تفسير سورة الشعراء من 61 الي83.
فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا
ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ
مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ
هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
=====
الشعراء - تفسير ابن
كثير
فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قَالَ كَلَّا إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
{ فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا
ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) } .
ذكر غير واحد من
المفسرين: أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير (1) ، وهو عبارة عن مملكة الديار
المصرية في زمانه، أولي الحل والعقد والدول، من الأمراء والوزراء والكبراء
والرؤساء والجنود، فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات، من أنه خرج في ألف ألف
وستمائة ألف فارس، منها مائة ألف على خيل دُهْم، وقال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف
حصان أدهم ، ففي ذلك نظر. والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل، والله، سبحانه
وتعالى، أعلم. والذي أخبر به هو النافع، ولم يعين عدتهم؛ إذ لا فائدة تحته، إلا
أنهم خرجوا بأجمعهم.
{ فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ } أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.
{ فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ } أي: رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } ، وذلك أنه انتهى بهم السير
إلى سيف البحر، وهو بحر القلزم، فصار أمامهم البحر، وفرعون قد أدركهم بجنوده،
فلهذا قالوا: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
} أي: لا يصل إليكم
__________
(1) في أ "كثير".
(6/143)
________________________________________
شيء مما تحذرون، فإن
الله، سبحانه، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو لا يخلف الميعاد.
وكان هارون، عليه
السلام، في المقدمة، ومعه يوشع بن نون، [ومؤمن آل فرعون وموسى، عليه السلام، في
الساقة، وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع
بن نون] (1) ، أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى، عليه السلام: يا نبي الله، هاهنا أمرك
الله أن تسير؟ فيقول: نعم، واقترب فرعون وجنوده، ولم يبق إلا القليل، فعند ذلك أمر
الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، وقال: انفلق بإذن الله.
وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد، حدثنا (2) محمد بن حمزة [بن محمد] (3) بن يوسف بن عبد الله بن سلام: أن موسى، عليه السلام، لما
انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء، والكائن قبل كل شيء،
اجعل لنا مخرجًا. فأوحى الله إليه: { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
} .
وقال قتادة: أوحى
الله تلك الليلة إلى البحر: أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع، فبات البحر تلك
الليلة، وله اضطراب (4) ، ولا يدري من أيّ جانب يضربه موسى، فلما انتهى إليه موسى
قال له فتاه يوشع بن نون: يا نبي الله، أين أمرك ربك؟ قال: أمرني أن أضرب البحر.
قال: فاضربه.
وقال محمد بن إسحاق:
أوحى الله -فيما ذكر لي -إلى البحر: أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات
البحر يضرب بعضه بعضًا، فرقا من الله تعالى، وانتظارًا لما أمره الله، وأوحى الله
إلى موسى: { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } ، فضربه بها وفيها، (5) سلطان
الله الذي أعطاه، فانفلق.
وذكر غير واحد أنه
كناه فقال: انفلق عليّ أبا خالد بحول الله (6) .
قال الله تعالى: {
فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي: كالجبل الكبير. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومحمد بن كعب،
والضحاك، وقتادة، وغيرهم.
وقال عطاء الخراساني:
هو الفَجّ بين الجبلين.
وقال ابن عباس: صار
البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط طريق -وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى
بعض، وقام الماء على حيله كالحيطان، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار
يَبَسا (7) كوجه الأرض، قال الله تعالى: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا
وَلا تَخْشَى } [طه:77] .
وقال في هذه القصة: {
وأزلفنا } أي: هنالك (8) { الآخرين } .
قال ابن عباس، وعطاء
الخراساني، وقتادة، والسدي: { وأزلفنا } أي: قربنا فرعون وجنوده
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف، أ: "عن".
(3) زيادة من الجرح
والتعديل (3/2/236) والدر المنثور (5/86).
(4) في أ: "اتكل".
(5) في أ: "ففيها".
(6) في ف، أ: "بإذن
الله".
(7) في أ: "يابسا".
(8) في ف: "هناك".
(6/144)
________________________________________
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ
أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
(74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا
رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
من البحر وأدنيناهم
إليه.
{ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى
وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ } أي: أنجينا موسى وبني
إسرائيل ومن معهم على دينهم فلم يهلك (1) منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، فلم يبق منهم رجل (2) إلا هلك.
وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا شبابة، حدثنا يونس بن أبي
إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله -هو ابن مسعود -أن موسى، عليه
السلام، حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك، فأمر بشاة فذبحت، ثم قال: لا والله
لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط. فانطلق موسى حتى انتهى إلى
البحر، فقال له: انفرق. فقال البحر: لقد استكبرت يا موسى، وهل انفرقت (3) لأحد من ولد
(4) آدم
فأنفرق (5) لك؟ قال: ومع موسى رجل على حصان له، فقال له ذلك الرجل: أين أمرتَ يا
نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه [يعني: البحر، فأقحم فرسه، فسبح به فخرج،
فقال: أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه] (6) . قال: والله ما
كَذَبت ولا كُذبت. ثم اقتحم الثانية فسبح، ثم خرج فقال: أين أمرت يا نبي الله؟
قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه؟ قال: والله ما كَذَبت (7) ولا كُذبت. قال: فأوحى
الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه موسى بعصاه، فانفلق، فكان فيه اثنا عشر
طريقًا، لكل سبط طريق يتراءون، فلما خرج أصحاب موسى وتَتَامّ أصحابُ فرعون، التقى
البحر عليهم فأغرقهم.
وفي رواية إسرائيل،
عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: فلما خَرَج آخر أصحاب موسى،
وتكامل أصحاب فرعون، اضطم عليهم البحر، فما رُئِيَ سواد أكثر من يومئذ، وغرق فرعون
لعنه الله.
ثم قال تعالى: {
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي: في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد
لعباد الله المؤمنين؛ لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } تقدم تفسيره.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ
أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا
آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
} .
هذا إخبار من الله
تعالى (8) عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، أمر الله رسوله محمدا،
صلوات الله وسلامه عليه، أن يتلوه على أمته، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل،
وعبادة الله وحده لا شريك له، والتبرؤ من الشرك وأهله؛ فإن الله تعالى آتى إبراهيم
رشده من قبل، أي: من صغره إلى كبره، فإنه من وقت نَشَأ وشَب، أنكر على قومه عبادة
الأصنام مع الله، عز وجل، فقال: { لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } ؟
__________
(1) في أ: "نهلك".
(2) في ف: "رجل منهم".
(3) في ف، أ: "فرقت".
(4) في أ: "بني".
(5) في أ: "فأفرق".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "ما كذب".
(8) في أ: "عز وجل".
(6/145)
________________________________________
الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي
أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
أي: ما هذه التماثيل
التي أنتم لها عاكفون؟
{ قَالُوا نَعْبُدُ
أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أي: مقيمين على عبادتها ودعائها.
{ قَالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا
بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } يعني: اعترفوا بأن (1) أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك، وإنما رأوا آباءهم كذلك
يفعلون، فهم على آثارهم يُهرعون. فعند ذلك قال لهم إبراهيم: { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ
مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي: إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير،
فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها. وهذا كما قال
تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام: { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا
تُنْظِرُونِ } [يونس:71] وقال هود، عليه السلام: { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا
ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا
مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } [هود:54-56] وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال: { وَكَيْفَ أَخَافُ
مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [الأنعام:81] وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة:4] وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
} [الزخرف:26-28] يعني: لا إله إلا الله.
{ الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي
أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) }
يعني: لا أعبد إلا
الذي يفعل هذه الأشياء، { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } أي: هو الخالق
الذي قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، فكل يجري على [ما] (2) قدّر، وهو الذي يهدي من
يشاء ويُضل من يشاء.
{ وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي: هو خالقي ورازقي، بما سخر ويَسَّر من الأسباب
السماوية والأرضية، فساق المُزْنَ، وأنزل الماء، وأحيا به الأرض، وأخرج به من كل
الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبًا زلالا لـ { نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } (3)
[الفرقان:49]
.
وقوله: { وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر الله وقضائه
وخلَقْه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا، كما قال تعالى آمرًا للمصلي أن يقول: {
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة:6 ، 7] فأسند الإنعام
إلى الله، سبحانه وتعالى، والغضب حُذف فاعله أدبًا، وأسند الضلال إلى العبيد، كما
قالت الجن: { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [الجن:10]؛ ولهذا (4) قال
__________
(1) في ف، أ: "أن".
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "ليسقيه
مما خلق" وهو خطأ.
(4) في ف، أ: "وهكذا".
(6/146)
________________________________________
رَبِّ هَبْ لِي
حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
إبراهيم:
{ وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ } أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما
يقدر من الأسباب الموصلة إليه.
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي
ثُمَّ يُحْيِينِ } أي: هو الذي يحيي ويميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو
الذي يبدئ ويعيد.
{ وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } أي: هو الذي لا يقدر على غَفْر الذنوب في الدنيا والآخرة، إلا هو، ومن
يغفر الذنوب إلا الله، وهو الفعال لما يشاء.
{ رَبِّ هَبْ لِي
حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) }
===
الشعراء - تفسير
القرطبي
الآية: [61]
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
الآية: [62] {قَالَ
كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}
الآية:
[63] {فَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
الآية: [64]
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}
الآية: [65]
{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}
الآية: [66 ] { ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}
الآية: [67] {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [68] {وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} لما
كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة
رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني
إسرائيل ليلا وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى. ومعنى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي
يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم. وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم؛
فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه
نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول: هكذا أمرت.
فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه
العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الألوان. وروي أن
بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا. والله أعلم بصحته. وإنما اللازم من
الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من
(13/100)
________________________________________
بني إسرائيل وأن
فرعون تبعه بأضعاف ذلك. قال ابن عباس: كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم
أمير خيل. والشرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشراذم. قال الجوهري: الشرذمة
الطائفة من الناس والقطعة من الشيء. وثوب شراذم أي قطع. وأنشد الثعلبي قول الراجز:
جاء الشتاء وثيابي
أخلاق ... شراذم يضحك منها النواق
النواق من الرجال
الذي يروض الأمور ويصلحها؛ قاله في الصحاح. واللام في قوله {لَشِرْذِمَةٌ} لام توكيد وكثيرا ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين
لا يجيزون إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز قوله تعالى: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف؛ قاله النحاس. {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا
وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم. وماتت أبكارهم تلك الليلة. وقد مضى هذا
في {الأعراف} و{طه} مستوفى. يقال: غاظني كذا وأغاظني. والغيظ الغضب ومنه التغيظ
والاغتياظ. أي غاظونا بخروجهم من غير إذن. {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ} أي
مجتمع مستعد أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وقرئ: {حَاذِرُونَ} ومعناه معنى {حَذِرُونَ} أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرئ
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} و {حَذِرُونَ} و {حَذُرون} بضم الذال حكاه
الأخفش؛ ومعنى: {حَاذِرُونَ} متأهبون، ومعنى: {حَذِرُونَ} خائفون. قال النحاس:
{حَذِرُونَ} قراءة
المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة: {حَاذِرُونَ} وهي معروفة عن عبدالله بن مسعود وابن عباس؛ و {حَادِرُونَ} بالدال غير
المعجمة قراءة أبي عباد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن
سميط بن عجلان. قال النحاس: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى {حَذُرون} {حَاذِرُونَ} واحد. وهو قول سيبويه وأجاز: هو حذر زيدا؛ كما يقال:
حاذر زيدا، وأنشد:
حذر أمورا لا تضير
وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار
(13/101)
________________________________________
وزعم أبو عمر الجرمي
أنه يجوز هو حذر زيدا على حذف من. فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر؛ منهم
الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد؛ فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ
متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعد، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدمين.
قال عبدالله بن مسعود في قول الله عز وجل: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قال:
مؤدون في السلاح والكراع مقوون، فهذا ذاك بعينه. وقوله: مؤدون معهم أداة. وقد قيل:
إن المعنى: معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال؛ فأما {حَادِرُونَ}
بالدال المهملة فمشتق
من قولهم عين حدرة أي ممتلئة؛ أي نحن ممتلئون غيظا عليهم؛ ومنه قول الشاعر:
وعين لها حدرة بدرة
... شقت مآقيهما من أخر
وحكى أهل اللغة أنه
يقال: رجل حادر إذا كان ممتلئ اللحم؛ فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح.
المهدوي: الحادر القوي الشديد.
قوله تعالى:
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني من أرض مصر. وعن عبدالله بن
عمرو قال: كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعا من أسوان إلى رشيد، وبين
الجنات زروع. والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج
سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء،
والزروع ما بين الخلجان كلها. وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما دبروا
وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها؛ ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعا نيل
السلطان، ويخلع على ابن أبي الرداد؛ وهذه الحال مستمرة إلى الآن. وإنما قيل نيل
السلطان لأنه حينئذ يجب الخراج على الناس. وكانت أرض مصر جميعها تروى
(13/102)
________________________________________
من إصبع واحدة من
سبعة عشر ذراعا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعا ونودي عليه إصبع واحد من
ثمانية عشر ذراعا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار. فإذا خرج. عن ذلك ونودي عليه
إصبعا واحدا من تسعة عشر ذراعا نقص خراجها ألف ألف دينار. وسبب هذا ما كان ينصرف
في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها. فأما الآن فإن أكثرها لا يروى
حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعا بمقياس مصر. وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها
ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى.
قلت: أما أرض مصر فلا
تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعا وأصابع؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة
جسورها، وهو من عجائب الدنيا؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى
يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب
والقياسات. وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر
الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار؛ فإذا أراد الله أن يجري
نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له عيونا، فإذا
انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى
عنصره. وقال قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل
بؤنة من أشهر القبط فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها،
فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى
جارية بكر بين أبويها؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما
يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل؛ فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام؛ وإن
الإسلام ليهدم ما قبله. فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء.
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة،
فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وأن الإسلام يهدم ما قبله ولا
يكون هذا. وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه. وكتب إلى عمرو: إني قد بعثت إليك
ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل
(13/103)
________________________________________
إذا أتاك كتابي. فلما
قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله أمير
المؤمنين عمر إلى نيل مصر - أما بعد - فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر وإن كان
الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. قال: فألقى
البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا
تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل. فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا يوم الصليب وقد
أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك
السنة. قال كعب الأحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان
وجيحان والنيل والفرات، فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل
نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة. وقال ابن لهيعة:
الدجلة نهر اللبن في
الجنة.
قلت: الذي في الصحيح
من هذا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيحان وجيجان
والنيل والفرات كل من أنهار الجنة" لفظ مسلم وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن
مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال: "وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم
أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما
هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات"
لفظ مسلم. وقال البخاري من طريق شريك عن أنس: "فإذا هو في السماء الدنيا
بنهرين يطردان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم
مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك
أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربك." وذكر
الحديث. والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء. وقال سعيد بن جبير: المراد عيون الذهب. وفي الدخان {كَمْ تَرَكُوا
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ} [الدخان: 26 - 27]. قيل: إنهم كانوا يزرعون ما
بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها. وليس في الدخان {وَكُنُوزٍ}
. {وَكُنُوزٍ} جمع كنز؛
وقد مضى هذا
(13/104)
________________________________________
في سورة {براءة}.
والمراد بها ها هنا الخزائن. وقيل: الدفائن. وقال الضحاك: الأنهار؛ وفيه نظر؛ لأن العيون تشملها. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال ابن
عمر ابن عباس ومجاهد: المقام الكريم المنابر؛ وكانت ألف منبر لألف جبار يعظمون عليها
فرعون وملكه. وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء؛ حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول.
وقال سعيد بن جبير: المساكن الحسان. وقال ابن لهيعة: سمعت أن المقام الكريم
الفيوم. وقيل: كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه: "لا إله إلا
الله إبراهيم خليل الله" فسماها الله كريمة بهذا. وقيل: مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عدة وزينة؛ فصار مقامها
أكرم منزل بهذا؛ ذكره الماوردي. والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليهم.
والمقام في اللغة
يكون الموضع ويكون مصدرا. قال النحاس: المقام في اللغة الموضع؛ من قولك قام يقوم،
وكذا المقامات واحدها مقامة؛ كما قال:
وفيهم مقامات حسان
وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
والمقام أيضا المصدر
من قام يقوم. والمقام: "بالضم" الموضع من أقام. والمصدر أيضا من أقام
يقيم.
قوله تعالى:
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من
الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل. قال الحسن وغيره:
رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى.
قلت:
وكلا الأمرين حصل
لهم. والحمد لله.قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فتبع فرعون وقومه
بني إسرائيل. قال السدي: حين أشرقت الشمس بالشعاع. وقال قتادة: حين أشرقت الأرض
بالضياء. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. واختلف في تأخر
فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل على قولين: أحدهما-
(13/105)
________________________________________
لاشتغالهم بدفن
أبكارهم في تلك الليلة؛ لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم؛ فقوله:
{مُشْرِقِينَ} حال
لقوم فرعون. الثاني: إن سحابة أظلتهم وظلمة فقالوا: نحن بعد في الليل فما تقشعت
عنهم حتى أصبحوا. وقال أبو عبيدة: معنى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ناحية المشرق. وقرأ الحسن وعمرو بن
ميمون: {فاتبعوهم مشرقين} بالتشديد وألف الوصل؛ أي نحو المشرق؛ مأخوذ من قولهم:
شرق وغرب إذا سار نحو
المشرق والمغرب. ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بني
إسرائيل مشرقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم.
قوله تعالى:
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه؛ وهو
تفاعل من الرؤية. {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي قرب منا العدو
ولا طاقة لنا به. وقراءة الجماعة: {لَمُدْرَكُونَ} بالتخفيف من أدرك. ومنه:
{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90]. وقرأ عبيد بن عمير والأعرج
والزهري: {لَمُدَّرَكُونَ} بتشديد الدال من أدرك. قال الفراء: حفر واحتقر بمعنى واحد،
وكذلك {لَمُدْرَكُونَ} و {لَمُدْرَكُونَ} بمعنى واحد. النحاس: وليس كذلك يقول
النحويون الحذاق؛ إنما يقولون: مدركون ملحقون، ومدركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال:
كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه.
قوله تعالى: {قَالَ
كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم،
ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى، على جهة
التوبيخ والجفاء: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه
له بالهداية والظفر {كُلاًَّ} أي لم يدركوكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي}
أي بالنصر على العدو.
{سَيَهْدِينِ} أي سيدلني على طريق النجاة؛ فلما عظم البلاء على بني إسرائيل؛ ورأوا
من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه؛ وذلك أنه
(13/106)
________________________________________
عز وجل أراد أن تكون
الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله؛ وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين
على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه. وقد مضى في
"البقرة" قصة هذا البحر. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد
أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم. والطود
الجبل؛ ومنه قول امرئ القيس:
فبينا المرء في
الأحياء طود ... رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر:
حلوا بأنقرة يسيل
عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
جمع طود أي جبل. فصار
لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا؛ فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون
على ما تقدم في {يونس} انصب عليهم وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون؛
فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه. وروى ابن القاسم عن مالك قال: خرج مع موسى عليه السلام رجلان من
التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله؟ قال: أمرت أن أضرب البحر بعصاي
هذه فينفلق؛ فقالا له افعل ما أمرك الله فلن يخلفك؛ ثم ألقيا أنفسهما في البحر
تصديقا له؛ فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان. وقد مضى
هذا المعنى في سورة {البقرة}.
قوله تعالى:
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ
الْآخَرِينَ ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي قربناهم إلى البحر؛ يعني فرعون وقومه. قاله ابن
عباس وغيره؛ قال الشاعر:
وكل يوم مضى أو ليلة
سلفت ... فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
أبو عبيدة:
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع. وقرأ
أبو عبدالله بن الحرث وأبي بن كعب وابن عباس: {وَأَزْلَفْنَا} بالقاف على معنى أهلكناهم؛ من قوله: أزلقت الناقة
وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها. {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} يعني فرعون وقومه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي
علامة على قدرة الله تعالى .
(13/107)
________________________________________
{وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه
حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف
الصديق عليه السلام. وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم
عليهم القمر فقال لقومه: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج
من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال موسى: فأيكم يدري قبره؟ قال: ما يعلمه إلا عجوز
لبني إسرائيل؛ فأرسل إليها؛ فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى
تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة؛ فثقل عليه، فقيل
له: أعطها حكمها؛ فدلتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا
الطريق مثل ضوء النهار في رواية: فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى
بحيرة، فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام؛
فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار. وقد مضى في {يوسف}. وروى أبو بردة عن أبي موسى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "حاجتك" قال: ناقة أرحلها وأعنزا أحبلها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل" فقال أصحابه: وما عجوز بني
إسرائيل؟ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه الجنة.
الآية: [69] {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}
الآية: [70] {إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}
الآية: [71] {قَالُوا
نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}
الآية: [72] {قَالَ
هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}
الآية: [73] {أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}
الآية: [74] {قَالُوا
بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
الآية: [75] {قَالَ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}
الآية: [76]
{أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ}
الآية: [77]
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}
(13/108)
________________________________________
قوله تعالى: {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} نبه المشركين على فرط جهلهم إذ رغبوا عن اعتقاد
إبراهيم ودينه وهو أبوهم. والنبأ الخبر؛ أي أقصص عليهم يا محمد خبره وحديثه وعيبه
على قومه ما يعبدون. وإنما قال ذلك ملزما لهم الحجة. والجمهور من القراء على تخفيف
الهمزة الثانية وهو أحسن الوجوه؛ لأنهم قد أجمعوا على تخفيف الثانية من كلمة واحدة
نحم آدم. وإن شئت حققتهما فقلت: {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} . وإن شئت خففتهما فقلت:
{نَبَا إِبْرَاهِيمَ}. وإن شئت خففت الأولى. وثم وجه خامس إلا أنه بعيد في العربية
وهو أن يدغم الهمزة في الهمزة كما يقال رأَّاس للذي يبيع الرؤوس. وإنما بعد لأنك
تجمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة، وحسن في فعال لأنه لا يأتي إلا مدغما.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي أي شيء تعبدون {قَالُوا
نَعْبُدُ أَصْنَاماً} وكانت أصنامهم من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب. {فنظل لها
عاكفين} أي فنقيم على عبادتها. وليس المراد وقتا معينا بل هو إخبار عما هم فيه.
وقيل: كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، وكانوا في الليل يعبدون الكواكب. فيقال:
ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا. {قَالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ} قال الأخفش: فيه حذف؛ والمعنى: هل يسمعون منكم؟ أو هل يسمعون
دعاءكم؛ قال الشاعر:
القائد الخيل منكوبا
دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
قال:
والأبق الكتان فحذف.
والمعنى؛ وأحكمت حكمات الأبق. وفي الصحاح: والأبق بالتحريك القنب. وروي عن قتادة
أنه قرأ: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} بضم الياء؛ أي أهل يسمعونكم أصواتهم. {إِذْ
تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي هل تنفعكم هذه الأصنام
وترزقكم، أو تملك لكم خيرا أو ضرا إن عصيتم؟! وهذا استفهام لتقرير الحجة؛ فإذا لم
ينفعوكم ولم يضروا فما معنى عبادتكم لها. {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا
كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فنزعوا إلى التقليد
(13/109)
________________________________________
من غير حجة ولا دليل.
وقد مضى القول فيه. {قَالَ} إبراهيم {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} من
هذه الأصنام {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} الأولون {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي} واحد يؤدي عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة هي عدو الله وعدوة الله؟ حكاهما
الفراء. قال علي بن سليمان: من قال عدوة الله وأثبت الهاء قال هي بمعنى معادية،
ومن قال عدو للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب. ووصف الجماد بالعداوة بمعنى أنهم عدو
لي إن عبدتهم يوم القيامة؛ كما قال: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82]. وقال الفراء: هو من المقلوب؛ مجازه فإنى عدو لهم
لأن من عاديته عاداك. {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} قال الكلبي: أي إلا من عبد رب
العالمين؛ إلا عابد رب العالمين؛ فحذف المضاف. قال أبو إسحاق الزجاج: قال النحويون هو استئناء ليس من الأول؛ وأجاز
أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام،
فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله. وتأوله الفراء على الأصنام وحدها والمعنى
عنده: فإنهم لو عبدتهم عدو لي يوم القيامة؛ على ما ذكرنا. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون
إلا رب العالمين فإنهم عدو لي. وإلا بمعنى دون وسوى؛ كقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي دون الموتة الأولى.
الآية: [78] {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}
الآية: [79]
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}
الآية: [80] {وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
الآية: [81]
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}
الآية: [82]
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
قوله تعالى: {الَّذِي
خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي يرشدني إلى الدين. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يرزقني. ودخول {هُوَ}
تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي؛ كما تقول: زيد هو الذي فعل كذا؛ أي لم يفعله غيره.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال: {مَرِضْتُ} رعاية للأدب وإلا فالمرض
والشفاء من الله عز وجل جميعا. ونظيره قول
(13/110)
________________________________________
فتى موسى: {وَمَا
أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ
يُحْيِينِ} يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب؛ فبين أن الله هو الذي
يميت ويحيي. وكله بغير ياء: {يَهْدِينِ} {يَشْفِينِ} لأن الحذف في رؤوس الآي حسن لتتفق كلها. وقرأ ابن أبي إسحاق على
جلالته ومحله من العربية هذه كلها بالياء؛ لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة.
فإن قيل: هذه صفة
لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره؟ قيل: إنما
ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة؛ لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من
الطاعة ما قد التزمها؛ وهذا إلزام صحيح.
قلت:
وتجوز بعض أهل
الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائه العقول من
أنه ليس المراد من إبراهيم. فقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي
يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول. ولهم في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ} وجهان: أحدهما: إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته. الثاني: إذا مرضت
بمقاساة الخلق، شفاني بمشاهدة الحق. وقال جعفر بن محمد الصادق: إذا مرضت بالذنوب
شفاني بالتوبة. وتأولوا قوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} على ثلاثة
أوجه: فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات. الثاني: يميتني بالخوف ويحييني
بالرجاء. الثالث: يميتني، بالطمع ويحييني بالقناعة. وقول رابع: يميتني بالعدل ويحييني
بالفضل. وقول خامس: يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق. وقول سادس:
يميتني بالجهل
ويحييني بالعقل؛ إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية؛ فإن هذه التأويلات
الغامضة، والأمور الباطنة، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق، وأما من كان في عمى عن
الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة، وتترك الأمور الظاهرة؟ هذا محال.
والله أعلم.
قوله تعالى:
{وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} {أَطْمَعُ} أي أرجو. وقيل: هو بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في
حق المؤمنين سواه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: {خَطَايَايَ} وقال: ليست خطيئة واحدة.
قال النحاس: خطيئة بمعنى
(13/111)
________________________________________
خطايا معروف في كلام
العرب، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11] ومعناه بذنوبهم. وكذا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] معناه الصلوات. وكذا {خَطِيئَتِي}
إن كانت خطايا. والله أعلم. قال مجاهد: يعني بخطيئته قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: إن سارة أخته. زاد الحسن وقوله للكوكب: {هَذَا رَبِّي}
[الأنعام: 76] وقد مضى بيان هذا مستوفى. وقال الزجاج: الأنبياء بشر فيجوز أن تقع
منهم الخطية؛ نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها. {يَوْمِ الدِّينِ}
يوم الجزاء حيث يجازي
العباد بأعمالهم. وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له. وفي
صحيح مسلم عن عائشة؛ قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم،
ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه إنه لم يقل يوما {رَبِّ
اَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} " .
الآية: [83] {رَبِّ
هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
====
الشعراء - تفسير الدر
المنثور
وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ
هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ
وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
(61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
- قَوْله تَعَالَى:
وأوحينا إِلَى مُوسَى إِن أسرِي بعبادي إِنَّكُم متبعون فَأرْسل فِرْعَوْن فِي
الْمَدَائِن حاشرين إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ وَإِنَّهُم لنا لغائظون
وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون فأخرجناهم من جنَّات وعيون وكنوز ومقام كريم كَذَلِك
(6/293)
________________________________________
وأورثناها بني
إِسْرَائِيل فاتبعوهم مشرقين فَلَمَّا تراءا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى
إِنَّا لمدركون قَالَ كلا إِن معي رَبِّي سيهدين
أخرج ابْن أبي حَاتِم
عَن السّديّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: ثمَّ إِن الله أَمر مُوسَى أَن يخرج ببني
إِسْرَائِيل فَقَالَ {فَأسر بعبادي لَيْلًا} فَأمر مُوسَى بني إِسْرَائِيل أَن
يخرجُوا وَأمرهمْ أَن يستعيروا الْحلِيّ من القبط وَأمر أَن لَا يُنَادي أحد
مِنْهُم صَاحبه وَأَن يسرجوا فِي بُيُوتهم حَتَّى الصُّبْح وَأَن من خرج مِنْهُم
أَمَام بَابه يكب من دم حَتَّى يعلم أَنه قد خرج وَأَن الله قد أخرج كل ولد زنا
فِي القبط من بني إِسْرَائِيل إِلَى بني إِسْرَائِيل وَأخرج كل ولد زنا فِي بني
إِسْرَائِيل من القبط إِلَى القبط حَتَّى أَتَوا آبَاءَهُم
ثمَّ خرج مُوسَى ببني
إِسْرَائِيل لَيْلًا والقبط لَا يعلمُونَ وَألقى على القبط الْمَوْت فَمَاتَ كل
بكر رجل مِنْهُم فَأَصْبحُوا يدفنونهم فشغلوا عَن طَلَبهمْ حَتَّى طلعت الشَّمْس وَخرج
مُوسَى فِي سِتّمائَة ألف وَعشْرين ألفا
لَا يعدون ابْن
عشْرين لصغره وَلَا ابْن سِتِّينَ لكبره وَإِنَّمَا عدوا مَا بَين ذَلِك سوى
الذُّرِّيَّة
وتبعهم فِرْعَوْن على
مُقَدّمَة هامان فِي ألف ألف وَسَبْعمائة ألف حصان فِيهَا ماذيانة وَذَلِكَ حِين
يَقُول الله {فَأرْسل فِرْعَوْن فِي الْمَدَائِن حاشرين إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة
قَلِيلُونَ} فَكَانَ مُوسَى على ساقة بني إِسْرَائِيل وَكَانَ هرون أمامهم يقدمهم
فَقَالَ الْمُؤمن لمُوسَى: أَيْن أمرت قَالَ: الْبَحْر
فَأَرَادَ أَن يقتحم
فَمَنعه مُوسَى
فَنَظَرت بَنو
إِسْرَائِيل إِلَى فِرْعَوْن قد رَدفَهُمْ قَالُوا: يَا مُوسَى {إِنَّا لمدركون} قَالَ مُوسَى {كلا إِن معي رَبِّي سيهدين} يَقُول:
سيكفين
فَتقدم هرون فَضرب
الْبَحْر فَأبى الْبَحْر أَن ينفتح وَقَالَ: من هَذَا الْجَبَّار الَّذِي يضربني
حَتَّى أَتَاهُ مُوسَى فكناه أَبَا خَالِد وضربه {فانفلق فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم} يَقُول: كالجبل الْعَظِيم فَدخلت
بَنو إِسْرَائِيل وَكَانَ فِي الْبَحْر اثْنَا عشر طَرِيقا فِي كل طَرِيق سبط
وَكَانَت الطّرق إِذا انفلقت بجدران فَقَالَ كل سبط: قد قتل أصحابناز فَلَمَّا رأى
ذَلِك مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعَا الله فَجَعلهَا لَهُم قناطر
كَهَيئَةِ الطَّبَقَات ينظر آخِرهم إِلَى أَوَّلهمْ حَتَّى خَرجُوا جَمِيعًا ثمَّ
دنا فِرْعَوْن وَأَصْحَابه فَلَمَّا نظر
(6/294)
________________________________________
فِرْعَوْن إِلَى
الْبَحْر منفلقاً قَالَ: أَلا ترَوْنَ إِلَى الْبَحْر منفلقاً قد فرق مني فانفتح
لي حَتَّى أدْرك أعدائي فاقتلهم فَلَمَّا قَامَ فِرْعَوْن على أَفْوَاه الطّرق
أَبَت خيله أَن تقتحم فَنزل على ماذيانة فشامت الْحصن ريح الماذيانة فَاقْتَحَمت
فِي أَثَرهَا حَتَّى إِذا هم أَوَّلهمْ أَن يخرج وَدخل آخِرهم
أَمر الله الْبَحْر
أَن يَأْخُذهُمْ فالتطم عَلَيْهِم وَتفرد جِبْرِيل بفرعون يمقله من مقل الْبَحْر
فَجعل يدسها فِي فِيهِ
وَأخرج عبد بن حميد
عَن قَتَادَة فِي قَوْله {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} قَالَ: ذكر لنا أَن بني إِسْرَائِيل الَّذين قطع بهم مُوسَى الْبَحْر كَانُوا
سِتّمائَة ألف مقَاتل وَعشْرين ألفا فَصَاعِدا
واتبعهم فِرْعَوْن
على ألف ألف حصان ومائتي ألف حصان
وَأخرج الْفرْيَابِيّ
وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن مَسْعُود
فِي قَوْله {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} قَالَ سِتّمائَة ألف وَسَبْعُونَ ألفا
وَأخرج ابْن أبي
شيبَة وَابْن جرير عَن أبي عُبَيْدَة
مثله
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة
قَلِيلُونَ} قَالَ: كَانُوا سِتّمائَة ألف
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {لشرذمة} قَالَ: قِطْعَة
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ {لشرذمة} قَالَ: الفريد من النَّاس
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَصْحَاب مُوسَى الَّذين جاوزوا الْبَحْر اثْنَي
عشر سبط فَكَانَ فِي كل طَرِيق اثْنَا عشر ألفا كلهم ولد يَعْقُوب عَلَيْهِ
السَّلَام
وَأخرج الْفرْيَابِيّ
وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُجَاهِد {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} قَالَ:
هم يَوْمئِذٍ سِتّمائَة ألف
وَلَا يُحْصى عدد
أَصْحَاب فِرْعَوْن
وَأخرج ابْن
مرْدَوَيْه بسندٍ واهٍ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِرْعَوْن عَدو الله حَيْثُ غرقه الله هُوَ
وَأَصْحَابه فِي سبعين قَائِد مَعَ كل قَائِد سَبْعُونَ ألفا
وَكَانَ مُوسَى مَعَ
سبعين ألفا حِين عبروا الْبَحْر
وَأخرج ابْن جرير
وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن جريج قَالَ: أوحى الله إِلَى مُوسَى:
أَن أجمع بني
إِسْرَائِيل كل أَرْبَعَة أَبْيَات من بني إِسْرَائِيل فِي بَيت ثمَّ اذْبَحْ
أَوْلَاد الضان
(6/295)
________________________________________
فَاضْرب بدمائها على
كل بَاب فَإِنِّي سآمر الْمَلَائِكَة أَن لَا تدخل بَيْتا على بَابه دم وسآمر
الْمَلَائِكَة فَتقْتل أبكار آل فِرْعَوْن من أنفسهم وأهليهم ثمَّ اخبزوا خبز
فطيرا فَإِنَّهُ أسْرع لكم ثمَّ سر حَتَّى تَأتي الْبَحْر ثمَّ قف حَتَّى يَأْتِيك
أَمْرِي
فَلَمَّا أَن أصبح
فِرْعَوْن قَالَ: هَذَا عمل مُوسَى وَقَومه قتلوا أبكارنا من أَنْفُسنَا وأهلينا
وَأخرج ابْن إِسْحَق
وَابْن الْمُنْذر عَن يحيى بن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: إِن الله أَمر مُوسَى أَن
يسير ببني إِسْرَائِيل وَقد كَانَ مُوسَى وعد بني إِسْرَائِيل أَن يسير بهم إِذا
طلع الْقَمَر فَدَعَا الله أَن يُؤَخر طلوعه حَتَّى يفرغ فَلَمَّا سَار مُوسَى
ببني إِسْرَائِيل أذن فِرْعَوْن فِي النَّاس {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ}
وَأخرج ابْن
الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: خرج مُوسَى من مصر وَمَعَهُ سِتّمائَة ألف
من بني إِسْرَائِيل لَا يعدون فيهم أقل من ابْن عشْرين وَلَا ابْن أَكثر من أَرْبَعِينَ
سنة فَقَالَ فِرْعَوْن: {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} وَخرج فِرْعَوْن على فرس حصان أدهم وَمَعَهُ ثَمَانمِائَة ألف على خيل
أدهم سوى ألوان الْخَيل وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على فرس شَائِع يسير
بَين يَدي الْقَوْم وَيَقُول: لَيْسَ الْقَوْم بِأَحَق بِالطَّرِيقِ مِنْكُم
وَفرْعَوْن على فرس
أدهم حصان
وَجِبْرِيل على فرس
أُنْثَى
فاتبعها فرس
فِرْعَوْن وَكَانَ مِيكَائِيل فِي أُخْرَى الْقَوْم يَقُول: الحقوا أصحابكم حَتَّى
دخل آخِرهم وَأَرَادَ أَوَّلهمْ أَن يخرجُوا فأطبق عَلَيْهِم الْبَحْر
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ: لما أَرَادَ مُوسَى أَن يخرج ببني
إِسْرَائِيل من مصر بلغ ذَلِك فِرْعَوْن فَقَالَ: أمهلوهم حَتَّى إِذا صَاح الديك
فأتوهم
فَلم يُصِحْ فِي
تِلْكَ اللَّيْلَة الديك فَخرج مُوسَى ببني إِسْرَائِيل وَغدا فِرْعَوْن فَلَمَّا
أصبح فِرْعَوْن أَمر بِشَاة فَأتي بهَا فَأمر بهَا أَن تذبح ثمَّ قَالَ: لَا يفرغ
من سلخها حَتَّى يجْتَمع عِنْدِي خَمْسمِائَة ألف فَارس
فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ
فاتبعهم فَلَمَّا انْتهى مُوسَى إِلَى الْبَحْر قَالَ لَهُ: وَصِيّه يَا نَبِي
الله أَيْن أمرت قَالَ: هَهُنَا فِي الْبَحْر
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ طلائع فِرْعَوْن الَّذين بَعثهمْ فِي
أَثَرهم سِتّمائَة ألف لَيْسَ فيهم أحد إِلَّا على بهيم
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَت سِيمَا خيل فِرْعَوْن الْخرق الْبيض فِي أصداغها وَكَانَت
جريدته مائَة ألف حصان
(6/296)
________________________________________
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: اجْتمع آل يَعْقُوب إِلَى يُوسُف وهم سِتَّة
وَثَمَانُونَ انساناً ذكرهم وأنثاهم
فَخرج بهم مُوسَى
يَوْم خرج وهم سِتّمائَة ألف ونيف
وَخرج فِرْعَوْن على
أَثَرهم يطلبهم على فرس أدهم على لَونه من الدهم ثَمَانمِائَة ألف أدهم سوى ألوان
الْخَيل وحالت الرّيح الشمَال
وَتَحْت جِبْرِيل فرس
وريق وَمِيكَائِيل يسوقهم لَا يشذ مِنْهُم شَاذَّة إِلَّا ضمه فَقَالَ الْقَوْم:
يَا رَسُول الله قد كُنَّا نلقى من فِرْعَوْن من التعس وَالْعَذَاب مَا نلقى فَكيف
إِن صنعا مَا صنعنَا فَأَيْنَ الملجأ قَالَ: الْبَحْر
وَأخرج ابْن جرير
وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس
أَنه قَرَأَ
{وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} قَالَ: مؤدون مُقِرّون
وَأخرج الْفرْيَابِيّ
وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن الْأسود بن يزِيد انه كَانَ
يَقْرَأها {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} يَقُول: رادون مستعدون
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير
أَنه كَانَ يقْرَأ
{وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} يَقُول: مَا دون فِي السِّلَاح
وَأخرج عبد بن حميد
عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: قَرَأَ عبيد {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون}
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} يَعْنِي شاكي
السِّلَاح
وَأخرج عبد بن حميد
عَن ابْن مَسْعُود {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} قَالَ: مؤدون مقوّون فِي السِّلَاح
والكراع
وَأخرج عبد بن حميد
عَن إِبْرَاهِيم
أَنه كَانَ يَقْرَأها
{وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون}
وَأخرج ابْن
الْأَنْبَارِي فِي الْوَقْف عَن ابْن عَبَّاس
إِن نَافِع بن
الْأَزْرَق قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْله {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} مَا
الحاذرون قَالَ: التامون السِّلَاح قَالَ فِيهِ النَّجَاشِيّ: لعمر أبي أَتَانِي حَيْثُ أَمْسَى لقد تأذت بِهِ أَبنَاء بكر خَفِيفَة
فِي كتاب حاذرات يقودهم أَبُو شبْل هزبر
(6/297)
________________________________________
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة {فأخرجناهم من جنَّات وعيون وكنوز ومقام كريم}
قَالَ: كَانُوا فِي ذَلِك فِي الدُّنْيَا فَأخْرجهُمْ الله من ذَلِك وأورثها بني
إِسْرَائِيل
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {ومقام كريم} قَالَ: المنابر
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {فأتبعوهم مشرقين} قَالَ: اتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده حِين أشرقت الشَّمْس {قَالَ
أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون} قَالَ مُوسَى وَكَانَ أعلمهم بِاللَّه {كلا إِن
معي رَبِّي سيهدين}
وَأخرج عبد بن حميد
عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ {فأتبعوهم مشرقين} مَهْمُوزَة مَقْطُوعَة الْألف
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {فأتبعوهم مشرقين} قَالَ: خرج أَصْحَاب مُوسَى لَيْلًا فكسف الْقَمَر لَيْلًا وأظلمت
الأَرْض فَقَالَ أَصْحَابه: أَن يُوسُف كَانَ أخبرنَا: أَنا سننجى من فِرْعَوْن وَأخذ
علينا الْعَهْد لَنخْرجَنَّ بعظامه مَعنا فَخرج مُوسَى من ليلته يسْأَل عَن قَبره
فَوجدَ عجوزاً سَأَلَهَا على قَبره فَأَخْرَجته لَهُ بحكمها فَكَانَ حكمهَا أَن
قَالَت لَهُ: احملني فاخرجني مَعَك فَجعل عِظَام يُوسُف فِي كسَاء ثمَّ حمل
الْعَجُوز على كسَاء فَجعله على رقبته وخيل فِرْعَوْن فِي ملْء أعنتها خضراء فِي
أَعينهم وَلَا يبرح حسه عَن مُوسَى وَأَصْحَابه حَتَّى برزوا
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي: إِن مُؤمن آل فِرْعَوْن كَانَ امام
الْقَوْم قَالَ: يَا نَبِي الله أَيْن أمرت قَالَ: أمامك
قَالَ: وَهل أَمَامِي
إِلَّا الْبَحْر قَالَ: وَالله مَا كذبت وَلَا كذبت
ثمَّ سَار سَاعَة
فَقَالَ مثل ذَلِك فَرد عَلَيْهِ مُوسَى مثل ذَلِك قَالَ مُوسَى وَكَانَ أعلم
الْقَوْم بِاللَّه {كلا إِن معي رَبِّي سيهدين}
(6/298)
________________________________________
فَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى
وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
- قَوْله تَعَالَى:
فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق فَكَانَ كل فرق كالطود
الْعَظِيم وأزلفنا ثمَّ الآخرين وأنجينا مُوسَى وَمن مَعَه أَجْمَعِينَ ثمَّ
أغرقنا الآخرين إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين وَإِن رَبك
لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم
(6/298)
________________________________________
أخرج ابْن جرير
وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {كالطود} قَالَ: كالجبل
وَأخرج ابْن أبي
شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله {كالطود} قَالَ: كالجبل
وَأخرج عبد بن حميد
عَن قَتَادَة قَالَ الطود الْجَبَل
وَأخرج ابْن جرير عَن
ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} قَالَ: هم قوم فِرْعَوْن قربهم
الله حَتَّى أغرقهم فِي الْبَحْر
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه
عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا
أعلمك الْكَلِمَات الَّتِي قالهن مُوسَى حِين انْفَلق الْبَحْر قلت: بلَى
قَالَ: اللَّهُمَّ
لَك الْحَمد وَإِلَيْك المتكل وَبِك المستغاث وَأَنت الْمُسْتَعَان وَلَا حول
وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه قَالَ ابْن مَسْعُود: فَمَا تركتهن مُنْذُ
سَمِعتهنَّ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن يُوسُف بن عبد الله بن سَلام: أَن مُوسَى لما
انْتهى إِلَى الْبَحْر قَالَ: يَا من كَانَ قبل كل شَيْء والمكوّن لكل شَيْء
والكائن بعد كل شَيْء اجْعَل لنا مخرجا
فَأوحى الله إِلَيْهِ
{أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر}
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: كَانَ الْبَحْر سَاكِنا لَا يَتَحَرَّك فَلَمَّا
كَانَ لَيْلَة ضربه مُوسَى بالعصا صَار يمد ويجزر
وَأخرج ابْن أبي
حَاتِم عَن قيس بن عباد قَالَ: لما انْتهى مُوسَى ببني إِسْرَائِيل إِلَى الْبَحْر
قَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: أَيْن مَا وعدتنا هَذَا الْبَحْر بَين
أَيْدِينَا وَهَذَا فِرْعَوْن وَجُنُوده قد دهمنا من خلفنا
فَقَالَ مُوسَى
للبحر: انفرق أَبَا خَالِد فَقَالَ: لن أفرق لَك يَا مُوسَى انا أقدم مِنْك وَأَشد
خلقا فَنُوديَ {أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر}
وَأخرج أَبُو
الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِسْحَاق السراج فِي تَارِيخه وَابْن عبد الْبر فِي
التَّمْهِيد من طَرِيق يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كتب صَاحب
الرّوم إِلَى مُعَاوِيَة يسْأَله عَن أفضل الْكَلَام مَا هُوَ وَالثَّانِي
وَالثَّالِث
وَالرَّابِع
وَعَن أكْرم الْخلق
على الله وَأكْرم الْأَنْبِيَاء على الله وَعَن أَرْبَعَة من الْخلق لم يركضوا فِي
رحم وَعَن قبر سَار بِصَاحِبِهِ وَعَن المجرة وَعَن الْقوس وَعَن مَكَان طلعت
فِيهِ الشَّمْس لم تطلع
(6/299)
________________________________________
قبله وَلَا بعده
فَلَمَّا قَرَأَ مُعَاوِيَة الْكتاب قَالَ: أَخْزَاهُ الله وَمَا علمي مَا هَهُنَا
فَقيل لَهُ: اكْتُبْ إِلَى ابْن عَبَّاس فسله
فَكتب إِلَيْهِ
يسْأَله
فَكتب إِلَيْهِ ابْن
عَبَّاس: إِن أفضل الْكَلَام لَا إِلَه إِلَّا الله كلمة الاخلاص لَا يقبل عمل
إِلَّا بهَا وَالَّتِي تَلِيهَا سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ أحب الْكَلَام إِلَى
الله وَالَّتِي تَلِيهَا الْحَمد لله كلمة الشُّكْر وَالَّتِي تَلِيهَا الله أكبر
فَاتِحَة الصَّلَوَات وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَأكْرم الْخلق على الله آدم عَلَيْهِ
السَّلَام وَأكْرم اماء الله مَرْيَم
وَأما الْأَرْبَعَة
الَّتِي لم يركضوا فِي رحم فآدم وحوّاء والكبش الَّذِي فدى بِهِ اسمعيل وعصا
مُوسَى حَيْثُ أَلْقَاهَا فَصَارَ ثعباناً مُبينًا
وَأما الْقَبْر
الَّذِي سَار بِصَاحِبِهِ فَالْحُوت حِين الْتَقم يُونُس وَأما المجرة فباب
السَّمَاء وَأما الْقوس فَإِنَّهَا أَمَان لأهل الأَرْض من الْغَرق بعد قوم نوح
وَأما الْمَكَان الَّذِي طلعت فِيهِ الشَّمْس لم تطلع قبله وَلَا بعده فالمكان الَّذِي
انفرج من الْبَحْر لبني إِسْرَائِيل
فَلَمَّا قَرَأَ
عَلَيْهِ الْكتاب أرسل بِهِ إِلَى صَاحب الرّوم فَقَالَ: لقد علمت أَن مُعَاوِيَة
لم يكن لَهُ بِهَذَا علم وَمَا أصَاب هَذَا إِلَّا رجلٌ من أهل بَيت النُّبُوَّة
وَأخرج سعيد بن
مَنْصُور وَابْن جرير عَن عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد قَالَ: جَاءَ مُوسَى
إِلَى فِرْعَوْن وَعَلِيهِ جُبَّة من صوف وَمَعَهُ عَصا فَضَحِك فِرْعَوْن
فَألْقى عَصَاهُ
فَانْطَلَقت نَحوه كَأَنَّهَا عنق بخْتِي فِيهَا أَمْثَال الرماح تهتز
فَجعل فِرْعَوْن
يتَأَخَّر وَهُوَ على سَرِيره فَقَالَ فِرْعَوْن: خُذْهَا واسلم
فَعَادَت كَمَا
كَانَت وَعَاد فِرْعَوْن كَافِرًا
فَأمر مُوسَى أَن
يسير إِلَى الْبَحْر فَسَار بهم فِي سِتّمائَة ألف فَلَمَّا أَتَى الْبَحْر أَمر
الْبَحْر إِذا ضربه مُوسَى بعصاه أَن ينفرج لَهُ فَضرب مُوسَى بعصاه الْبَحْر
فانفلق مِنْهُ اثْنَا عشر طَرِيقا لكل سبط مِنْهُم طَرِيق وَجعل لَهُم فِيهَا
أَمْثَال الكوى ينظر بَعضهم إِلَى بعض
وَاقْبَلْ فِرْعَوْن
فِي ثَمَانمِائَة ألف حَتَّى أشرف على الْبَحْر
فَلَمَّا رَآهُ هابه
وَهُوَ على حصان لَهُ وَعرض لَهُ ملك وَهُوَ على فرس لَهُ أُنْثَى فَلم يملك
فِرْعَوْن فرسه حَتَّى أقحمه وَخرج آخر بني إِسْرَائِيل وولج أَصْحَاب فِرْعَوْن
حَتَّى إِذا صَارُوا فِي الْبَحْر فاطبق عَلَيْهِم فغرق فِرْعَوْن بِأَصْحَابِهِ
وَأخرج ابْن جرير
وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: أوحى
(6/300)
________________________________________
الله إِلَى مُوسَى:
أَن اسر بعبادي لَيْلًا إِنَّكُم متبعون
فَأسْرى مُوسَى ببني
إِسْرَائِيل لَيْلًا فاتبعهم فِرْعَوْن فِي ألف ألف حصان سوى الاناث وَكَانَ
مُوسَى فِي سِتّمائَة ألف فَلَمَّا عاينهم فِرْعَوْن قَالَ {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ وَإِنَّهُم لنا لغائظون وَإِنَّا
لجَمِيع حاذرون} الشُّعَرَاء الْآيَة 54 - 56 فاسرى مُوسَى ببني إِسْرَائِيل حَتَّى
هجموا على الْبَحْر فالتفتوا فَإِذا هم برهج دَوَاب فِرْعَوْن فَقَالُوا: يَا
مُوسَى {أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا} الْأَعْرَاف الْآيَة 129 هَذَا الْبَحْر أمامنا وَهَذَا فِرْعَوْن قد
رهقنا بِمن مَعَه قَالَ: {عَسى ربكُم أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر
كَيفَ تَعْمَلُونَ} الْأَعْرَاف الْآيَة 129 {فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن اضْرِب
بعصاك الْبَحْر}
وَأوحى إِلَى
الْبَحْر: أَن اسْمَع لمُوسَى وأطع إِذا ضربك
فَثَابَ الْبَحْر
لَهُ أفكل يَعْنِي رعدة لَا يدْرِي من أَي جوانبه يضْرب
فَقَالَ يُوشَع
لمُوسَى: بِمَاذَا أمرت قَالَ: أمرت أَن أضْرب الْبَحْر
قَالَ:
فَاضْرِبْهُ: فَضرب
مُوسَى الْبَحْر بعصاه فانفلق فَكَانَ فِيهِ اثْنَا عشر طَرِيق كل طَرِيق كالطود
الْعَظِيم فَكَانَ لكل سبط فيهم طَرِيق يَأْخُذُونَ فِيهِ فَلَمَّا أخذُوا فِي
الطَّرِيق قَالَ بَعضهم لبَعض: مَا لنا لَا نرى أَصْحَابنَا
فَقَالُوا لمُوسَى:
إِن أَصْحَابنَا لَا نراهم قَالَ: سِيرُوا فانهم على طَرِيق مثل طريقكم قَالُوا:
لن نؤمن حَتَّى نراهم قَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ أَعنِي على أخلاقكم السَّيئَة
فَأوحى الله
إِلَيْهِ: أَن قل بعصاك هَكَذَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يديرها على الْبَحْر
قَالَ مُوسَى بعصاه
على الْحِيطَان هَكَذَا فَصَارَ فِيهَا كوات ينظر بَعضهم إِلَى بعض فَسَارُوا
حَتَّى خَرجُوا من الْبَحْر
فَلَمَّا جَازَ آخر
قوم مُوسَى هجم فِرْعَوْن على الْبَحْر هُوَ وَأَصْحَابه وَكَانَ فِرْعَوْن على
فرس أدهم حصان فَلَمَّا هجم على الْبَحْر هاب الحصان أَن يقتحم فِي الْبَحْر فتمثل
لَهُ جِبْرِيل على فرس أُنْثَى فَلَمَّا رَآهَا الحصان اقتحم خلفهَا وَقيل لمُوسَى
{واترك الْبَحْر رهوا} الدُّخان الْآيَة 24 قَالَ: طرقاً على حَاله
وَدخل فِرْعَوْن
وَقَومه فِي الْبَحْر فَلَمَّا دخل آخر قوم فِرْعَوْن وَجَاز آخر قوم مُوسَى أطبق الْبَحْر
على فِرْعَوْن وَقَومه فأغرقوا
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن مُوسَى
حِين أسرى ببني إِسْرَائِيل بلغ فِرْعَوْن فَأمر بِشَاة فذبحت ثمَّ قَالَ: لَا
يفرغ من سلخها حَتَّى يجْتَمع إِلَيّ سِتّمائَة ألف من القبط
فَانْطَلق مُوسَى
حَتَّى انْتهى إِلَى
(6/301)
________________________________________
الْبَحْر فَقَالَ
لَهُ: انفرق
فَقَالَ لَهُ
الْبَحْر: لقد استكثرت يَا مُوسَى وَهل انفرقت لأحد من ولد آدم وَمَعَ مُوسَى رجل
على حصان لَهُ فَقَالَ أَيْن أمرت يَا نَبِي الله بهؤلاء قَالَ: مَا أمرت إِلَّا
بِهَذَا الْوَجْه
فاقتحم فرسه فسبح
بِهِ ثمَّ خرج فَقَالَ: أَيْن أمرت يَا نَبِي الله قَالَ: مَا أمرت إِلَّا بِهَذَا
الْوَجْه
قَالَ: مَا كذبت
وَلَا كذبت
فَأوحى الله إِلَى
مُوسَى: أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر
فَضَربهُ مُوسَى
بعصاه فانفلق فَكَانَ فِيهِ اثْنَا عشر طَرِيقا لكل سبط طَرِيق يترأون فَلَمَّا
خرج أَصْحَاب مُوسَى وتتام أَصْحَاب فِرْعَوْن التقى الْبَحْر عَلَيْهِم فأغرقهم
وَأخرج عبد بن حميد
وَالْفِرْيَابِي وَابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي مُوسَى عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن مُوسَى لما أَرَادَ أَن يسير ببني
إِسْرَائِيل أضلّ الطَّرِيق فَقَالَ لبني إِسْرَائِيل: مَا هَذَا فَقَالَ لَهُ
عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل: أَن يُوسُف لما حَضَره الْمَوْت أَخذ علينا موثقًا أَن لَا
نخرج من مصر حَتَّى ننقل تابوته مَعنا فَقَالَ لَهُم مُوسَى: أَيّكُم يدْرِي أَيْن
قَبره فَقَالُوا: مَا يعلم أحد مَكَان قَبره إِلَّا عَجُوز لبني إِسْرَائِيل
فَأرْسل إِلَيْهَا
مُوسَى فَقَالَ: دلينا على قبر يُوسُف فَقَالَت: لَا وَالله حَتَّى تُعْطِينِي
حكمي قَالَ: وَمَا حكمك قَالَت: أَن أكون مَعَك فِي الْجنَّة
فَكَأَنَّهُ ثقل
عَلَيْهِ ذَلِك فَقيل لَهُ: اعطها حكمهَا
فَانْطَلَقت بهم
إِلَى بحيرة مشقشقة مَاء فَقَالَت لَهُم: انضبوا عَنْهَا المَاء فَفَعَلُوا
قَالَت: احفروا
فَحَفَرُوا
فَاسْتَخْرَجُوا قبر يُوسُف فَلَمَّا احتملوه إِذا الطَّرِيق مثل ضوء النَّهَار
وَأخرج ابْن عبد
الحكم فِي فتوح مصر عَن سماك بن حَرْب
أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لما أسرى مُوسَى ببني إِسْرَائِيل غشيتهم غمامة
حَالَتْ بَينهم وَبَين الطَّرِيق أَن يبصروه
وَقيل لمُوسَى: لن
تعبر إِلَّا ومعك عِظَام يُوسُف قَالَ: وَأَيْنَ موضعهَا قَالُوا: ابْنَته عَجُوز
كَبِيرَة ذَاهِبَة الْبَصَر تركناها فِي الديار
فَرجع مُوسَى
فَلَمَّا سَمِعت حسه قَالَت: مُوسَى قَالَ: مُوسَى
قَالَت: مَا وَرَاءَك
قَالَ: أمرت أَن أحمل عِظَام يُوسُف
قَالَت:
مَا كُنْتُم لتعبروا
إِلَّا وَأَنا مَعكُمْ قَالَ: دليني على عِظَام يُوسُف قَالَت: لَا أفعل إِلَّا
أَن تُعْطِينِي مَا سَأَلتك قَالَ: فلك مَا سَأَلت قَالَت: خُذ بيَدي
فَأخذ بِيَدِهَا
فانتهت بِهِ إِلَى عَمُود على شاطىء النّيل فِي أَصله سكَّة من حَدِيد موتدة
فِيهَا
(6/302)
________________________________________
سلسلة فَقَالَت: انا
دفناه من ذَلِك الْجَانِب
فأخصب ذَلِك
الْجَانِب وأجدب ذَاك الْجَانِب فحولناه إِلَى هَذَا الْجَانِب وأجدب ذَاك
فَلَمَّا رَأينَا ذَلِك جَمعنَا عِظَامه فجعلناها فِي صندوق من حَدِيد وألقيناه
فِي وسط النّيل فأخصب الجانبان جَمِيعًا
فَحمل الصندوق على
رقبته وَأخذ بِيَدِهَا فألحقها بالعسكر وَقَالَ لَهَا: سَلِي مَا شِئْت قَالَت:
فَإِنِّي أَسأَلك أَن أكون أَنا وَأَنت فِي دَرَجَة وَاحِدَة فِي الْجنَّة وَيرد
عَليّ بَصرِي وشبابي حَتَّى أكون شَابة كَمَا كنت
قَالَ: فلك ذَلِك
وَأخرج عبد بن حميد
وَابْن الْمُنْذر عَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أوصى يُوسُف عَلَيْهِ
السَّلَام إِن جَاءَ نَبِي من بعدِي فَقولُوا لَهُ: يخرج عِظَامِي من هَذِه
الْقرْيَة
فَلَمَّا كَانَ من
أَمر مُوسَى مَا كَانَ يَوْم قرعون فَمر بالقرية الَّتِي فِيهَا قبر يُوسُف
فَسَأَلَ عَن قَبره فَلم يجد أحد يُخبرهُ فَقيل لَهُ: هَهُنَا عَجُوز بقيت من قوم
يُوسُف
فَجَاءَهَا مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهَا: تدليني على قبر يُوسُف فَقَالَت: لَا أفعل
حَتَّى تُعْطِينِي مَا اششترط عَلَيْك
فَأوحى الله إِلَى
مُوسَى: أَن أعْطهَا شَرطهَا قَالَ لَهَا: وَمَا تريدين قَالَت: أكون زَوجتك فِي
الْجنَّة
فاعطاها فدلته على
قَبره
فحفر مُوسَى الْقَبْر
ثمَّ بسط رِدَاءَهُ وَأخرج عِظَام يُوسُف فَجعله فِي وسط ثَوْبه ثمَّ لف الثَّوْب
بالعظام فَحَمله على يَمِينه فَقَالَ لَهُ الْملك الَّذِي على يَمِينه: الْحمل
يحمل على الْيَمين قَالَ: صدقت هُوَ على الشمَال وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك كَرَامَة
ليوسف
وَأخرج ابْن عبد
الحكم من طَرِيق الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ
السَّلَام قد عهد عِنْد مَوته أَن يخرجُوا بعظامه مَعَهم من مصر
قَالَ:
فتجهز الْقَوْم وَخَرجُوا
فتحيروا فَقَالَ لَهُم مُوسَى: إِنَّمَا تحيركم هَذَا من أجل عِظَام يُوسُف فَمن
يدلني عَلَيْهَا فَقَالَت عَجُوز يُقَال لَهَا شَارِح ابْنة آي بن يَعْقُوب: أَنا
رَأَيْت عمي يُوسُف حِين دفن فَمَا تجْعَل لي إِن دللتك عَلَيْهِ قَالَ: حكمك
فدلته عَلَيْهِ فَأخذ
عِظَام يُوسُف ثمَّ قَالَ: احتكمي قَالَت: أكون مَعَك حَيْثُ كنت فِي الْجنَّة
وَأخرج ابْن عبد
الحكم من طَرِيق الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس
أَن الله أوحى إِلَى
مُوسَى: أَن أسر بعبادي
وَكَانَ بَنو
إِسْرَائِيل استعاروا من قوم فِرْعَوْن
(6/303)
________________________________________
حليا وثياباً
إِن لنا عيداً نخرج
إِلَيْهِ فَخرج بهم مُوسَى لَيْلًا وهم سِتّمائَة ألف وَثَلَاثَة آلَاف ونيف
فَذَلِك قَول
فِرْعَوْن {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} وَخرج فِرْعَوْن ومقدمته خَمْسمِائَة
ألف سوى الجنبين وَالْقلب فَلَمَّا انْتهى مُوسَى إِلَى الْبَحْر أقبل يُوشَع بن
نون على فرسه فَمشى على المَاء واقتحم غَيره بخيولهم فَوَثَبُوا فِي المَاء وَخرج
فِرْعَوْن فِي طَلَبهمْ حِين أصبح وَبَعْدَمَا طلعت الشَّمْس فَذَلِك قولهل
{فأتبعوهم مشرقين فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا
لمدركون} فَدَعَا مُوسَى ربه فغشيتهم ضَبَابَة حَالَتْ بَينهم وَبَينه وَقيل لَهُ:
اضْرِب بعصاك الْبَحْر
فَفعل {فانفلق
فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم} يَعْنِي الْجَبَل
فانفلق مِنْهُ اثْنَا
عشر طَرِيقا فَقَالُوا: انا نَخَاف أَن توحل فِيهِ الْخَيل
فَدَعَا مُوسَى ربه
فَهبت عَلَيْهِم الصِّبَا فجف فَقَالُوا: انا نَخَاف أَن يغرق منا وَلَا نشعر
فَقَالَ بعصاه فَنقبَ المَاء فَجعل بَينهم كوى حَتَّى يرى بَعضهم بَعْضًا ثمَّ
دخلُوا حَتَّى جاوزوا الْبَحْر
وَأَقْبل فِرْعَوْن حَتَّى
انْتهى إِلَى الْموضع الَّذِي عبر مِنْهُ مُوسَى وطرقه على حَالهَا فَقَالَ لَهُ
أدلاؤه: إِن مُوسَى قد سحر الْبَحْر حَتَّى صَار كَمَا ترى وَهُوَ قَوْله {واترك
الْبَحْر رهواً} الدُّخان الْآيَة 24 يَعْنِي كَمَا هُوَ
فحذ هَهُنَا حَتَّى
نلحقهم وَهُوَ مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْبر
وَكَانَ فِرْعَوْن
يَوْمئِذٍ على حصان فَأقبل جِبْرِيل على فرس أُنْثَى فِي ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ من
الْمَلَائِكَة ففرقوا النَّاس وَتقدم جِبْرِيل فَسَار بَين يَدي فِرْعَوْن
وَتَبعهُ فِرْعَوْن وصاحت الْمَلَائِكَة فِي النَّاس: الحقوا الْملك
حَتَّى إِذا دخل
آخِرهم وَلم يخرج أَوَّلهمْ
التقى الْبَحْر
عَلَيْهِم فَغَرقُوا
فَسمع بَنو
إِسْرَائِيل وجبة الْبَحْر حِين التقى فَقَالُوا: مَا هَذَا قَالَ مُوسَى: غرق
فِرْعَوْن وَأَصْحَابه
فَرَجَعُوا ينظرُونَ
فألقاهم الْبَحْر على السَّاحِل
وَأخرج ابْن عبد
الحكم وَعبد بن حميد عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَ جِبْرِيل بَين
النَّاس
بَين بني إِسْرَائِيل
وَبَين آل فِرْعَوْن فَيَقُول: رويدكم ليلحقكم آخركم
فَقَالَت بَنو
إِسْرَائِيل: مَا رَأينَا سائقاً أحسن سياقاً من هَذَا
وَقَالَ آل
فِرْعَوْن: مَا رَأينَا وازعاً أحسن زعة من هَذَا
فَلَمَّا انْتهى
مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيل إِلَى الْبَحْر قَالَ مُؤمن آل فِرْعَوْن
يَا نَبِي الله أَيْن
أمرت هَذَا الْبَحْر أمامك وَقد غشينا آل فِرْعَوْن فَقَالَ:
(6/304)
________________________________________
أمرت بالبحر
فاقتحم مُؤمن آل
فِرْعَوْن فرسه فَرده التيار فَجعل مُوسَى لَا يدْرِي كَيفَ يصنع وَكَانَ الله قد
أوحى إِلَى الْبَحْر: أَن أطع مُوسَى وَآيَة ذَلِك إِذا ضربك بعصا فَأوحى الله
إِلَى مُوسَى: أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر
فَضَربهُ {فانفلق فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم} فَدخل بَنو إِسْرَائِيل
واتبعهم آل فِرْعَوْن فَلَمَّا خرج آخر بني إِسْرَائِيل وَدخل آخر آل فِرْعَوْن أطبق
الله عَلَيْهِم الْبَحْر
وَأخرج ابْن
الْمُنْذر عَن سعيد بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ قَالَ: نزل جِبْرِيل يَوْم غرق
فِرْعَوْن وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء
وَأخرج الْخَطِيب فِي
الْمُتَّفق والمفترق عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ جعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يصفق بيدَيْهِ ويعجب من بني إِسْرَائِيل وتعنتهم لما حَضَرُوا الْبَحْر
وحضرهم عدوهم
جاؤا مُوسَى
فَقَالُوا: قد حَضَرنَا العدوّ فَمَاذَا أمرت قَالَ: أَن أنزل هَهُنَا فاما أَن
يفتح لي رَبِّي ويهزمهم وَأما أَن يفرق لي هَذَا الْبَحْر
فَضَربهُ فتأطط كَمَا
تتأطط الْفرش ثمَّ ضربه الثَّانِيَة فانصدع فَقَالَ: هَذَا من سُلْطَان رَبِّي
فاجازوا الْبَحْر
فَلم يسمع بِقوم أعظم ذَنبا وَلَا أسْرع تَوْبَة مِنْهُم
(6/305)
________________________________________
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ
أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا
رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
- قَوْله تَعَالَى:
واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا تَعْبدُونَ
قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين قَالَ هَل يسمعونكم إِذْ تدعون أَو ينفعونكم
أَو يضرون قَالُوا بل وجدنَا آبَاءَنَا كَذَلِك يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم
مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب
الْعَالمين
أخرج عبد بن حميد
وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {فنظل لَهَا عاكفين}
قَالَ: عابدين {قَالَ
هَل يسمعونكم إِذْ تدعون} يَقُول: هَل تجيبكم آلِهَتكُم إِذا دعوتموهم
وَأخرج ابْن الْمُنْذر
عَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله {هَل يسمعونكم} قَالَ: هَل يسمعُونَ
أَصْوَاتكُم
===
الشعراء - تفسير
أضواء البيان
بسم الله الرحمن
الرحيم
سورة الشعراء
قوله تعالى:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَْ}
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، وفي آخر سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله
تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}
.
قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
.
أشار جلَّ وعلا في
هذه الآية الكريمة إلى أن كثرة ما أنبت في الأرض، {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ، أي؛
صنف حسن من أصناف النبات، فيه آية دالَّة على كمال قدرته.
وقد أوضحنا في مواضع
متعدّدة من هذا الكتاب المبارك أن إحياء الأرض بعد موتها، وإنبات النبات فيها بعد
عدمه من البراهن القاطعة على بعث الناس بعد الموت.
وقد أوضحنا دلالة
الآيات القرءانية على ذلك في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ، إلى قوله:
{وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} ، وفي أوّل
سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ
شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . قوته تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} .
قد قدّمنا الآيات الموضحة
له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ
جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} .
قوله تعالى: {قَالَ
رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ
لِسَانِي} .
(6/86)
________________________________________
قوله تعالى في هذه
الآية الكريمة عن نبيّه موسى عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام: {إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ} ، أي: بسبب أني قتلت منهم نفسًا، وفررت منهم لما خفت أن
يقتلوني بالقتيل الذي قتلته منهم، ويوضح هذا المعنى الترتيب بالفاء في قوله تعالى:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ؛ لأن
من يخاف القتل فهو يتوقع التكذيب، وقوله: {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} ، أي: من أجل
العقدة المذكورة في قوله تعالى عن موسى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي
* يَفْقَهُوا قَوْلِي}
، قدّمنا في الكلام على آية "طه" ، هذه بعض الآيات الدالَّة على ما
يتعلق بهذا المبحث.
قوله تعالى:
{فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَوَهَبْنَا لَهُ
مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} .
قوله تعالى عن نبيه
موسى : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .
لم يبيّن هنا هذا
الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه، وقد بيَّن في غير هذا الموضع
أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم الغبطي، فقد صرّح تعالى بالقتل المذكور في قوله
تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ} ، فقوله: {قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} مفسّر لقوله: {وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ} ، ولذا رتّب بالفاء على كل واحد منهما. قوله: {فَأَخَافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ} ، وقد أوضح تعالى قصّة قتل موسى له بقوله في "القصص" :
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ
مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقوله: {فَقَضَى عَلَيْهِ} ، أي: قتله، ولك هو الذنب
المذكور في آية "الشعراء" هذه.
وقد بيَّن تعالى أنه
غفر لنبيّه موسى ذلك الذنب المذكور، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} .
قوله تعالى: {قَالَ
كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} .
صيغة الجمع في قوله:
{إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، للتعظيم، وما ذكره جلَّ وعلا في
(6/87)
________________________________________
هذه الآية من ردّه
على موسى خوفه القتل من فرعون وقومه، بحرف الزجر الذي هو {كَلَّا} ، وأمره أن يذهب هو وأخوه بآياته مبيّنًا لهما أن اللَّه
معهم، أي: وهي معيّة خاصة بالنصر والتأييد، وأنه مستمع لكل ما يقول لهم فرعون، أوضحه
أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا
أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ
لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} .
قوله تعالى:
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
.
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "مريم" ، و "طه" ، وبيّنا في سورة
"طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا
رَسُولا رَبِّكَ} ، وجه تثنيته الرسول في "طه" ، وإفراده هنا في
"الشعراء" ، مع شواهده العربية.
قوله تعالى: {قَالَ
أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} .
تربية فرعون لموسى
هذه التي ذكرها له هي التي ذكر مبدؤها في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا
تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .
قوله تعالى في كلام
فرعون لموسى : {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ} .
أبهم جلَّ وعلا هذه
الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: {الَّتِي
فَعَلْتَ} ، وقد أوضحها في آيات أُخر، وبيَّن أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسًا
منهم؛ كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقوله تعالى: {قَالَ
رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} ، وقوله عن الإسرائيلي الذي استغاث بموسى
مرّتين: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً
بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا
تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} .
وأظهر الأقوال عندي
في معنى قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، أن المراد به كفر
(6/88)
________________________________________
النعمة، يعني أنعمنا
عليك بتربيتنا إياك صغيرًا، وإحساننا إليك تتقلب في نعمتنا فكفرت نعمتنا، وقابلت
إحساننا بالإساءة لقتلك نفسًا منّا، وباقي الأقوال تركناه؛ لأن هذا أظهرها عندنا.
وقال بعض أهل العلم:
ردّ موسى على فرعون امتنانه عليه بالتربية، بقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} ، يعني: تعبيدك لقومي، وإهانتك لهم لا
يعتبر معه إحسانك إليّ لأني رجل واحد منهم، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {قَالَ
فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} .
أي:
قال موسى مجيبًا لفرعون:
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً} ، أي: إذ فعلتها {وَأَنَا} في ذلك الحين {مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: قبل أن يوحي اللَّه إليّ،
ويبعثني رسولاً، وهذا هو التحقيق إن شاء اللَّه في معنى الآية.
وقول من قال من أهل
العلم: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: من الجاهلين، راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه
بالنسبة إلى ما علمه اللَّه من الوحي يعتبر قبله جاهلاً، أي: غير عالم بما أوحى
اللَّه إليه.
وقد بيَّنا مرارًا في
هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرءان، وفي اللغة العربية ثلاثة
إطلاقات:
الإطلاق الأوّل :
يطلق الضلال مرادًا به الذهاب عن حقيقة الشىء، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم
حقيقة شىء ضلّ عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شىء ما، وليس من الضلال في الدين.
ومن هذا المعنى قوله
هنا: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم،
والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي، لأني في ذلك الوقت لم يوحَ إليّ، ومنه
على التحقيق: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، أي: ذاهبًا عمّا علمك من العلوم التي
لا تدرك إلا بالوحي.
ومن هذا المعنى قوله
تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا
يَنْسَى} ، أي: لا يذهب عنه علم شىء كائنًا
(6/89)
________________________________________
ما كان، وقوله تعالى:
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى} ، فقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} ، أي: تذهب عن علم حقيقة
المشهود به بدليل قوله بعده: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب:
{إِنَّ أَبَانَا لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ} ،وقوله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ،
على التحقيق في ذلك كلّه. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
وتظنّ سلمى أنني أبغي
بها ... بدلاً أراها في الضلال تهيم
والإطلاق الثاني :
وهو المشهور في اللغة، وفي القرءان هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان
إلى الكفر، وعن طريق الحقّ إلى الباطل، وعن طريق الجنّة إلى النار، ومنه قوله
تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .
والإطلاق الثالث : هو
إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضلّ الشىء إذا غاب واضمحلّ،
ومنه قولهم: ضلّ السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحلّ، ولأجل هذا سمّت العرب
الدفن في القبر إضلالاً؛ لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحلّ.
ومن هذا المعنى قوله
تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، يعنون: إذا دفنوا وأكلتهم
الأرض، فضلوا فيها، أي: غابوا فيها واضمحلّوا.
ومن إطلاقهم الإضلال
على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارثبن أبي شمر الغساني:
فإن تحيي لا أملك
حياتي وأن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مضلّوه بعين جلية
... وغودر بالجولان حزم ونائل
وقول المخبل السعدي
يرثي قيس بن عاصم:
أضلّت بنو قيس بن سعد
عميدها ... وفارسها في الدهر قيس بن عاصم
فقول الذبياني: فآب
مضلّوه، يعني: فرجع دافنوه، وقول السعدي: أضلّت، أي: دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضًا
على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:
(6/90)
________________________________________
كنت القذى في موج
أكدر مزيد ... قذف الأتى به فضل ضلالا
وقول الآخر:
ألم تسأل فتخبرك
الديار ... عن الحي المضلل أين ساروا
وزعم بعض أهل العلم
أن للضلال إطلاقًا رابعًا، قال: ويطلق أيضًا على المحبّة، قال: ومنه قوله:
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ،
قال: أي في حبّك القديم ليوسف، قال: ومنه قول الشاعر:
هذا الضلال أشاب مني
المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحقّقا
عجبًا لعزة في اختيار
قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وزعم أيضًا أن منه
قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، قال: أي محبًّ للهداية فهداك، ولا يخفى سقوط
هذا القول، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى:
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} .
خوفه منهم هذا الذي
ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم، قد أوضحه تعالى وبيّن سببه في قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ *
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} ، وبيّن خوفه المذكور بقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ
خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} .
قوله تعالى:
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}
.
قد قدّمنا الآيات
الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة "مريم" ،وغيرها.
وقوله: {فَوَهَبَ لِي
رَبِّي حُكْماً} ، قال بعضهم: الحكم هنا هو النبوّة، وممن يروى عنه ذلك السدي.
والأظهر عندي: أن
الحكم هو العلم الذي علّمه اللَّه إيّاه بالوحي، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {قَالَ
فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
(6/91)
________________________________________
ظاهر هذه الآية
الكريمة أن فرعون لا يعلم شيئًا عن ربّ العالمين، وكذلك قوله تعالى عنه: {قَالَ
فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرِي} ، وقوله: {ئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
الْمَسْجُونِينَ} ، ولكن اللَّه جلَّ وعلا بيَّن أن سؤال فرعون في قوله: {وَمَا
رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، تجاهل عارف أنه
عبد مربوب لربّ العالمين، بقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ
هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ
يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقوله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ف} .
وقد أوضحنا هذا في
سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وفي سورة "طه" ، في الكلام على قوله
تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} .
قوله تعالى:
{قَالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ، إلى آخر القصّة.
قد قدّمنا إيضاحه
بالآيات القرءانية في سورة "طه" و "الأعراف" .
قوله تعالى: {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، ـ إلى
قوله - {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} .
قوله تعالى:
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}
.
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة "بني إسرائيل" ، في
الكلام على قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} ، وفي "الحجر"
، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
* لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}
.
(6/92)
________________________________________
قوله تعالى: {قَالُوا
وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * َاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ما دلّت عليه هذه
الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون، فيها جاء موضحًا في مواضع أُخر من كتاب
اللَّه تعالى؛ كقوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً
بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * َالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} ،
إلى قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}
.
وقد قدّمنا إيضاح هذا
بالآيات القرءانية في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى:
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ
رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ، وفي
سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}
. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في
أوّل سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
قوله تعالى: {فَمَا
لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} .
قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ، وفي سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى:
{هَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا } .
قوله تعالى :{فَلَوْ
أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
دلَّت هذه الآية
الكريمة على أمرين:
الأول منهما أن
الكفّار يوم القيامة، يتمنّون الردّ إلى الدنيا، لأن {لَوْ} في قوله هنا: {فَلَوْ
أَنَّ لَنَا} للتمنّي، والـ {كَرَّةً} هنا: الرجعة إلى الدنيا، وإنهم زعموا أنهم
إن ردّوا إلى الدنيا كانوا من المؤمنين المصدقين للرسل، فيما جاءت به، وهذان
الأمران قد قدّمنا الآيات الموضحة لكل واحد منهما.
أمّا تمنّيهم الرجوع
إلى الدنيا، فقد أوضحناه بالآيات القرءانية في سورة "الأعراف" ، في
الكلام على قوله تعالى: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}
. وأمّا زعمهم
(6/93)
________________________________________
أنهم إن ردّوا إلى
الدنيا آمنوا، فقد بيّنا الآيات الموضحة له في "الأعراف" ،
في الكلام على الآية المذكورة، وفي "الأنعام" ، في الكلام على قوله
تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ} .
قوله تعالى:
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ،.
قد قدّمنا الكلام
عليها في سورة "الحج" وفي غيرها، وتكلّمنا على قوله تعالى:
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، في قصّة
نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب. وبيَّنا الآيات الموضحة لذلك في سورة
"هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .
قوله تعالى: {قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} .
قد قدّمنا الكلام
عليه في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى عن قوم نوح:
{وَمَا نَرَاكَ
اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} .
قوله تعالى: {وَمَا
أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} .
قد قدّمنا ما يدلّ
عليه من القرءان في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح:
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي
أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ
طَرَدْتُهُمْ} .
وأوضحناه بالآيات القرءانيّة
في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، إلى قوله:
{فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،
وفي سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
.
قوله تعالى: {قَالَ
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
* ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} .
قوله تعالى هنا عن
نوح: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} ، أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً *
(6/94)
________________________________________
وَإِنِّي كُلَّمَا
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} ، وقوله هنا: {فَافْتَحْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} ، أي: احكم بيني وبينهم حكمًا، وهذا الحكم الذي
سأل ربّه إيّاه هو إهلاك الكفّار، وإنجاؤه هو ومن آمن معه، كما أوضحه تعالى في
آيات أُخر؛ كقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} ، وقوله
تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}
، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا عن نوح: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} ، قد بيَّن في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا؛ كقوله هنا:
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، وقوله تعالى:
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ،
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
* وَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله هنا: {ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى:
{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي
فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
و {الْمَشْحُونِ}
المملوء، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
شحنا أرضهم بالخيل
حتى ... تركناهم أذلّ من الصّراط
والفلك:
يطلق على الواحد
والجمع، فإن أطلق على الواحد جاز تذكيره؛ كقوله هنا: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
، وإن جمع أنّث، والمراد بالفلك هنا السفينة؛ كما صرّح تعالى بذلك في قوله:
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} .
قوله تعالى: {كَذَّبَ
أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} .
قال أكثر أهل العلم:
إن أصحاب الأيكة هم مدين. قال ابن كثير: "وهو الصحيح"،
وعليه فتكون هذه الآية بيّنتها الآيات الