) آنفا في المسجد، فسلمت
عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يَرْدُد (14) علي السلام. قال: فأرسل عمر إلى عثمان
فدعاه، فقال: ما منعك ألا تكون رَدَدت على أخيك
__________
(1) في ف: "أنا عند الله خير".
(2) كذا (ابن عبد الحق) ، وأظنه تحريف عن عبد بن حميد، إلا أني لا أجزم بذلك، وقد
ذكره الهندي في كنز العمال (12/476) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه
وابن عساكر في تاريخه.
(3) كذا قال الحافظ ابن كثير، وإنما ذكره هناك من حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي
الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس: فرواه البخاري في صحيحه برقم (3395) ومسلم في صحيحه برقم
(2377).
وأما حديث عبد الله بن جعفر: فرواه أبو داود في السنن برقم (4670).
(4) في ت: "نحو العرش" وفي ف: "تحت العرش".
(5) في ف: "ذلك".
(6) في ت، ف: "يا ربنا".
(7) في ت، ف: "متقبلا".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ت، ف، أ: "أفلا".
(10) في ت، ف: "يصنعه".
(11) ورواه ابن أبي الدنيات في الفرج بعد الشدة برقم (32) من طريق أحمد بن صالح عن
عبد الله بن وهب به.
(12) في ت: "محمد بن إبراهيم".
(13) في ف ، أ: "بعثمان بن عفان رضي الله عنه".
(14) في ت: "يرد".
(5/368)
السلام؟
قال: ما فعلتُ. قال سعد: قلتُ: بلى (1) حتى حلفَ وحلفت، قال: ثم إن عثمان ذكرَ
فقال: بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدّث نفسي بكلمة
سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تَغْشَى بصري
وقلبي غشَاوة. قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا
[أول دعوة] (2) ثم جاء أعرابي فشغله، حتى قَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليّ رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق؟" قال: قلت: نعم، يا
رسول الله. قال: "فمه؟" قلت: لا والله، إلا أنك ذكرتَ لنا أول دعوة، ثم
جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: "نعم، دعوةُ ذي النون، إذ هو في بطن الحوت: {
لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، فإنه لم
يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
ورواه الترمذي، والنسائي في "اليوم والليلة"، من حديث إبراهيم بن محمد
بن سعد، عن أبيه، عن سعد (3) ، به (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن كَثِير بن
زيد، عن المطلب بن حنطب -قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب، يعني: ابن سعد -عن سعد (5)
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعاء يونس، استُجِيب (6)
له". قال أبو سعيد: يريد به { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } (7) .
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بَكَّار الكَلاعي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا أبو
يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بِشْر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال:
سمعت سعد بن مالك -وهو ابن أبي وقاص-يقول: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى، دعوةُ يونس بن
متى". قال: قلت (8) : يا رسول الله، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال:
هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل: {
: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } . فهو شرط من الله لمن دعاه به" (9) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا داود بن
المُحَبَّر بن قَحْذَم المقدسي، عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن، قلت: يا أبا
سعيد، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى؟ قال: ابنَ أخي،
أما تقرأ القرآن؟ قول الله: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا }
__________
(1) في ف: "ويلي".
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) في ت: "ابن سعيد".
(4) المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3505) وسنن النسائي الكبرى برقم (10492).
(5) في ت: "عن سعيد".
(6) في ت: "استجبت".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/584) من طريق يحيى بن عبد الحميد، وابن عدي في
الكامل (6/68) من طريق أبي هشام الرفاعي كلاهما عن أبي خالد الأحمر به.
(8) في ت، ف: "فقلت".
(9) تفسير الطبري (17/65).
(5/369)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
إلى
قوله: { الْمُؤْمِنِينَ } ، ابن أخي، هذا اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب،
وإذا سئل به أعطى.
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا
رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } .
يخبر تعالى عن عبده زكريا، حين طلب أن يَهبَه الله ولدا، يكون من بعده نبيًا. وقد
تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة "مريم" وفي سورة "آل عمران"
أيضا، وهاهنا أخصر منهما؛ { إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي: خفية عن قومه: { رَبِّ لا
تَذَرْنِي فَرْدًا } أي: لا ولدَ لي ولا وارثَ يقوم بعدي في الناس، { وَأَنْتَ
خَيْرُ الْوَارِثِينَ } دعاء وثناء مناسب للمسألة.
قال الله تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ } أي: امرأته.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: كانت عاقرا لا تلد، فولدت.
وقال عبد الرحمن بن مهدي (1) ، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: كان في لسانها طول
فأصلحها الله. وفي رواية: كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله. وهكذا قال محمد بن
كعب، والسدّي. والأظهر من السياق الأول.
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي: في عمل القُرُبات
وفعل الطاعات، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } قال الثوري: { رَغَبًا } فيما
عندنا، { وَرَهَبًا } مما عندنا، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } قال علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس: أي مصدقين بما أنزل الله. وقال مجاهد: مؤمنين حقا. وقال أبو
العالية: خائفين. وقال أبو سِنَان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه
أبدًا. وعن مجاهد أيضًا { خَاشِعِينَ } أي: متواضعين. وقال الحسن، وقتادة، والضحاك:
{ خَاشِعِينَ } أي: متذللين لله عز وجل. وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عبد
الرحمن بن إسحاق بن (2) عبد الله القرشي، عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر،
رضي الله عنه، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتُثنُوا عليه بما هو له
أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على
زكريا وأهل بيته، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } .
__________
(1) في ت: "ابن منبه".
(2) في ت، ف: "عن".
تفسير القرطبي
الآيتان:
81 - 82 {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ، وَمِنَ
الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا
لَهُمْ حَافِظِينَ}
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة،
أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني
أسد: أعصفت الريح فهي معصفة ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح؛
(11/321)
لأنها
تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبد الرحمن الأعرج وأبو بكر {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ}
برفع الحاء على القطع مما قبله؛ والمعنى ولسليمان تسخير الريح؛ ابتداء وخبر.
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني الشام يروي
أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب: كان
سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس
على سريره. وكان امرأ غزاء لا يعقد عن الغزو؛ فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت
ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء فمرت
به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ
رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36]. والرخاء اللينة. {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ
عَالِمِينَ} أي بكل شيء عملنا عالمين بتدبيره.
قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي وسخرنا له من يغوصون؛
يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد
غاص في الماء، والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ،
وفعله الغياصة. {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أي سوي ذلك من الغوص؛ قاله
الفراء. وقيل: يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك يسخرهم فيه. {وَكُنَّا
لَهُمْ حَافِظِينَ} أي لأعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم،
أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل: {حَافِظِينَ} من أن يهربوا أو
يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين
والقوارير والصابون من استخراج الشياطين.
الآيتان: 83 - 84 {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ
وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ
ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}
(11/322)
قوله
تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. {أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي نالني في بدني ضر وفي
مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن
أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين،
يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا لأنعم الله تعالى،
وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من
أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب مال وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه
وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن:
مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له:
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فيه شفاؤك، وقد
وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في “ص” ما للمفسرين في قصة أيوب من
تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب:
{مَسَّنِيَ الضُّرُّ} على خمسة عشر قولا:
الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} إخبارا عن
حاله، لا شكوى لبلائه؛ رواه أنس مرفوعا.
الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر.
الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما
ينزل بهم.
الرابع: أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء.
الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال: {مَسَّنِيَ
الضُّرُّ}. وهذا قول جعفر بن محمد.
السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا
ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من
أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم؛ قال ابن العربي.
السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح {مَسَّنِيَ
الضُّرُّ} فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا
(11/323)
مع
أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده.
الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال:
{مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان
له سند ولم تكن دعوى عريضة.
التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو
تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أي ضر الإشكال في جهة أخذ
البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه.
العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في
البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}. قال ابن العربي: وهذا
ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة.
الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي
بغير كافل.
الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا،
فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا
برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم
عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا.
فأرادوا قطعها عنه؛ فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}.
الثالث عشر: قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا
يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما
ابتلاه بهذا البلاء؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال:
{مَسَّنِيَ الضُّرُّ} ثم قال: “اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم
مكان جائع فصدقني” فنادى مناد من السماء “أن صدق عبد ي” وهما يسمعان فخرا ساجدين.
الرابع عشر: أن معنى {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} من شماتة الأعداء؛ ولهذا قيل له: ما كان
أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد
سأله أخوه العافية من ذلك فقال: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150]. الخامس عشر: أن
امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه
(11/324)
ما
تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه، وكان يستعين
بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال:
{مَسَّنِيَ الضُّرُّ}. وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل
وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها؛ فكانت المحنة على
قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.
قلت: وقول سادس عشر: ذكر ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه
من البلاء؛الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد
أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك
منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن
أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام: “ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني
كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب
إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق”
فنادى ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} إنما كان
دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله
تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث.
وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها
فلم يجدها فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد
أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال
العلماء: ولم يكن قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جزعا؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا
وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص: 44] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق
لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم
بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألت عن هذه
الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى: {إِنَّا
وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص: 44]
(11/325)
فقلت:
ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والإجابة تتعقب الدعاء
لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال
ليمن عليه بكوم النوال.
قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ} قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في
الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم
الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد عنهما بذلك
صحيح.
قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب
قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم.
وعن ابن عباس أيضا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة
وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة
من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي: وهذا
القول أشبه بظاهر الآية.
قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة “البقرة” في قصة
{الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:
243]. وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا؛ وذلك أنهم ماتوا قبل
آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى: {وَآتَيْنَاهُ
أَهْلَهُ} في الآخرة {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث
إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار، وأخذ بيده
ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله،
ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة
أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن
(11/326)
يشبع
من فضل الله!. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده،
ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي فعلنا
ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. {وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكيرا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته
له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب،
فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في
البلاء؛ فقال ابن عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع
ليال. وهب: ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم
ثماني عشرة سنة؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم.
الآيتان: 85 - 86 {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ
الصَّابِرِينَ، وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ} وهو أخنوخ وقد تقدم. {وَذَا الْكِفْلِ}
أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في “نوادر الأصول” وغيره من حديث ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا
يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها
مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته
قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى
الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي
الكفل" وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات
- [لم أحدث به] ولكني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"كان
(11/327)
ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل" قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل: أنا؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبد ا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة - ووصفها له - قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل: سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي في الجنة {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
(11/328)
الآيتان:
87 - 88 {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ} أي واذكر {ذَا النُّونِ} وهو لقب ليونس بن متى
لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا
مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: النونة
النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا.
{إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل.
واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما
أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول:
غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى
أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "اشترطي لهم الولاء" من هذا.
وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما
حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي
الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع
العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم
بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من
عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛
فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله
تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا
ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا
لربه، فهذا قول وقول
(11/329)
النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]. وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.
(11/330)
قلت:
هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في “والصافات” إن شاء الله تعالى. وقيل:
إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على
وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان
من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد: {حَتَّى
إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] إلى قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا} [آل عمران: 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك
زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من
قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج
عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا.
وينشد هذا البيت:
وأغضب أن تهجي تميم بداوم
أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من
الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان؟! وأنت تقول لم
يغضب على ربه ولا على قومه.
قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}
قيل: معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا
قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي
عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن
نضيق عليه. الحسن: هو من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيق. وقوله {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}
[الطلاق: 7].
قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن
عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي
فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو
الحكم
(11/331)
دون
القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز
وجل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} هو من التقدير ليس من القدرة، يقال
منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:
فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز
والزهري: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيهِ} بضم النون وتشديد الدال من
التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة
والأعرج: {أنْ لَنْ يُقَدَّرَ عَلَيهِ} بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول. وقرأ
يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا {يُقْدَرُ عَلَيْهِ} بياء
مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا {فَظَنَّ أَنْ لَنٍْ
يَقْدِر عَلَيْهِ}. الباقون {نَقْدِرَ} بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.
قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله
إذا مات فحرقوه "فوالله لئن قدر الله على" الحديث فعلى التأويل الأول
يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن
ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لن كان سبق في قدر الله
وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه
أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا
موحدا. وقد جاء في بعض طرقه “لم يعمل خيرا إلا التوحيد” وقد قال حين قال الله
تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال
الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. [فاطر: 28].
وقد قيل: إن معنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الاستفهام وتقديره: أفظن،
فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان “أبو” المعتمر. وحكى القاضي منذر بن
سعيد: أن بعضهم قرأ “أفظن” بالألف.
(11/332)
قوله
تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} اختلف العلماء في جمع الظلمات ما
المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة
الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل
عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال: لما
ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى
فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر {أَنْ لا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] كهيئة الفرخ الممعوط
الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت
التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال: {فِي
غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي:
أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروي: أن
الله تعالى أوحى إلى الحوت: "لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله
طعامك" وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في
قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبد ي حدثنا إسحاق بن
إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت
يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي
فقال في دعائه: “واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد”. وقال أبو المعالي: قوله صلى
الله عليه وسلم "لا تفضلوني على يونس بن متى" المعنى فإني لم أكن وأنا
في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على
أن الباري سبحانه وتعالى
(11/333)
ليس
في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في “البقرة” و”الأعراف”. {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يريد فيما خالف فيه من ترك
مداومة قومه والصبر عليهم وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله
عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا
يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي
بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن
الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: {رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير
الموضع الذي أنزلا فيه.
الثانية: روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد
قيل: إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في
هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو
قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو
مضمون قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فاعترف بالظلم فكان تلويحا.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي نخلصهم من همهم بما سبق من
عملهم. وذلك قوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ،لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] وهذا حفظ من الله عز وجل
لعبد ه يونس رعى له حق تعبد ه، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو
إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما
ظنك بعيد عبد ه سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {الْغَمِّ} أي من بطن
الحوت. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة بنونين من
أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجّيْ} بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل
الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب
الضرب زيدا وأنشد:
(11/334)
ولو
ولدت قفيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء.
وقرأ الحسن {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] استثقالا لتحريك ياء
قبلها كسرة. وأنشد:
خمر الشيب لمتي تخميرا ... وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت ... ودعي بالحساب أين المصيرا
سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب
البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه
القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛
وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب
الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة [فيه] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل
ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم
النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون
من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} {مَجَّاءَ
بِالحْسَنَةِ} قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان.
قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما
نحو قوله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد
بن السميقع وأبو العالية {وَكَذَلِكَ نَجَّى الْمُؤْمِنِينَ} أي نجى الله
المؤمنين؛ وهي حسنة.
الآيتان: 89 - 90 {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً
وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى
وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
(11/335)
قوله
تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر زكريا. وقد تقدم في “آل
عمران” ذكره. {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي خير من يبقي بعد كل من يموت؛ وإنما قال
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} لما تقدم من قوله: {يَرِثُنِي} [مريم: 6] أي أعلم
أنك، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي.
كما تقدم في “مريم” بيانه.
قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى}.
تقدم. {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين:
إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة
اللسان، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق.
قلت: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. {إنَّهُمْ} يعني
الأنبياء المسلمين في هذه السورة {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ} وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى.
قوله تعالى: { يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} أي يفزعون إلينا فيدعوننا
في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبد هم وهم بحال رغبة ورجاء
ورهبة وخوف، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء،
والرهب رفع ظهورها؛ قاله خصيف؛ وقال ابن عطية: وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن
يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه،
إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك، والإشارة
إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه.
الثانية: روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في
“الأعراف”
(11/336)
الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يدعو بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم". وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و {رَغَباً وَرَهَباً} منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف {وَيَدْعُنَا} بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا {رَغَباً وَرَهَباً} بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي متواضعين خاضعين.
تفسير الدر المنثور
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
أخرج
الْحَاكِم عَن وهب قَالَ: دَاوُد بن إيشا بن عُوَيْد بن عَابِر من ولد يهوذا بن
يَعْقُوب وَكَانَ قَصِيرا أَزْرَق قَلِيل الشّعْر طَاهِر الْقلب
وَأخرج ابْن جرير عَن مرّة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {إِذْ يحكمان فِي
الْحَرْث} قَالَ: كَانَ الْحَرْث نبتاً فنفشت فِيهِ لَيْلًا فاختصموا فِيهِ إِلَى
دَاوُد فَقضى بالغنم لأَصْحَاب الْحَرْث فَمروا على سُلَيْمَان فَذكرُوا ذَلِك
لَهُ فَقَالَ: لَا تدفع الْغنم
فيصيبون مِنْهَا وَيقوم هَؤُلَاءِ على حرثهم فَإِذا عَاد كَمَا كَانَ ردوا
عَلَيْهِم فَنزلت {ففهمناها سُلَيْمَان}
وَأخرج ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم والْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن
ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي
الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم} قَالَ: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته
الْغنم فَقضى دَاوُد بالغنم لصَاحب الْكَرم فَقَالَ سُلَيْمَان: أغير هَذَا يَا
نَبِي الله قَالَ: وَمَا ذَاك قَالَ: تدفع الْكَرم إِلَى صَاحب الْغنم فَيقوم
عَلَيْهِ حَتَّى يعود كَمَا كَانَ وتدفع الْغنم إِلَى صَاحب الْكَرم فَيُصِيب
مِنْهَا حَتَّى إِذا عَاد الْكَرم كَمَا كَانَ دفعت الْكَرم لصَاحبه وَدفعت الْغنم
إِلَى صَاحبهَا
فَذَلِك قَوْله: {ففهمناها سُلَيْمَان}
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن
مَسْرُوق قَالَ: الْحَرْث الَّذِي {نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم} إِنَّمَا كَانَ كرماً
نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم فَلم تدع فِيهِ ورقة وَلَا عنقوداً من عِنَب إِلَّا
أَكلته فَأتوا دَاوُد فَأَعْطَاهُمْ رقابها فَقَالَ سُلَيْمَان: إِن صَاحب الْكَرم
قد بَقِي لَهُ أصل كرمه وأصل أرضه بل تُؤْخَذ الْغنم فيعطاها أهل الْكَرم فَيكون
لَهُم لَبنهَا وصوفها ونفعها وَيُعْطى أهل الْغنم الْكَرم فيعمرونه ويصلحونه
حَتَّى يعود كَالَّذي كَانَ لَيْلَة نفشت فِيهِ الْغنم ثمَّ يعْطى أهل الْغنم
غَنمهمْ وَأهل الْكَرم كرمهم
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وَدَاوُد
وَسليمَان} إِلَى
(5/645)
قَوْله:
{وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} يَقُول: كُنَّا لما حكما شَاهِدين وَذَلِكَ أَن
رجلَيْنِ دخلا على دَاوُد: أَحدهمَا صَاحب حرث وَالْآخر صَاحب غنم فَقَالَ صَاحب
الْحَرْث: إِن هَذَا أرسل غنمه فِي حرثي فَلم تبْق من حرثي شَيْئا
فَقَالَ لَهُ دَاوُد: اذْهَبْ فَإِن الْغنم كلهَا لَك
فَقضى بذلك دَاوُد وَمر صَاحب الْغنم بِسُلَيْمَان فَأخْبرهُ بِالَّذِي قضى بِهِ
دَاوُد فَدخل سُلَيْمَان على دَاوُد فَقَالَ: يَا نَبِي الله إِن الْقَضَاء سوى
الَّذِي قضيت
فَقَالَ: كَيفَ قَالَ سُلَيْمَان: إِن الْحَرْث لَا يخفى على صَاحبه مَا يخرج مِنْهُ
فِي كل عَام فَلهُ من صَاحب الْغنم أَن ينْتَفع من أَوْلَادهَا وأصوافها
وَأَشْعَارهَا حَتَّى يَسْتَوْفِي ثمن الْحَرْث فَإِن الْغنم لَهَا نسل كل عَام
فَقَالَ دَاوُد: قد أصبت الْقَضَاء كَمَا قضيت
ففهمها الله سُلَيْمَان
وَأخرج ابْن جرير وَعبد الرَّزَّاق عَن مُجَاهِد فِي الْآيَة قَالَ: أَعْطَاهُم
دَاوُد رِقَاب الْغنم بالحرث وَحكم سُلَيْمَان بجزة الْغنم وَأَلْبَانهَا لأهل
الْحَرْث وَعَلَيْهِم رعاؤها ويحرث لَهُم أهل الْغنم حَتَّى يكون الْحَرْث
كَهَيْئَته يَوْم أكل ثمَّ يدفعونه إِلَى أَهله وَيَأْخُذُونَ غَنمهمْ
وَأخرج ابْن جرير عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْآيَة قَالَ: النفش
بِاللَّيْلِ والهمل بِالنَّهَارِ
ذكر لنا أَن غنم الْقَوْم وَقعت فِي زرع لَيْلًا فَرفع ذَلِك إِلَى دَاوُد فَقضى
بالغنم لأَصْحَاب الزَّرْع فَقَالَ سُلَيْمَان: لَيْسَ كَذَلِك وَلَكِن لَهُ نسلها
ورسلها وعوارضها وجزازها حَتَّى إِذا كَانَ من الْعَام الْمقبل كَهَيْئَته يَوْم
أكل دفعت الْغنم إِلَى أَرْبَابهَا وَقبض صَاحب الزَّرْع زرعه
قَالَ الله: {ففهمناها سُلَيْمَان}
وَأخرج ابْن جرير عَن قَتَادَة وَالزهْرِيّ فِي الْآيَة قَالَ: نفشت غنم فِي حرث
قوم فَقضى دَاوُد أَن يَأْخُذُوا الْغنم ففهمها الله سُلَيْمَان فَلَمَّا أخبر
بِقَضَاء دَاوُد قَالَ: لَا وَلَكِن خُذُوا الْغنم وَلكم مَا خرج من رسلها
وَأَوْلَادهَا وأصوافها إِلَى الْحول
وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن
مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَت امْرَأَة عابدة
من بني إِسْرَائِيل وَكَانَت تبتلت الْمَرْأَة وَكَانَ لَهَا جاريتان جميلتان وَقد
تبتلت الْمَرْأَة لَا تُرِيدُ الرِّجَال فَقَالَت إِحْدَى الجاريتين لِلْأُخْرَى:
قد طَال علينا هَذَا الْبلَاء أما هَذِه فَلَا تُرِيدُ الرِّجَال وَلَا نزال بشر
مَا كُنَّا لَهَا فَلَو أَنا فضحناها فرجمت فصرنا إِلَى الرِّجَال
فَأتيَا مَاء الْبيض فأتياها وَهِي سَاجِدَة فكشفتا عَن ثوبها ونضحتا فِي دبرهَا
مَاء الْبيض وصرختا: إِنَّهَا قد
(5/646)
بَغت
وَكَانَ من زنى فيهم حدّه الرَّجْم فَرفعت إِلَى دَاوُد وَمَاء الْبيض فِي
ثِيَابهَا فَأَرَادَ رَجمهَا فَقَالَ سُلَيْمَان: ائْتُوا بِنَار فَإِنَّهُ إِن
كَانَ مَاء الرِّجَال تفرق وَإِن كَانَ مَاء الْبيض اجْتمع
فَأتي بِنَار فوضعها عَلَيْهِ فَاجْتمع فدرأ عَنْهَا الرَّجْم فعطف دَاوُد على
سُلَيْمَان فَأَحبهُ
ثمَّ كَانَ بعد ذَلِك أَصْحَاب الْحَرْث وَأَصْحَاب الشياه فَقضى دَاوُد عَلَيْهِ
السَّلَام بالغنم لأَصْحَاب الْحَرْث فَخَرجُوا وَخرجت الرُّعَاة مَعَهم الْكلاب
فَقَالَ سُلَيْمَان: كَيفَ قضى بَيْنكُم فأخبروه فَقَالَ: لَو وليت أَمرهم لقضيت
بِغَيْر هَذَا الْقَضَاء
فَقيل لداود عَلَيْهِ السَّلَام: إِن سُلَيْمَان يَقُول كَذَا وَكَذَا
فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيفَ تقضي بَينهم فَقَالَ: أدفَع الْغنم إِلَى أَصْحَاب
الْحَرْث هَذَا الْعَام فَيكون لَهُم أَوْلَادهَا وسلالها وَأَلْبَانهَا ومنافعها
ويذر أَصْحَاب الْحَرْث الْحَرْث هَذَا الْعَام فَإِذا بلغ الْحَرْث الَّذِي كَانَ
عَلَيْهِ أَخذ هَؤُلَاءِ الْحَرْث ودفعوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْغنم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس {نفشت}
قَالَ: رعت
وَأخرج الطستي فِي مسَائِله عَن ابْن عَبَّاس إِن نَافِع بن الْأَزْرَق سَأَلَهُ
عَن قَوْله: {نفشت} قَالَ: النفش الرَّعْي بِاللَّيْلِ
قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم أما سَمِعت قَول لبيد: بدلن بعد النفش
الوجيفا وَبعد ول الْحزن الصريفا وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن أبي
شيبَة وَأحمد وَسَعِيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَأَبُو دَاوُد وَابْن ماجة
وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن مرْدَوَيْه عَن حرَام بن محيصة أَن نَاقَة
الْبَراء بن عَازِب دخلت حَائِطا فأفسدت فِيهِ فَقضى فِيهِ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: على أَن على أهل الحوائط حفظهَا بِالنَّهَارِ وَإِن مَا أفسدت
الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِن على أَهلهَا
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن نَاقَة الْبَراء بن
عَازِب رَضِي الله عَنهُ دخلت حَائِطا لقوم فأفسدت عَلَيْهِم فَأتوا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: على أهل الْحَائِط حفظ حائطهم بِالنَّهَارِ وعَلى
أهل الْمَوَاشِي حفظ مَوَاشِيهمْ بِاللَّيْلِ ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة {وَدَاوُد
وَسليمَان} الْآيَة
ثمَّ قَالَ: نفشت لَيْلًا
(5/647)
وَأخرج
ابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَرَأَ فافهمناها سُلَيْمَان
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَ الحكم بِمَا قضى بِهِ
سُلَيْمَان وَلم يعب دَاوُد فِي حكمه
وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن عِكْرِمَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن أَهْون أهل النَّار عذَابا رجل يطَأ جَمْرَة يغلي مِنْهَا دماغه
فَقَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ: وَمَا جرمه يَا رَسُول الله قَالَ:
كَانَت لَهُ مَاشِيَة يغشى بهَا الزَّرْع ويؤذيه وَحرم الله الرزع وَمَا حوله غلوة
سهم فاحذروا أَن لَا [] يسْتَحبّ الرجل مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا وَيهْلك نَفسه فِي
الْآخِرَة
وَأخرج أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَيْنَمَا
امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَانِ لَهما جَاءَ الذِّئْب فَأخذ أحد الِابْنَيْنِ
فتحاكما إِلَى دَاوُد فَقضى لَهُ للكبرى فخرجتا فدعاهما سُلَيْمَان فَقَالَ: هاتوا
السكين أشقه بَينهمَا
فَقَالَت الصُّغْرَى: يَرْحَمك الله هُوَ ابْنهَا لَا تشقه
فَقضى بِهِ للصغرى
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: إِن امْرَأَة
حسناء من بني إِسْرَائِيل راودها عَن نَفسهَا أَرْبَعَة من رُؤَسَائِهِمْ فامتنعت
على كل وَاحِد مِنْهُم فاتفقوا فِيمَا بَينهم عَلَيْهَا فَشَهِدُوا عَلَيْهَا
عِنْد دَاوُد أَنَّهَا مكنت من نَفسهَا كَلْبا لَهَا قد عوّدته ذَلِك مِنْهَا
فَأمر برجمها
فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم جلس سُلَيْمَان وَاجْتمعَ مَعَه ولدان
مثله فانتصب حَاكما وتزيا أَرْبَعَة مِنْهُم بزِي أُولَئِكَ وَآخر بزِي الْمَرْأَة
وشهدوا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مكنت من نَفسهَا كلبها
فَقَالَ سُلَيْمَان: فرقوا بَينهم
فَسَأَلَ أَوَّلهمْ: مَا كَانَ لون الْكَلْب فَقَالَ: أسود
فَعَزله واستدعى الآخر فَسَأَلَهُ عَن لَونه فَقَالَ: أَحْمَر وَقَالَ الآخر أغبش
وَقَالَ الآخر أَبيض
فَأمر عِنْد ذَلِك بِقَتْلِهِم فحكي ذَلِك لداود فاستدعى من فوره أُولَئِكَ
الْأَرْبَعَة فَسَأَلَهُمْ مُتَفَرّقين عَن لون ذَلِك الْكَلْب فَاخْتَلَفُوا
فِيهِ فَأمر بِقَتْلِهِم
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن ابْن أبي نجيح قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ
السَّلَام: أوتينا مَا أُوتِيَ النَّاس وَلم يؤتوا وَعلمنَا مَا علم النَّاس وَلم
يعلمُوا
فَلم يجد شَيْئا أفضل من ثَلَاث كَلِمَات: الْحلم فِي الْغَضَب وَالرِّضَا
وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنى وخشية الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة
(5/648)
وَأخرج
أَحْمد عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام
لِابْنِهِ: يَا بني إياك وَغَضب الْملك الظلوم فَإِن غَضَبه كغضب ملك الْمَوْت
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد عَن خَيْثَمَة قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ
السَّلَام: جربنَا الْعَيْش لينه وشديده فوجدناه يَكْفِي مِنْهُ أدناه
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وأمد عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان
لِابْنِهِ: يَا بني لَا تكْثر الْغيرَة على أهلك فترمى بالسوء من أَجلك وَإِن
كَانَت بريئة
يَا بني إِن من الْحيَاء صمتا وَمِنْه وقاراً يَا بني إِن أَحْبَبْت أَن تغيظ
عَدوك فَلَا ترفع الْعَصَا عَن ابْنك
يَا بني كَمَا يدْخل الوتد بَين الحجرين وكما تدخل الْحَيَّة بَين الحجرين كَذَلِك
تدخل الْخَطِيئَة بَين البيعين
وَأخرج أَحْمد عَن مَالك بن دِينَار قَالَ: بلغنَا أَن سُلَيْمَان قَالَ
لِابْنِهِ: امش وَرَاء الْأسد وَلَا تمش وَرَاء امْرَأَة
وَأخرج أَحْمد عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان لِابْنِهِ: يَا بني
إِن من سوء الْعَيْش نقلا من بَيت إِلَى بَيت
وَقَالَ لِابْنِهِ: عَلَيْك بخشية الله فَإِنَّهَا غلبت كل شَيْء
وَأخرج أَحْمد عَن بكر بن عبد الله أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِابْنِهِ
سُلَيْمَان: أَي شَيْء أبرد وَأي شَيْء أحلى وَأي شَيْء أقرب وَأي شَيْء أقل وَأي
شَيْء أَكثر وَأي شَيْء آنس وَأي شَيْء أوحش قَالَ: أحلى شَيْء روح الله من عباده
وأبرد شَيْء عَفْو الله عَن عباده وعفو الْعباد بَعضهم عَن بعض
وآنس شَيْء الرّوح تكون فِي الْجَسَد وأوحش شَيْء الْجَسَد تنْزع مِنْهُ الرّوح
وَأَقل شَيْء الْيَقِين وَأكْثر شَيْء الشَّك وَأقرب شَيْء الْآخِرَة من
الدُّنْيَا وَأبْعد شَيْء الدُّنْيَا من الْآخِرَة
وَأخرج أَحْمد عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان لِابْنِهِ: لَا تقطعن
أمرا حَتَّى تؤامر مرشداً فَإِذا فعلت ذَلِك فَلَا تحزن عَلَيْهِ
وَقَالَ: يَا بني مَا أقبح الْخَطِيئَة مَعَ المسكنة وأقبح الضَّلَالَة بعد الْهدى
وأقبح من ذَلِك رجل كَانَ عابداً فَترك عبَادَة ربه
وَأخرج أَحْمد عَن قَتَادَة قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: عجبا
للتاجر: كَيفَ يخلص يحلف بِالنَّهَارِ وينام بِاللَّيْلِ
(5/649)
وَأخرج
أَحْمد عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان لِابْنِهِ: يَا بني إياك
والنميمة فَإِنَّهَا كَحَد السَّيْف
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق حَمَّاد بن
سَلمَة عَن حميد الطَّوِيل: أَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة لما استقضى آتَاهُ الْحسن
فَرَآهُ حَزينًا فَبكى إِيَاس فَقَالَ: مَا يبكيك فَقَالَ: يَا أَبَا سعيد بَلغنِي
أَن الْقُضَاة ثَلَاثَة: رجل اجْتهد فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّار وَرجل مَال
بِهِ الْهوى فَهُوَ فِي النَّار وَرجل اجْتهد فَأصَاب فَهُوَ فِي الْجنَّة
فَقَالَ الْحسن: إِن فِيمَا قصّ الله من نبأ دَاوُد مَا يرد ذَلِك
ثمَّ قَرَأَ {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} حَتَّى بلغ {وكلا
آتَيْنَا حكما وعلماً} فَأثْنى على سُلَيْمَان وَلم يذم دَاوُد
ثمَّ قَالَ: أَخذ الله على الْحُكَّام ثَلَاثَة: أَن لَا يشتروا بآياته ثمنا
قَلِيلا وَلَا يتبعوا الْهوى وَلَا يخشوا النَّاس
ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة (يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض) (ص آيَة
26) الْآيَة وَقَالَ (فَلَا تخشوا النَّاس واخشون) (الْمَائِدَة آيَة 44) وَقَالَ
(وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا) (الْمَائِدَة آيَة 44)
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي
حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ فِي العظمة عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وسخرنا مَعَ دَاوُد
الْجبَال يسبحْنَ وَالطير} قَالَ: يصلين مَعَ دَاوُد إِذا صلى {وعلمناه صَنْعَة
لبوس لكم} قَالَ: كَانَت صَفَائِح فَأول من مدها وحلقها دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
وَأخرج السّديّ فِي قَوْله: {وعلمناه صَنْعَة لبوس لكم} قَالَ: هِيَ دروع
الْحَدِيد {لتحصنكم من بأسكم} قَالَ: من رتع السِّلَاح فِيكُم
وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ لنحصنكم بالنُّون
وَأخرج الْفرْيَابِيّ عَن سُلَيْمَان بن حَيَّان قَالَ: كَانَ دَاوُد إِذا وجد
فَتْرَة أَمر الْجبَال فسبحت حَتَّى يشتاق
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: كَانَ عمر آدم ألف سنة وَكَانَ عمر دَاوُد سِتِّينَ سنة
فَقَالَ آدم: أَي رب زده من عمري أَرْبَعِينَ سنة
فأكمل لآدَم ألف سنة وأكمل لداود مائَة سنة
(5/650)
وَأخرج
ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي ذكر الْمَوْت وَالْحَاكِم
وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَاتَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم السِّت
فَجْأَة فعكفت الطير عَلَيْهِ تظله
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ
سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يوضع لَهُ سِتّمائَة ألف كرْسِي ثمَّ يَجِيء
أَشْرَاف النَّاس فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ ثمَّ يَجِيء أَشْرَاف الْجِنّ
فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي أَشْرَاف الْإِنْس ثمَّ يَدْعُو الطير فتظلهم ثمَّ
يَدْعُو الرّيح فتحملهم فيسير مسيرَة شهر فِي الْغَدَاة الْوَاحِدَة
وَأخرج الْحَاكِم عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: بلغنَا أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ
السَّلَام كَانَ عسكره مائَة فَرسَخ خَمْسَة وَعِشْرُونَ مِنْهَا للإنس وَخَمْسَة
وَعِشْرُونَ للجن وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ للوحش وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ للطير
وَكَانَ لَهُ ألف بَيت من قَوَارِير على الْخشب فِيهَا ثلثمِائة حرَّة وَسَبْعمائة
سَرِيَّة فَأمر الرّيح العاصف فَرَفَعته فَأمر الرّيح فسارت بِهِ فَأوحى الله
إِلَيْهِ أَنِّي أَزِيد فِي ملكك أَن لَا يتَكَلَّم أحد بِشَيْء إِلَّا جَاءَت
الرّيح فأخبرتك
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: كَانَ سُلَيْمَان
يَأْمر الرّيح فتجتمع كالطود الْعَظِيم ثمَّ يَأْمر بفراشه فَيُوضَع على أَعلَى
مَكَان مِنْهَا ثمَّ يَدْعُو بفرس من ذَوَات الأجنحة فترتفع حَتَّى تصعد على
فرَاشه ثمَّ يَأْمر الرّيح فترتفع بِهِ كل شرف دون السَّمَاء فَهُوَ يُطَأْطِئ
رَأسه مَا يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالاً تَعْظِيمًا لله وشكراً لما يعلم من صغر
مَا هُوَ فِيهِ فِي ملك الله يَضَعهُ الرّيح حَيْثُ يَشَاء أَن يَضَعهُ
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد قَالَ: كَانَ لِسُلَيْمَان مركب من خشب
وَكَانَ فِيهِ ألف ركن فِي كل ركن ألف بَيت يركب مَعَه فِيهِ الْجِنّ وَالْإِنْس
تَحت كل ركن ألف شَيْطَان يرفعون ذَلِك الْمركب فَإِذا ارْتَفع جَاءَت الرّيح
الرخَاء فسارت بِهِ وَسَارُوا مَعَه فَلَا يدْرِي الْقَوْم إِلَّا قد أظلهم من
الجيوش والجنود
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن السّديّ فِي قَوْله: {ولسليمان الرّيح عَاصِفَة} قَالَ:
الرّيح الشَّدِيدَة {تجْرِي بأَمْره إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا} قَالَ:
أَرض الشَّام
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله:
{ولسليمان الرّيح} الْآيَة
قَالَ: ورث الله لِسُلَيْمَان دَاوُد فورثه نبوته وَملكه وزاده على ذَلِك أَنه سخر
لَهُ الرِّيَاح وَالشَّيَاطِين
(5/651)
وَأخرج
ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عمر أَنه قَرَأَ {ولسليمان الرّيح} يَقُول: سخرنا لَهُ
الرّيح
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله: {وَمن الشَّيَاطِين من يغوصون
لَهُ} قَالَ: يغوصون فِي المَاء
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ والديلمي عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: ذكر عِنْد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رقية الْحَيَّة فَقَالَ: اعرضها عَليّ
فعرضها عَلَيْهِ بِسم الله شجنية قرنية ملحة بَحر قفطا
فَقَالَ: هَذِه مواثيق أَخذهَا سُلَيْمَان على الْهَوَام وَلَا أرى بهَا بَأْسا
وَأخرج الْحَاكِم عَن الشّعبِيّ قَالَ: أرخ بَنو اسحق من مبعث مُوسَى إِلَى ملك
سُلَيْمَان
الْآيَة 83 - 86
(5/652)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
أخرج
الْحَاكِم من طَرِيق سَمُرَة عَن كَعْب قَالَ: كَانَ أَيُّوب بن أموص نَبِي الله
الصابر طَويلا جعد الشّعْر وَاسع الْعَينَيْنِ حسن الْخلق وَكَانَ على جَبينه
مَكْتُوب: الْمُبْتَلى الصابر وَكَانَ قصير الْعُنُق عريض الصَّدْر غليظ
السَّاقَيْن والساعدين كَانَ يُعْطي الأرامل ويكسوهم جاهداً ناصحاً لله
وَأخرج الْحَاكِم عَن وهب قَالَ: أَيُّوب بن أموص بن رزاح بن عيص بن إِسْحَق بن
إِبْرَاهِيم الْخَلِيل
وَأخرج ابْن سعد عَن الْكَلْبِيّ قَالَ: أول نَبِي بعث إِدْرِيس ثمَّ نوح ثمَّ
إِبْرَاهِيم ثمَّ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَق ثمَّ يَعْقُوب ثمَّ يُوسُف ثمَّ لوط ثمَّ
هود ثمَّ صَالح ثمَّ شُعَيْب ثمَّ مُوسَى وَهَارُون ثمَّ إلْيَاس ثمَّ اليسع ثمَّ
يُونُس ثمَّ أَيُّوب
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن وهب قَالَ: كَانَ أَيُّوب أعبد أهل زَمَانه وَأَكْثَرهم
مَالا
(5/652)
فَكَانَ
لَا يشْبع حَتَّى يشْبع الجائع وَكَانَ لَا يكتسي حَتَّى يكسي العاري وَكَانَ
إِبْلِيس قد أعياه أَمر أَيُّوب لقُوته فَلَا يقدر عَلَيْهِ وَكَانَ عبدا
مَعْصُوما
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَابْن عَسَاكِر عَن وهب أَنه سُئِلَ: مَا كَانَت
شَرِيعَة قوم أَيُّوب قَالَ: التَّوْحِيد وَإِصْلَاح ذَات الْبَين
وَإِذا كَانَت لأحد مِنْهُم حَاجَة خر لله سَاجِدا ثمَّ طلب حَاجته
قيل: فَمَا كَانَ مَاله قَالَ: كَانَ لَهُ ثَلَاثَة آلَاف فدان مَعَ كل فدان عبد
مَعَ كل عبد وليدة وَمَعَ كل وليد أتان وَأَرْبَعَة عشرَة ألف شَاة وَلم يبت
لَيْلَة لَهُ إِلَّا وضيف وَرَاء بَابه وَلم يَأْكُل طَعَامه إِلَّا وَمَعَهُ
مِسْكين
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: مَا أصَاب
إِبْلِيس من أَيُّوب فِي مَرضه إِلَّا الأنين
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن عقبَة بن عَامر قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
قَالَ الله لأيوب: تَدْرِي مَا جرمك إليّ حَتَّى ابتليتك فَقَالَ: لَا يَا رب
قَالَ: لِأَنَّك دخلت على فِرْعَوْن فداهنت عِنْده فِي كَلِمَتَيْنِ
وَأخرج ابْن عَسَاكِر من طَرِيق جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:
إِنَّمَا كَانَ ذَنْب أَيُّوب أَنه اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكين على ظلم يدرؤه عَنهُ
فَلم يعنه وَلم يَأْمر بِمَعْرُوف وينه الظَّالِم عَن ظلمه الْمِسْكِين فابتلاه
الله
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن اللَّيْث بن سعد قَالَ: كَانَ السَّبَب الَّذِي
ابْتُلِيَ فِيهِ أَيُّوب أَنه دخل أهل قريته على ملكهم - وَهُوَ جَبَّار من
الْجَبَابِرَة - وَذكر بعض مَا كَانَ ظلمه النَّاس فكلموه فأبلغوا فِي كَلَامه
ورفق أَيُّوب فِي كَلَامه لَهُ مَخَافَة مِنْهُ لزرعه فَقَالَ الله: اتَّقَيْت
عبدا من عبَادي من أجل زرعك فَأنْزل الله بِهِ مَا أنزل من الْبلَاء
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ قَالَ: أجدب الشَّام فَكتب
فِرْعَوْن إِلَى أَيُّوب: أَن هَلُمَّ إِلَيْنَا فَإِن لَك عندنَا سَعَة
فَأقبل بخيله وماشيته وبنيه فأقطعهم فَدخل شُعَيْب فَقَالَ فِرْعَوْن: أما تخَاف
أَن يغْضب غضبة فيغضب لغضبه أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال والبحار فَسكت
أَيُّوب فَلَمَّا خرجا من عِنْده أوحى الله إِلَى أَيُّوب: أوسكت عَن فِرْعَوْن
لذهابك إِلَى أرضه استعد للبلاء
قَالَ: فديني قَالَ: أسلمه لَك
قَالَ: لَا أُبَالِي
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو نعيم وَابْن عَسَاكِر عَن يزِيد بن ميسرَة قَالَ:
لما
(5/653)
ابتلى
الله أَيُّوب بذهاب المَال والأهل وَالْولد فَلم يبْق لَهُ شَيْء أحسن الذّكر
وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
ثمَّ قَالَ: أحمدك رب الَّذِي أَحْسَنت إليّ
قد أَعْطَيْتنِي المَال وَالْولد لم يبْق من قلبِي شُعْبَة إِلَّا قد دَخلهَا
ذَلِك فَأخذت ذَلِك كُله مني وفزعت قلبِي فَلَيْسَ يحول بيني وَبَيْنك شَيْء لَا
يعلم عدوي إِبْلِيس الَّذِي وصفت إِلَّا حسدني فلقي إِبْلِيس من ذها شَيْئا
مُنْكرا
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد فِي الزّهْد وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن
الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية عَن عبد الله بن عبيد بن
عُمَيْر قَالَ: كَانَ لأيوب أَخَوان فجاءا يَوْمًا فَلم يستطيعا أَن يدنوا مِنْهُ
من رِيحه فقاما من بعيد فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر: لَو كَانَ الله علم من أَيُّوب
خيرا مَا ابتلاه بِهَذَا فجزع أَيُّوب من قَوْلهمَا جزعاً لم يجزع من شَيْء قطّ
مثله قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي لم أَبَت لَيْلَة قطّ شبعاً وَأَنا
أعلم مَكَان جَائِع فصدقني
فصدّق من فِي السَّمَاء وهما يسمعان ثمَّ خر سَاجِدا وَقَالَ: اللَّهُمَّ بعزتك
لَا أرفع رَأْسِي حَتَّى تكشف عني
فَمَا رفع رَأسه حَتَّى كشف الله عَنهُ
وأخرح ابْن عَسَاكِر عَن الْحسن قَالَ: ضرب أَيُّوب بالبلاء ثمَّ بالبلاء بعد
الْبلَاء بذهاب الْأَهْل وَالْمَال ثمَّ ابْتُلِيَ فِي بدنه ثمَّ ابْتُلِيَ حَتَّى
قذف فِي بعض مزابل بني إِسْرَائِيل فَمَا يعلم أَيُّوب دَعَا الله يَوْمًا أَن
يكْشف مَا بِهِ لَيْسَ إِلَّا صبرا وإحتساباً حَتَّى مر بِهِ رجلَانِ فَقَالَ
أَحدهمَا لصَاحبه: لَو كَانَ لله فِي هَذَا حَاجَة مَا بلغ بِهِ هَذَا كُله
فَسمع أَيُّوب فشق عَلَيْهِ فَقَالَ: رب {مسني الضّر} ثمَّ رد ذَلِك إِلَى ربه
فَقَالَ: {وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ فاستجبنا لَهُ فكشفنا مَا بِهِ من ضرّ
وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} قَالَ: {وَآتَيْنَاهُ أَهله} فِي الدُّنْيَا
{وَمثلهمْ مَعَهم} فِي الْآخِرَة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن
مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} قَالَ: قيل لَهُ: يَا
أَيُّوب إِن أهلك لَك فِي الْجنَّة فَإِن شِئْت آتيناك بهم وَإِن شِئْت تركناهم
لَك فِي الْجنَّة وعوّضناك مثلهم
قَالَ: لَا بل اتركهم لي فِي الْجنَّة فتركوا لَهُ فِي الْجنَّة وعوّض مثلهم فِي
الدُّنْيَا
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن نوف الْبكالِي فِي قَوْله:
{وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} قَالَ: إِنِّي أدخرهم فِي الْآخِرَة
وَأعْطِي مثلهم فِي الدُّنْيَا
فَحدث بذلك مطرف فَقَالَ: مَا عرفت وَجههَا قبل الْيَوْم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَالطَّبَرَانِيّ عَن
الضَّحَّاك قَالَ: بلغ
(5/654)
ابْن
مَسْعُود أَن مَرْوَان قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ
مَعَهم} قَالَ: أُوتِيَ بِأَهْل غير أَهله فَقَالَ ابْن مَسْعُود: بل أُوتِيَ
بأعيانهم وَمثلهمْ مَعَهم
وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ
مَعَهم} قَالَ: لم يَكُونُوا مَاتُوا ولكنعم غَيَّبُوا عَنهُ فَأَتَاهُ أَهله
{وَمثلهمْ مَعَهم} فِي الْآخِرَة
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن جريج فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم}
قَالَ: أحياهم بأعيانهم وَزَاد إِلَيْهِم مثلهم
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن وَقَتَادَة فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ
مَعَهم} قَالَ: أَحْيَا الله لَهُ أَهله بأعيانهم وزاده الله مثلهم
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن {وَمثلهمْ مَعَهم} قَالَ: من نسلهم
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن الْحسن قَالَ: مَا كَانَ بَقِي من أَيُّوب عَلَيْهِ
السَّلَام إِلَّا عَيناهُ وَقَلبه وَلسَانه فَكَانَت الدَّوَابّ تخْتَلف فِي جسده
وَمكث فِي الكناسة سبع سِنِين وأياماً
وَأخرج أَحْمد عَن نوف الْبكالِي قَالَ: مر نفر من بني إِسْرَائِيل بِأَيُّوب
فَقَالُوا: مَا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ إِلَّا بذنب عَظِيم أَصَابَهُ
فَسَمعَهَا أَيُّوب فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ: {مسني الضّر وَأَنت أرْحم
الرَّاحِمِينَ} وَكَانَ قبل ذَلِك لَا يَدْعُو
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن قَالَ: لقد مكث أَيُّوب مطروحاً على كناسَة سبع
سِنِين وأشهراً مَا يسْأَل الله أَن يكْشف مَا بِهِ وَمَا على وَجه الأَرْض خلق
أكْرم من أَيُّوب فيزعمون أَن بعض النَّاس قَالَ: لَو كَانَ لرب هَذَا فِيهِ
حَاجَة مَا صنع بِهِ هَذَا
فَعِنْدَ ذَلِك دَعَا
وَأخرج ابْن جريرعن وهب بن مُنَبّه قَالَ: لم يكن بِأَيُّوب الْأكلَة إِنَّمَا
يخرج مِنْهُ مثل ثدي النِّسَاء ثمَّ يتفقأ
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {أَنِّي مسني الضّر وَأَنت أرْحم
الرَّاحِمِينَ} قَالَ: إِنَّه لما مَسّه الضّر أنساه الله الدُّعَاء أَن يَدعُوهُ
فَيكْشف مَا بِهِ من ضرّ غير أَنه كَانَ يذكر الله كثيرا وَلَا يزِيدهُ الْبلَاء
فِي الله إِلَّا رَغْبَة وَحسن إيقان فَلَمَّا انْتهى الْأَجَل وَقضى الله أَنه
كاشف مَا بِهِ من ضرّ أذن لَهُ فِي الدُّعَاء ويسرّه لَهُ كَانَ قبل ذَلِك يَقُول
تبَارك وَتَعَالَى: لَا يَنْبَغِي لعبدي أَيُّوب أَن يدعوني ثمَّ لَا أستجيب لَهُ
فَلَمَّا دَعَا
(5/655)
اسْتَجَابَ
لَهُ وأبدله بِكُل شَيْء ذهب لَهُ ضعفين رد أَهله وَمثلهمْ مَعَهم وَأثْنى
عَلَيْهِ فَقَالَ: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أوّاب)
وَأخرج ابْن جرير عَن لَيْث قَالَ: أرسل مُجَاهِد رجلا يُقَال لَهُ قَاسم إِلَى
عِكْرِمَة يسْأَله عَن قَول الله لأيوب {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم}
فَقَالَ: قيل لَهُ: إِن أهلك لَك فِي الْآخِرَة فَإِن شِئْت عجلناهم لَك فِي
الدُّنْيَا وَإِن شِئْت كَانُوا لَك فِي الْآخِرَة وآتيناك مثلهم فِي الدُّنْيَا
فَقَالَ: يكونُونَ فِي الْآخِرَة وأوتى مثلهم فِي الدُّنْيَا
فَرجع إِلَى مُجَاهِد فَقَالَ: أصَاب
وَأخرج ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ فِي قَوْله: {رَحْمَة من عندنَا
وذكرى للعابدين} وَقَوله: (رَحْمَة منا وذكرى لأولي الْأَلْبَاب) (ص آيَة 43)
قَالَ: إِنَّمَا هُوَ من أَصَابَهُ بلَاء فَذكر مَا أصَاب أَيُّوب فَلْيقل: إِنَّه
قد أصَاب من هُوَ خير مني نَبِي من الْأَنْبِيَاء
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن قَالَ: بَقِي أَيُّوب على كناسَة لنَبِيّ إِسْرَائِيل
سبع سِنِين وأشهراً تخْتَلف فِيهِ الدَّوَابّ
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن قَالَ: إِن أَيُّوب آتَاهُ الله تَعَالَى مَالا
وَولدا وأوسع عَلَيْهِ فَلهُ من الشياه وَالْبَقر وَالْغنم وَالْإِبِل
وَإِن عَدو الله إِبْلِيس قيل لَهُ: هَل تقدر أَن تفتن أَيُّوب قَالَ: رب إِن
أَيُّوب أصبح فِي دنيا من مَال وَولد فَلَا يَسْتَطِيع إِلَّا شكرك فسلطني على
مَاله وَولده فسترى كَيفَ يطيعني ويعصيك
فَسلط على مَاله وَولده فَكَانَ يَأْتِي الْمَاشِيَة من مَاله من الْغنم فيحرقها
بالنيران ثمَّ يَأْتِي أَيُّوب وَهُوَ يُصَلِّي متشبهاً براعي الْغنم فَيَقُول:
يَا أَيُّوب تصلي لرب مَا ترك الله لَك من ماشيتك شَيْئا من الْغنم إِلَّا أحرقها
بالنيران
وَكنت نَاحيَة فَجئْت لأخبرك
فَيَقُول أَيُّوب: اللَّهُمَّ أَنْت أَعْطَيْت وَأَنت أخذت مهما يبْق شَيْء أحمدك
على حسن بلائك
فَلَا يقدر مِنْهُ على شَيْء مِمَّا يُرِيد ثمَّ يَأْتِي مَاشِيَته من الْبَقر
فيحرقها بالنيران
ثمَّ يَأْتِي أَيُّوب فَيَقُول لَهُ ذَلِك وَيرد عَلَيْهِ أَيُّوب مثل ذَلِك
وَكَذَلِكَ فعل بِالْإِبِلِ حَتَّى مَا ترك لَهُ مَاشِيَة حَتَّى هدم الْبَيْت على
وَلَده فَقَالَ: يَا أَيُّوب أرسل الله على ولدك من هدم عَلَيْهِم الْبيُوت حَتَّى
يهْلكُوا فَيَقُول أَيُّوب مثل ذَلِك
وَقَالَ: رب هَذَا حِين أَحْسَنت إِلَيّ الْإِحْسَان كُله قد كنت قبل الْيَوْم
يشغلني حب المَال بِالنَّهَارِ ويشغلني حب الْوَلَد بِاللَّيْلِ
(5/656)
شَفَقَة
عَلَيْهِم فَالْآن أفرغ سَمْعِي لَك وبصري وليلي ونهاري بِالذكر وَالْحَمْد
وَالتَّقْدِيس والتهليل
فَيَنْصَرِف عَدو الله من عِنْده وَلم يصب مِنْهُ شَيْئا مِمَّا يُرِيد
ثمَّ إِن الله تَعَالَى قَالَ: كَيفَ رَأَيْت أَيُّوب قَالَ إِبْلِيس: إِن أَيُّوب
قد علم أَنَّك سترد عَلَيْهِ مَاله وَولده وَلَكِن سَلطنِي على جسده فَإِن
أَصَابَهُ الضّر فِيهِ أَطَاعَنِي وعصاك
فَسلط على جسده فَأَتَاهُ فَنفخ فِيهِ نفخة أقرح من لدن قرنه إِلَى قدمه
فَأَصَابَهُ الْبلَاء بعد الْبلَاء حَتَّى حمل فَوضع على مزبلة كناسَة لبني
إِسْرَائِيل فَلم يبْق لَهُ مَال وَلَا ولد وَلَا صديق وَلَا أحد يقربهُ غير
رَحْمَة صبرت عَلَيْهِ تصدق عَلَيْهِ وتأتيه بِطَعَام وتحمد الله مَعَه إِذا حَمده
وَأَيوب على ذَلِك لَا يفر من ذكر الله والتحميد وَالثنَاء على الله وَالصَّبْر
على مَا ابتلاه الله
فَصَرَخَ إِبْلِيس صرخة جمع فِيهَا جُنُوده من أقطاء الْأَرْضين جزعاً من صَبر
أَيُّوب فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: اجْتَمَعنَا إِلَيْك مَا أحزنك مَا
أعياك قَالَ: أعياني هَذَا العَبْد الَّذِي سَأَلت رَبِّي أَن يسلطني على مَاله
وَولده فَلم أدع لَهُ مَالا وَلَا ولدا فَلم يَزْدَدْ بذلك إِلَّا صبرا وثناء على
الله تَعَالَى وتحميداً لَهُ ثمَّ سلطت على جسده فتركته قرحَة ملقاة على كناسَة
بني إِسْرَائِيل لَا تقربه إِلَّا امْرَأَته فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني
عَلَيْهِ
فَقَالُوا لَهُ: أَيْن مكرك أَيْن علمك الَّذِي أهلكت بِهِ من مضى قَالَ: بَطل
ذَلِك كُله فِي أَيُّوب فأشيروا عَليّ
قَالُوا: نشِير عَلَيْك أَرَأَيْت آدم حِين أخرجته من الْجنَّة من [] أَتَيْته
قَالَ: من قبل امْرَأَته
قَالُوا: فشأنك بِأَيُّوب من قبل امْرَأَته فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع أَن يعصيها
وَلَيْسَ أحد يقربهُ غَيرهَا
قَالَ: أصبْتُم
فَانْطَلق حَتَّى أَتَى امْرَأَته وَهِي تصدق فتمثل لَهَا فِي صُورَة رجل فَقَالَ:
أَيْن بعلك يَا أمة الله قَالَت: هَا هُوَ ذَاك يحك قروه ويتردد الدُّود فِي جسده
فَلَمَّا سَمعهَا طمع أَن تكون كلمة جزع فَوضع فِي صدرها فوسوس إِلَيْهَا فَذكرهَا
مَا كَانَت فِيهِ من النعم وَالْمَال وَالدَّوَاب وَذكرهَا جمال أَيُّوب وشبابه
وَمَا هُوَ فِيهِ من الضّر وَإِن ذَلِك لَا يَنْقَطِع عَنْهُم أبدا
فصرخت فَلَمَّا صرخت علم أَن قد جزعت فَأَتَاهُ بسخلة فَقَالَ: ليذبح هَذَا إِلَى
أَيُّوب وَيبرأ
فَجَاءَت تصرخ: يَا أَيُّوب يَا أَيُّوب
حَتَّى مَتى يعذبك رَبك أَلا يَرْحَمك أَيْن المَال أَيْن الشَّبَاب أَيْن
الْوَلَد أَيْن الصّديق أَيْن لونك الْحسن الَّذِي بلي وتلدد فِيهِ الدَّوَابّ
اذْبَحْ هَذِه السخلة واسترح
قَالَ: أَيُّوب: أتاكِ عَدو الله فَنفخ فِيك فَوجدَ فِيك رفقا فأجبِتِه ويلكِ
أرأيتِ مَا تبكين عَلَيْهِ مِمَّا تذكرين مِمَّا كُنَّا فِيهِ من
(5/657)
المَال
وَالْولد وَالصِّحَّة والشباب من أعطانيه قَالَ [قَالَت] : الله
قَالَ: فكم متعنَا قَالَ [قَالَت] : ثَمَانِينَ سنة
قَالَ: فمذ كم ابتلانا الله بِهَذَا الْبلَاء الَّذِي ابتلانا بِهِ قَالَت: سبع
سِنِين وأشهراً
قَالَ: ويلكِ
وَالله مَا عدلت وَلَا أنصفت رَبك إِلَّا صبرت حَتَّى نَكُون فِي هَذَا الْبلَاء
الَّذِي ابتلانا رَبنَا ثَمَانِينَ سنة كَمَا كُنَّا فِي الرخَاء ثَمَانِينَ سنة
وَالله لَئِن شفاني الله لأجلدنك مائَة جلدَة حيت أَمرتنِي أَن أذبح لغير الله
طَعَامك وشرابك الَّذِي أتيتني بِهِ عليّ حرَام أَن أَذُوق شَيْئا مِمَّا تَأتي
بِهِ بعد إِذْ قلت لي هَذَا فاغربي عني فَلَا أراكِ
فَطُرِدَتْ فَذَهَبت فَقَالَ الشَّيْطَان: هَذَا قد وطّن نَفسه ثَمَانِينَ سنة على
هَذَا الْبلَاء الَّذِي هُوَ فِيهِ فباء بالغلبة ورفضه
وَنظر إِلَى أَيُّوب قد طرد امْرَأَته وَلَيْسَ عِنْده طَعَام وَلَا شراب وَلَا
صديق ومرّ بِهِ رجلَانِ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال وَلَا وَالله مَا على ظهر
الأَرْض يَوْمئِذٍ أكْرم على الله من أَيُّوب فَقَالَ أحد الرجلَيْن لصَاحبه: لَو
كَانَ لله فِي هَذَا حَاجَة مَا بلغ بِهِ هَذَا
فَلم يسمع أَيُّوب شَيْئا كَانَ أَشد عَلَيْهِ من هَذِه الْكَلِمَة فَقَالَ: رب
{مسني الضّر} ثمَّ رد ذَلِك إِلَى الله فَقَالَ: {وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ}
فَقيل لَهُ: (اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد) (ص آيَة 42) فركض بِرجلِهِ فنبعت عين
مَاء فاغتسل مِنْهَا فَلم يبْق من دائه شَيْء ظَاهر إِلَّا سقط فَأذْهب الله عَنهُ
كل ألم وكل سقم وَعَاد إِلَيْهِ شبابه وجماله أحسن مَا كَانَ ثمَّ ضرب بِرجلِهِ
فنبعت عين أُخْرَى فَشرب مِنْهَا فَلم يبْق فِي جَوْفه دَاء إِلَّا خرج
فَقَامَ صَحِيحا وكسي حلَّة فَجعل يلْتَفت فَلَا يرى شَيْئا مِمَّا كَانَ لَهُ من
أهل وَمَال إِلَّا وَقد أضعفه الله لَهُ حَتَّى ذكر لنا أَن المَاء الَّذِي اغْتسل
بِهِ تطاير على صَدره جَراد من ذهب فَجعل يضمه بِيَدِهِ فَأوحى الله إِلَيْهِ: يَا
أَيُّوب ألم أغنك عَن هَذَا قَالَ: بلَى وَلكنهَا بركتك فَمن يشْبع مِنْهَا
فَخرج حَتَّى جلس على مَكَان مشرف ثمَّ إِن امْرَأَته قَالَت: أَرَأَيْت إِن كَانَ
طردي إِلَى من أكله أَدَعهُ يَمُوت جوعا أَو يضيع فتأكله السبَاع لأرجعن إِلَيْهِ
فَرَجَعت فَلَا كناسَة ترى وَلَا تِلْكَ الْحَال الَّتِي كَانَت وَإِذا الْأُمُور
قد تَغَيَّرت فَجعلت تَطوف حَيْثُ الكناسة وتبكي وَذَلِكَ بِعَين أَيُّوب وهابت
صَاحب الْحلَّة أَن تَأتيه فتسأل عَنهُ
فَأرْسل إِلَيْهَا أَيُّوب فَدَعَاهَا فَقَالَ: مَا تريدين يَا أمة الله فَبَكَتْ
وَقَالَت: أُرِيد ذَلِك الْمُبْتَلى الَّذِي كَانَ ملقى على الكناسة لَا أَدْرِي
أضاع أم مَا فعل قَالَ لَهُ [لَهَا] أَيُّوب: مَا كَانَ منكِ فَبَكَتْ وَقَالَ:
بعلي فَهَل
(5/658)
رَأَيْته
فَقَالَ: وَهل تعرفيته إِذا رَأَيْته قَالَت: وَهل يخفى على أحد رَآهُ ثمَّ جعلت
تنظر إِلَيْهِ ويعرّفها بِهِ ثمَّ قَالَت: أما إِنَّه كَانَ أشبه خلق الله بك إِذْ
كَانَ صَحِيحا
قَالَ: فَإِنِّي أَيُّوب الَّذِي أَمرتنِي أَن أذبح للشَّيْطَان وَإِنِّي أَطَعْت
الله وعصيت الشَّيْطَان ودعوت الله فرّد عَليّ مَا تَرين
ثمَّ إِن الله رَحمهَا لصبرها مَعَه على الْبلَاء فَأمره تَخْفِيفًا عَنْهَا أَن
يَأْخُذ جمَاعَة من الشّجر فيضربها ضَرْبَة وَاحِدَة تَخْفِيفًا عَنْهَا بصبرها
مَعَه
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن
عَسَاكِر عَن وهب قَالَ: لم يكن الَّذِي أصَاب أَيُّوب الجذام وَلكنه أَصَابَهُ
أَشد من ذَلِك كَانَ يخرج فِي جسده مثل ثدي الْمَرْأَة ثمَّ يتفقأ
وَأخرج أَبُو نعيم وَابْن عَسَاكِر عَن الْحسن قَالَ: إِن كَانَت الدودة لتقع من
جَسَد أَيُّوب فيأخذها إِلَى مَكَانهَا وَيَقُول: كلي من رزق الله
وَأخرج الحلكم وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب وَابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس أَن
امْرَأَة أَيُّوب قَالَت لَهُ: وَالله قد نزل بِي من الْجهد والفاقة مَا إِن بِعْت
قَرْني برغيف فأطعمتك وَإنَّك رجل مجاب الدعْوَة فَادع الله أَن يشفيك
فَقَالَ: وَيحك
كُنَّا فِي النعماء سبعين سنة فَنحْن فِي الْبلَاء سبع سِنِين
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَعبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد وَابْن
عَسَاكِر عَن طَلْحَة بن مطرف قَالَ: قَالَ إِبْلِيس: مَا أصبت من أَيُّوب شَيْئا
قطّ أفرح بِهِ إِلَّا أَنِّي كنت إِذا سَمِعت أنينه علمت أَنِّي أوجعته
وَأخرج اسحق بن بشر وَابْن عَسَاكِر عَن مُجَاهِد قَالَ: أَن أول من أَصَابَهُ
الجدري أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَأَبُو يعلى وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن
حبَان وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن أَيُّوب لبث بِهِ بلاؤه ثَمَانِي عشرَة سنة فرفضه
الْقَرِيب والبعيد إِلَّا رجلَيْنِ من إخوانه كَانَا من أخص إخوانه كَانَا يغدوان
إِلَيْهِ ويروحان فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه ذَات يَوْم: تعلم وَالله لقد أذْنب
أَيُّوب ذَنبا مَا أذنبه أحد
قَالَ: وَمَا ذَاك قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِي عشرَة سنة لم يرحمه الله فَيكْشف عَنهُ
مَا بِهِ
فَلَمَّا جَاءَ إِلَى أَيُّوب لم يصبر الرجل حَتَّى ذكر لَهُ ذَلِك فَقَالَ
أَيُّوب: لَا أَدْرِي مَا تَقول غير أَن الله يعلم أَنِّي
(5/659)
كنت
أَمر بِالرجلَيْنِ يتباعدان يذكران الله فأرجع إِلَى بَيْتِي فأولف بَينهمَا
كَرَاهَة أَن يذكر الله لَا فِي حق
وَكَانَ يخرج لِحَاجَتِهِ فَإِذا قضى حَاجته أَمْسَكت امْرَأَته بِيَدِهِ حَتَّى
يبلغ فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَأوحى الله إِلَى أَيُّوب فِي
مَكَانَهُ أَن (اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب) (ص آيَة 42) فاستبطأته
فَأَتَتْهُ فَأقبل عَلَيْهَا قد أذهب الله مَا بِهِ من الْبلَاء وَهُوَ أحسن مَا
كَانَ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَت: أَي بَارك الله فِيك هَل رَأَيْت نَبِي الله
الْمُبْتَلى وَالله على ذَاك مَا رَأَيْت رجلا أشبه بِهِ مِنْك إِذْ كَانَ صَحِيحا
قَالَ: فَإِنِّي أَنا هُوَ
قَالَ: وَكَانَ لَهُ أندران [الأندر هُوَ البيدر كَمَا فِي النِّهَايَة] اندر
للقمح وأندر للشعير فَبعث الله سحابتين فَلَمَّا كَانَت إِحْدَاهمَا على أندر
الْقَمْح أفرغت فِيهِ الذَّهَب حَتَّى فاض وأفرغت الْأُخْرَى فِي أندر الشّعير
الْوَرق حَتَّى فاض
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن
ابْن عَبَّاس قَالَ: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله:
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} قَالَ: رد الله امْرَأَته وَزَاد فِي
شبابها حَتَّى ولدت لَهُ سِتَّة وَعشْرين ذكرا وأهبط الله إِلَيْهِ ملكا فَقَالَ:
يَا أَيُّوب رَبك يُقْرِئك السَّلَام بصبرك على الْبلَاء فَاخْرُج إِلَى أندرك
[الأندر هُوَ البيدر كَمَا فِي النِّهَايَة]
فَبعث الله سَحَابَة حَمْرَاء فَهَبَطت عَلَيْهِ بجراد الذَّهَب وَالْملك قَائِم
يجمعه فَكَانَت الْجَرَاد تذْهب فيتبعها حَتَّى يردهَا فِي أندره
قَالَ الْملك: يَا أَيُّوب أَو مَا تشبع من الدَّاخِل حَتَّى تتبع الْخَارِج
فَقَالَ: إِن هَذِه بركَة من بَرَكَات رَبِّي وَلست أشْبع مِنْهَا
وَأخرج أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن
أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: بَينا أَيُّوب يغْتَسل
عُريَانا خر عَلَيْهِ جَراد من ذهب فَجعل أَيُّوب يحثي فِي ثَوْبه فناداه ربه: يَا
أَيُّوب ألم أكن أغنيتك عَمَّا ترى قَالَ: بلَى وَعزَّتك وَلَكِن لَا غنى لي عَن
بركتك
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لما عافى الله أَيُّوب أمطر عَلَيْهِ
جَرَادًا من ذهب فَجعل يَأْخُذهُ بِيَدِهِ ويجعله فِي ثَوْبه فَقيل لَهُ: يَا
أَيُّوب أما تشبع قَالَ: وَمن يشْبع من فضلك ورحمتك
(5/660)
وَأخرج
اسحق بن بشر وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس
أَن أَيُّوب عَاشَ بعد ذَلِك سبعين سنة بِأَرْض الرّوم على دين الحنيفية وعَلى
ذَلِك مَاتَ وتغيروا بعد ذَلِك وغيروا دين إِبْرَاهِيم كَمَا غَيره من كَانَ قبلهم
وَأخرج الْحَاكِم عَن وهب قَالَ: عَاشَ أَيُّوب ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة وَأوصى
عِنْد مَوته إِلَى ابْنه حرمل وَقد بعث الله بعده بشر بن أَيُّوب نَبيا وَسَماهُ
ذَا الكفل وَكَانَ مُقيما بِالشَّام عمره حَتَّى مَاتَ ابْن خمس وَسبعين سنة وَأَن
بشرا أوصى إِلَى ابْنه عَبْدَانِ ثمَّ بعث الله بعدهمْ شعيباً
وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن أبي عبد الله الجدلي قَالَ: كَانَ أَيُّوب عَلَيْهِ
السَّلَام يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من جَار عينه تراني وَقَلبه يرعاني
إِن رأى حَسَنَة أطفأها وَإِن رأى سَيِّئَة أذاعها
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن مُجَاهِد قَالَ: يُؤْتى
بِثَلَاثَة يَوْم الْقِيَامَة: بالغني وَالْمَرِيض وَالْعَبْد الْمَمْلُوك
فَيُقَال للغني: مَا مَنعك من عبادتي فَيَقُول: يَا رب أكثرت لي من المَال فطغيت
فَيُؤتى بِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي ملكه فَيَقُول: أَنْت كنت أَشد شغلاً
من هَذَا فَيَقُول: لَا بل هَذَا
قَالَ: فَإِن هَذَا لم يمنعهُ ذَلِك أَن عبدني
ثمَّ يُؤْتى بالمريض فَيَقُول: مَا مَنعك من عبادتي فَيَقُول: شغلت على جَسَدِي
فَيُؤتى بِأَيُّوب فِي ضره فَيَقُول: أَنْت كنت أشدا ضراً من هَذَا قَالَ: لَا بل
هَذَا
قَالَ: فَإِن هَذَا لم يمنعهُ ذَلِك أَن عبدني
ثمَّ يُؤْتى بالمملوك فَيَقُول: مَا مَنعك من عبادتي فَيَقُول: يَا رب جعلت عَليّ
أَرْبَابًا يملكونني
فَيُؤتى بِيُوسُف فِي عبوديته فَيَقُول: أَنْت كنت أَشد عبودية أم هَذَا قَالَ:
لَا بل هَذَا قَالَ: فَإِن هَذَا لم يمنعهُ أَن عبدني
وَالله أعلم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي
حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَذَا الكفل} قَالَ: رجل صَالح غير نَبِي تكفل
لنَبِيّ قومه أَن يَكْفِيهِ أَمر قومه ويقيمهم لَهُ وَيَقْضِي بَينهم بِالْعَدْلِ
فَفعل ذَلِك فَسُمي {وَذَا الكفل}
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد قَالَ: لما كبر اليسع قَالَ: لَو
أَنِّي اسْتخْلفت رجلا على النَّاس يعْمل عَلَيْهِم فِي حَياتِي حَتَّى أنظر كَيفَ
يعْمل فَجمع
(5/661)
النَّاس
فَقَالَ: من يتكفل لي بِثَلَاث: أستخلفه يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل وَلَا
يغْضب قَالَ: فَقَامَ رجل تزدريه الْعين فَقَالَ: أَنا
فَقَالَ: أَنْت تَصُوم النَّهَار وَتقوم اللَّيْل وَلَا تغْضب قَالَ: نعم
قَالَ: فردّه من ذَلِك الْيَوْم وَقَالَ مثلهَا فِي الْيَوْم الآخر فَسكت النَّاس
وَقَامَ ذَلِك الرجل فَقَالَ: أَنا
فاستخلفه
قَالَ: فَجعل إِبْلِيس يَقُول للشياطين: عَلَيْكُم بفلان فأعياهم ذَلِك فَقَالَ:
دَعونِي وإياه
فَأَتَاهُ فِي صُورَة شيخ كَبِير فَقير فَأَتَاهُ حِين أَخذ مضجعه للقائلة -
وَكَانَ لَا ينَام من اللَّيْل وَالنَّهَار إِلَّا تِلْكَ النومة - فدق الْبَاب
فَقَالَ: من هَذَا قَالَ: شيخ كَبِير مظلزم
قَالَ: فَقَامَ فَفتح الْبَاب فَجعل يكثر عَلَيْهِ فَقَالَ: إِن بيني وَبَين قومِي
خُصُومَة وَإِنَّهُم ظلموني وفعلوا بِي وفعلوا
وَجعل يطول عَلَيْهِ حَتَّى حَضَره وَقت الرواح وَذَهَبت القائلة وَقَالَ: إِذا
رحت فائتني آخذ لَك بحقك
فَانْطَلق وَرَاح وَكَانَ فِي مَجْلِسه فَجعل ينظر هَل يرى الشَّيْخ الْكَبِير
الْمَظْلُوم فَلم يره فَقَامَ يبغيه فَلَمَّا كَانَ الْغَد جعل يقْضِي بَين
النَّاس فينتظره فَلَا يرَاهُ فَلَمَّا رَاح إِلَى بَيته جَاءَ فدق عَلَيْهِ
الْبَاب فَقَالَ: من هَذَا قَالَ: الشَّيْخ الْكَبِير الْمَظْلُوم فَفتح لَهُ
فَقَالَ: ألم أقل لَك إِذا قعدت فائتني قَالَ: إِنَّهُم أَخبث قوم
قَالَ: إِذا رحت فائتني ففاتته القائلة فراح فَجعل ينظر وَلَا يرَاهُ وشق عَلَيْهِ
النعاس فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَة جَاءَ فَقَالَ لَهُ الرجل: مَا وَرَاءَك
قَالَ: إِنِّي قد أَتَيْته أمس فَذكرت لَهُ أَمْرِي
فَقَالَ: لَا وَالله لقد أمرنَا أَن لَا يدع أحدا يقربهُ
فَلَمَّا أعياه نظر فَرَأى كوّة فِي الْبَيْت فتسوّر مِنْهَا فَإِذا هُوَ فِي
الْبَيْت فَإِذا هُوَ يدق الْبَاب من دَاخل فَاسْتَيْقَظَ الرجل فَقَالَ: يَا
فلَان ألم آمُرك قَالَ: من قبلي وَالله لم تؤت فَانْظُر من أَيْن أتيت
فَقَامَ إِلَى الْبَاب فَإِذا هُوَ مغلق كَمَا أغلقه وَإِذا بِرَجُل مَعَه فِي
الْبَيْت فَعرفهُ فَقَالَ لَهُ: عَدو الله قَالَ: نعم أعييتني فِي كل شَيْء فَفعلت
مَا ترى لأغضبك
فَسَماهُ الله {وَذَا الكفل} لِأَنَّهُ تكفل بِأَمْر فوفى بِهِ
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ قَاض فِي بني إِسْرَائِيل
فحضره الْمَوْت فَقَالَ: من يقوم مقَامي على أَن لَا يغْضب فَقَالَ رجل: أَنا
فَسُمي {وَذَا الكفل} فَكَانَ ليله جَمِيعًا يُصَلِّي ثمَّ يصبح صَائِما فَيَقْضِي
بَين النَّاس وَله سَاعَة يقيلها فَكَانَ بذلك فَأَتَاهُ الشَّيْطَان عِنْد نومته
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: مَا لَك قَالَ: إِنْسَان مِسْكين لَهُ على رجل حق قد
غلبني عَلَيْهِ
فَقَالُوا: كَمَا أَنْت حَتَّى يَسْتَيْقِظ
(5/662)
قَالَ
وَهُوَ فَوق نَائِم: فَجعل يَصِيح عمدا حَتَّى يغضبه
فَسمع فَقَالَ: مَا لَك قَالَ: إِنْسَان مِسْكين لي على رجل حق
قَالَ: اذْهَبْ فَقل لَهُ يعطيك
قَالَ: قد أَبى
قَالَ: اذْهَبْ أَنْت إِلَيْهِ
فَذهب ثمَّ جَاءَ من الْغَد فَقَالَ: مَا لَك قَالَ: ذهبت إِلَيْهِ فَلم يرفع
بكلامك رَأْسا
قَالَ: اذْهَبْ أَنْت إِلَيْهِ
فَذهب ثمَّ جَاءَ من الْغَد حِين قَالَ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: أخرج فعل الله بك
تَجِيء كل يَوْم حِين ينَام لَا تَدعه ينَام فَجعل يَصِيح: من أجل أَنِّي إِنْسَان
مِسْكين لَو كنت غَنِيا
فَسمع أَيْضا قَالَ: مَا لَك قَالَ: ذهبت إِلَيْهِ فضربني
قَالَ: امش حَتَّى أجيء مَعَك فَهُوَ مُمْسك بِيَدِهِ فَلَمَّا رَآهُ ذهب مَعَه
نثر يَده مِنْهُ فَذهب ففر
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي ذمّ الْغَضَب وَابْن جرير وَابْن
الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ: قَالَ نَبِي من
الْأَنْبِيَاء لمن مَعَه: أَيّكُم يكفل لي أَن يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل
وَلَا يغْضب وَيكون معي فِي درجتي وَيكون بعدِي فِي مقَامي قَالَ شَاب من الْقَوْم:
أَنا
ثمَّ أعَاد فَقَالَ الشَّاب: أَنا ثمَّ أعَاد فَقَالَ الشَّاب أَنا ثمَّ أعَاد
فَقَالَ الشَّاب أَنا فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بعده فِي مقَامه فَأَتَاهُ إِبْلِيس
بَعْدَمَا قَالَ ليغضبه يستعديه فَقَالَ لرجل: اذْهَبْ مَعَه
فجَاء فَأخْبرهُ أَنه لم ير شَيْئا ثمَّ أَتَاهُ فَأرْسل مَعَه آخر فَجَاءَهُ
فَأخْبرهُ أَنه لم ير شَيْئا ثمَّ أَتَاهُ فَقَامَ مَعَه فَأخذ بِيَدِهِ فانفلت
مِنْهُ فَسُمي {وَذَا الكفل} لِأَنَّهُ كفل أَن لَا يغْضب
وَأخرج ابْن سعيد النقاش فِي كتاب الْقُضَاة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ نَبِي
جمع أمته فَقَالَ: أَيّكُم يتكفل لي بِالْقضَاءِ بَين أمتِي على أَن لَا يغْضب
فَقَامَ فَتى فَقَالَ: أَنا يَا رَسُول الله ثمَّ عَاد فَقَالَ الْفَتى أَنا ثمَّ
قَالَ لَهُم الثَّالِثَة أَيّكُم يتكفل لي بِالْقضَاءِ بَين النَّاس على أَن لَا
يغْضب فَقَالَ الْفَتى أَنا فاستخلفه فَأَتَاهُ الشَّيْطَان بعد حِين وَكَانَ
يقْضِي حَتَّى إِذا انتصف النَّهَار ثمَّ رَجَعَ ثمَّ رَاح النَّاس فَأَتَاهُ
الشَّيْطَان نصف النَّهَار وَهُوَ نَائِم فناداه حَتَّى أيقظه فاستعداه فَقَالَ:
إِن كتابك رده وَلم يرفع بِهِ رَأْسا ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا فَأخذ الرجل بِيَدِهِ
ثمَّ مَشى مَعَه سَاعَة فَلَمَّا رأى الشَّيْطَان ذَلِك نزع يَده من يَده ثمَّ فر
فَسُمي {وَذَا الكفل}
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن حجيرة الْأَكْبَر أَنه بلغه أَنه كَانَ ملك من
مُلُوك بني إِسْرَائِيل عتى فِي ملكه فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة أَتَاهُ رؤوسهم
فَقَالُوا: اسْتخْلف علينا ملكا نفزع إِلَيْهِ
فَجمع إِلَيْهِ رؤوسهم فَقَالَ: من رجل تكفل لي بِثَلَاث وأوليه
(5/663)
ملكي
فَلم يتَكَلَّم إِلَّا فَتى من الْقَوْم قَالَ أَنا
قَالَ: اجْلِسْ
ثمَّ قَالَهَا ثَانِيَة فَلم يتَكَلَّم أحد إِلَّا الْفَتى قَالَ: تكفل لي
بِثَلَاث وأوليك ملكي قَالَ: نعم
قَالَ: تقوم اللَّيْل فَلَا ترقد وتصوم النَّهَار فَلَا تفطر وتحكم فَلَا تغْضب
قَالَ: نعم
قَالَ: قد وليتك ملكي فَلَمَّا أَن كَانَ مَكَانَهُ قَامَ اللَّيْل وَصَامَ
النَّهَار وَحكم فَلَا يعجل وَلَا يغْضب يَغْدُو فيجلس لَهُم فتمثل لَهُ
الشَّيْطَان فِي صُورَة رجل فَأَتَاهُ وَقد تحين مقِيله فَقَالَ: أعدني على رجل
ظَلَمَنِي
فَأرْسل مَعَه رَسُولا فَجعل يطوف بِهِ وَذُو الكفل ينظره حَتَّى فَاتَتْهُ رقدته
ثمَّ انْسَلَّ من وسط النَّاس فَأَتَاهُ رَسُول فَأخْبرهُ فراح للنَّاس فَجَلَسَ
لَهُم فَقَالَ الشَّيْطَان: لَعَلَّه يرقد اللَّيْل وَلم يصم النَّهَار فَلَمَّا
أَمْسَى صلى صلَاته الَّتِي كَانَ يُصَلِّي ثمَّ أَتَاهُ الْغَد وَقد تحين مقِيله
فَقَالَ: أعدني على صَاحِبي
فَأرْسل مَعَه وانتظره وتبطأ حَتَّى فَاتَ ذُو الكفل رقدته ثمَّ أَتَاهُ الرَّسُول
فَأخْبرهُ فراح وَلم ينم فَقَالَ الشَّيْطَان: اللَّيْلَة يرقد
فأمسى يُصَلِّي صلَاته كَمَا كَانَ يُصَلِّي
ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قد صنعت بِهِ مَا صنعت لَعَلَّه يغْضب
قَالَ: أعدني على صَاحِبي
فَقَالَ: ألم أرسل مَعَك رَسُولا قَالَ: بلَى
وَلَكِن لم أَجِدهُ
فَقَالَ لَهُ ذُو الكفل: انْطلق فَأَنا ذَاهِب مَعَك
فَانْطَلق فَطَافَ بِهِ ثمَّ قَالَ لَهُ: أَتَدْرِي من أَنا قَالَ: لَا
قَالَ: أَنا الشَّيْطَان كنت تكفلت لصاحبك بِأَمْر فَأَرَدْت أَن تدع بعضه وَإِن
الله قد عصمك
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي
حَاتِم عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: مَا كَانَ ذُو الكفل
بِنَبِي وَلَكِن كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجل صَالح يُصَلِّي كل يَوْم مائَة
صَلَاة فَتوفي فتكل لَهُ ذُو الكفل من بعده
فَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم مائَة صَلَاة فَسُمي ذَا الكفل
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَابْن الْمُنْذر وَابْن
حبَان وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب
الإِيمان من طَرِيق سعيد مولى طَلْحَة عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كَانَ ذُو الكفل من بني إِسْرَائِيل لَا يتورع من ذَنْب
عمله فَأَتَتْهُ امْرَأَة فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارا على أَن يَطَأهَا
فَلَمَّا قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من امْرَأَته أرعدت وبكت فَقَالَ: مَا يبكيك أكرهتك قَالَت: لَا وَلكنه عمل مَا عملته قطّ وَمَا حَملَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجة
فَقَالَ: تفعلين أَنْت هَذَا وَمَا فعلته اذهبي فَهِيَ لَك
وَقَالَ: وَالله لَا أعصي الله بعْدهَا أبدا فَمَاتَ من ليلته فَأصْبح مَكْتُوبًا على بَابه: إِن الله قد غفر لذِي الكفل
*** وَأخرجه ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق نَافِع عَن ابْن عَمْرو: قَالَ فِيهِ ذُو الكفل/الْآيَة 87 - 88 . وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
أخرج
ابْن جرير وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن ابْن عَبَّاس فِي
قَوْله: {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضباً} يَقُول: غضب على قومه {فَظن أَن لن نقدر
عَلَيْهِ} يَقُول: أَن لن نقضي عَلَيْهِ عُقُوبَة وَلَا بلَاء فِيمَا صنع بقَوْمه
فِي غَضَبه عَلَيْهِم وفراره
قَالَ: وعقوبته أَخذ النُّون إِيَّاه
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن
الضَّحَّاك فِي قَوْله: {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضباً} قَالَ: مغاضباً
لِقَوْمِهِ
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عَمْرو بن قيس قَالَ: كَانَت تكون أَنْبيَاء جَمِيعًا
يكون عَلَيْهِم وَاحِد فَكَانَ يُوحى إِلَى ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أرسل فلَان إِلَى بني فلَان فَقَالَ الله: {إِذْ ذهب مغاضباً} قَالَ:
مغاضباً لذَلِك النَّبِي
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي
الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {فَظن
أَن لن نقدر عَلَيْهِ} قَالَ: ظن أَن لن يَأْخُذهُ الْعَذَاب الَّذِي أَصَابَهُ
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن الْحسن رَضِي الله
عَنهُ فِي قَوْله: {إِذْ ذهب مغاضباً} قَالَ: انْطلق آبقا {فَظن أَن لن نقدر
عَلَيْهِ} فَكَانَ لَهُ سلف من عمل صَالح فَلم يَدعه الله فبه أدْركهُ
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم
وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي
قَوْله: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} قَالَ: ظن أَن لن نعاقبه بذلك
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عَطِيَّة فِي قَوْله: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} قَالَ:
أَن لن نقضي عَلَيْهِ
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {فَظن أَن لن نقدر
عَلَيْهِ} يَقُول:
ظن أَن الله لن يقْضِي عَلَيْهِ عُقُوبَة وَلَا بلَاء فِي غَضَبه الَّذِي غضب على
قومه فِرَاقه إيَّاهُم
وَأخرج عبد بن حميد عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ: لما الْتَقم الْحُوت يُونُس
نبذ بِهِ إِلَى قَرَار الأَرْض فَسمع تَسْبِيح الأَرْض فَذَاك الَّذِي حاجه فناداه
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ
فِي قَوْله: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} قَالَ: ظن أَن لن نعاقبه {فَنَادَى فِي
الظُّلُمَات} قَالَ: ظلمَة اللَّيْل وظلمة الْبَحْر وظلمة بطن الْحُوت {أَن لَا
إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} قَالَ الْمَلَائِكَة:
صَوت مَعْرُوف فِي أَرض غَرِيبَة
وَأخرج ابْن جرير عَن قَتَادَة والكلبي {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} قَالَا: ظن
أَن لن نقضي عَلَيْهِ الْعقُوبَة
وَأخرج ابْن جرير من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} قَالَ: ظلمَة اللَّيْل وظلمة الْبَحْر وظلمة بطن
الْحُوت
وَأخرج ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن كَعْب وَعَمْرو بن مَيْمُون وَقَتَادَة مثله
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن سعيد بن جُبَير مثله
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب الْفرج بعد الشدَّة
وَابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} قَالَ: ظلمَة اللَّيْل وظلمة بطن الْحُوت وظلمة
الْبَحْر
وَأخرج ابْن جرير عَن سَالم بن أبي الْجَعْد قَالَ: أوحى الله تَعَالَى إِلَى
الْحُوت أَن: لَا تضر لَهُ لَحْمًا وَلَا عظما ثمَّ ابتلع الْحُوت حوت آخر قَالَ:
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} قَالَ: ظلمَة الْحُوت ثمَّ حوت ثمَّ ظلمَة الْبَحْر
وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن الضَّحَّاك قَالَ: كل تَسْبِيح فِي الْقُرْآن صَلَاة
إِلَّا قَوْله: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين}
وَأخرج الزبير بن بكار فِي الموفقيات من طَرِيق الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن
ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن مُعَاوِيَة قَالَ لَهُ يَوْمًا: إِنِّي قد
ضربتني أمواج الْقُرْآن البارحة فِي آيَتَيْنِ لم أعرف تأويلهما فَفَزِعت إِلَيْك
قَالَ: وَمَا هما قَالَ: قَول الله: {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضبا فَظن أَن لن
نقدر عَلَيْهِ} وَأَنه يفوتهُ إِن أَرَادَهُ وَقَول الله: (حَتَّى
إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا) (يُوسُف آيَة 110) كَيفَ هَذَا يظنون
أَنه قد كذبهمْ مَا وعدهم فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أما يُونُس فَظن أَن لن تبلغ
خطيئته أَن يقدر الله عَلَيْهِ فِيهَا الْعقَاب وَلم يشك أَن الله إِن أَرَادَهُ
قدر عَلَيْهِ
وَأما الْآيَة الْأُخْرَى فَإِن الرُّسُل استيأسوا من إِيمَان قَومهمْ وظنوا أَن
من عصاهم لرضا فِي الْعَلَانِيَة قد كذبهمْ فِي السِّرّ وَذَلِكَ لطول الْبلَاء
وَلم تستيئس الرُّسُل من نصر الله وَلم يَظُنُّوا أَنهم كذبهمْ مَا وعدهم
فَقَالَ مُعَاوِيَة: فرجت عني با ابْن عَبَّاس فرج الله عَنْك
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم ن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لما دَعَا
يُونُس قومه أوحى الله إِلَيْهِ أَن الْعَذَاب يصبحهم فَقَالَ لَهُم فَقَالُوا:
مَا كذب يُونُس وليصبحنا الْعَذَاب فتعالوا حَتَّى نخرج سخال كل شَيْء فنجعلها من
أَوْلَادنَا لَعَلَّ الله أَن يرحمهم
فأخرجوا النِّسَاء مَعَ الْولدَان وأخرجوا الْإِبِل مَعَ فصلانها وأخرجوا الْبَقر
مَعَ عجاجيلها وأخرجوا الْغنم مَعَ سخالها فجعلوه أمامهم وَأَقْبل الْعَذَاب
فَلَمَّا رَأَوْهُ جأروا إِلَى الله ودعوا وَبكى النِّسَاء والولدان ورغت الإِبل
وفصلانها وخارت الْبَقر وعجاجيلها وثغت الْغنم وسخالها فَرَحِمهمْ الله فصرف ذَلِك
الْعَذَاب عَنْهُم وَغَضب يُونُس فَقَالَ: كذبت فَهُوَ قَوْله: {إِذْ ذهب مغاضباً}
فَمضى إِلَى الْبَحْر وَقوم رست سفينتهم فَقَالَ: احْمِلُونِي مَعكُمْ فَحَمَلُوهُ
فَأخْرج الْجعل فَأَبَوا أَن يقبلوه مِنْهُ فَقَالَ: إِذا أخرج عَنْكُم
فقبلوه فَلَمَّا لجت السَّفِينَة فِي الْبَحْر أَخذهم الْبَحْر والأمواج فَقَالَ
لَهُم يُونُس: اطرحوني تنجوا
قَالُوا: بل نمسكك ننجو
قَالَ: فساهموني - يَعْنِي قارعوني - فساهموه ثَلَاثًا فَوَقَعت عَلَيْهِ الْقرعَة
فَأوحى إِلَى سَمَكَة يُقَال لَهَا النَّجْم من الْبَحْر الْأَخْضَر أَن شقي
الْبحار حَتَّى تأخذي يُونُس فَلَيْسَ يُونُس لَك رزقا وَلَكِن بَطْنك لَهُ سجن
فَلَا تخدشي لَهُ جلدا وَلَا تكسري لَهُ عظما فَجَاءَت حَتَّى اسْتقْبلت
السَّفِينَة فقارعوه الثَّالِثَة فَوَقَعت عَلَيْهِ فاقتحم المَاء فالتقمته
السَّمَكَة فشقت بِهِ الْبحار حَتَّى انْتَهَت بِهِ إِلَى الْبَحْر الْأَخْضَر
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ: لما الْتَقم الْحُوت يُونُس ذهب بِهِ حَتَّى أوقفهُ بِالْأَرْضِ
السَّابِعَة فَسمع تَسْبِيح الأَرْض فهيجه
على التَّسْبِيح فَقَالَ: {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من
الظَّالِمين} فَأَخْرَجته حَتَّى ألقته على الأَرْض بِلَا شعر وَلَا ظفر مثل
الصَّبِي المنفوس فأنبتت عَلَيْهِ شَجَرَة تظله وَيَأْكُل من تحتهَا من حشرات
الأَرْض فَبينا هُوَ نَائِم تحتهَا إِذْ تساقط وَرقهَا قد يَبِسَتْ
فَشَكا ذَلِك إِلَى ربه فَقَالَ: تحزن على شَجَرَة يَبِسَتْ وَلَا تحزن على مائَة
ألف أَو يزِيدُونَ يُعَذبُونَ وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي
الْفرج وَابْن مرْدَوَيْه عَن أنس رَفعه: أَن يُونُس حِين بدا لَهُ أَن يَدْعُو
الله بالكلمات حِين ناداه فِي بطن الْحُوت قَالَ: اللَّهُمَّ {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت
سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} فَأَقْبَلت الدعْوَة تحف بالعرش فَقَالَت
الْمَلَائِكَة: هَذَا صَوت ضَعِيف مَعْرُوف فِي بِلَاد غَرِيبَة فَقَالَ: أما
تعرفُون ذَلِك قَالَ: يَا رب وَمَا هُوَ قَالَ: ذَاك عَبدِي يُونُس
قَالُوا: عَبدك يُونُس الَّذِي لم يزل يرفع لَهُ عمل متقبل وَدعوهُ مجابة قَالَ:
نعم
قَالُوا: يَا رب أَفلا ترحم مَا كَانَ يصنع فِي الرخَاء فتنجيه من الْبلَاء قَالَ:
بلَى
فَأمر الْحُوت فطرحه بالعراء فأنبت الله عَلَيْهِ اليقطينة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَعبد بن حميد وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن
عَسَاكِر عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: لَيْسَ لعبد أَن يَقُول أَنا خير
من يُونُس بن مَتى سبح الله فِي الظُّلُمَات
وَأخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ والحكيم فِي نَوَادِر الْأُصُول
وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه
وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: دَعْوَة ذِي النُّون إِذْ هُوَ فِي بطن الْحُوت
{لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} لم يدع بهَا مُسلم
ربه فِي شَيْء قطّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ
وَأخرج ابْن جرير عَن سعد رَضِي الله عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: اسْم الله الَّذِي دعِي بِهِ أجَاب وَإِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى
دَعْوَة يُونُس بن مَتى -- قلت: يَا رَسُول الله هِيَ ليونس خَاصَّة أم لجَماعَة الْمُسلمين قَالَ: هِيَ
ليونس خَاصَّة وَلِلْمُؤْمنِينَ إِذا دعوا بهَا ألم تسمع قَول الله: {وَكَذَلِكَ
ننجي الْمُؤمنِينَ} فَهُوَ شَرط من الله لمن دَعَاهُ
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه والدبلمي عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
هَذِه الْآيَة مفزع للأنبياء {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من
الظَّالِمين} نَادَى بهَا يُونُس فِي ظلمَة بطن الْحُوت
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ: اسْم الله الْأَعْظَم
الَّذِي إِذا دعِي بِهِ أجَاب وَإِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت
سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين}
وَأخرج الْحَاكِم عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هَل أدلكم على اسْم الله الْأَعْظَم دُعَاء يُونُس {لَا
إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} فأيما مُسلم دَعَا ربه
بِهِ فِي مَرضه أَرْبَعِينَ مرّة فَمَاتَ فِي مَرضه ذَلِك أعطي أجر شَهِيد
وَإِن برأَ برأَ مغفوراً لَهُ
وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قَالَ أَنا خير من يُونُس بن مَتى فقد كذب
وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على ثنية فَقَالَ: مَا هَذِه قَالُوا: ثنية كَذَا
وَكَذَا
قَالَ: كَأَنِّي أنظر إِلَى يُونُس على نَاقَة خطامها لِيف وَعَلِيهِ جُبَّة من
صوف وَهُوَ يَقُول: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس
بن مَتى - نِسْبَة إِلَى أَبِيه - أصَاب ذَنبا ثمَّ اجتباه ربه
وَأخرج عبد بن حميد وَالْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن
مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا
يَقُولَن أحدكُم أَنا خير من يُونُس بن مَتى
وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَقُول
أَنا خير من يُونُس بن مَتى
وَالله أعلم /الْآيَة 89 - 90 .
** وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
وَأخرج
الْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وأصلحنا
لَهُ زوجه} قَالَ: كَانَ فِي لِسَان امْرَأَة زَكَرِيَّا طول فأصلحه الله
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم والخرائطي فِي
مساوئ الْأَخْلَاق وَابْن عَسَاكِر عَن عَطاء بن أبي رَبَاح فِي قَوْله: {وأصلحنا
لَهُ زوجه} قَالَ: كَانَ فِي خلقهَا سوء وَفِي لسانها طول - وَهُوَ الْبذاء -
فَأصْلح الله ذَلِك مِنْهَا
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن عَسَاكِر عَن مُحَمَّد بن كَعْب
الْقرظِيّ فِي قَوْله: {وأصلحنا لَهُ زوجه} قَالَ: كَانَ فِي خلقهَا شَيْء
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن عَسَاكِر عَن سعيد بن
جُبَير فِي قَوْله: {وأصلحنا لَهُ زوجه} قَالَ: كَانَت لَا تَلد
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وأصلحنا
لَهُ زوجه} قَالَ: كَانَت لَا تَلد
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وأصلحنا
لَهُ زوجه} قَالَ: وهبنا لَهُ ولدا مِنْهَا
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله:
{وأصلحنا لَهُ زوجه} قَالَ: كَانَت عاقراً فَجَعلهَا الله ولوداً ووهب لَهُ
مِنْهَا يحيى
وَفِي قَوْله: {وَكَانُوا لنا خاشعين} قَالَ: أذلاء
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن جريج فِي قَوْله:
{ويدعوننا رغباً ورهباً} قَالَ: {رغباً} طَمَعا وخوفاً وَلَيْسَ يَنْبَغِي
لأَحَدهمَا أَن يُفَارق الآخر
وَأخرج ابْن الْمُبَارك عَن الْحسن فِي قَوْله: {ويدعوننا رغباً ورهباً وَكَانُوا
لنا خاشعين} قَالَ: الْخَوْف الدَّائِم فِي الْقلب
وَأخرج عبد بن حميد عَن الْحسن فِي قَوْله: {ويدعوننا رغباً ورهباً} قَالَ: مَا
دَامَ خوفهم رَبهم فَلم يُفَارق خَوفه قُلُوبهم إِن نزلت بهم رَغْبَة خَافُوا أَن
يكون ذَلِك استدراجاً من الله لَهُم وَإِن نزلت بهم رهبة خَافُوا أَن يكون الله عز
وَجل قد أَمر بأخذهم لبَعض مَا سلف مِنْهُم
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن قَول الله
عز وَجل: {ويدعوننا رغبا ورهبا} قَالَ: {ورهبا} هَكَذَا وَبسط كفيه
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو نعيم فِي
الْحِلْية وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن عبد الله بن
حَكِيم قَالَ: خَطَبنَا أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَحَمدَ الله وَأثْنى
عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: أما بعد فَإِنِّي أوصيكم بتقوى الله وَأَن تثنوا عَلَيْهِ
بِمَا هُوَ لَهُ أهل وَأَن تخلطوا الرَّغْبَة بالرهبة فَإِن الله أثنى على
زَكَرِيَّا وَأهل بَيته فَقَالَ: {إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات
ويدعوننا رغباً ورهباً وَكَانُوا لنا خاشعين}
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن
مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَكَانُوا لنا خاشعين} قَالَ: متواضعين
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن الضَّحَّاك {وَكَانُوا لنا خاشعين} قَالَ: الذلة لله/الْآيَة 91 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق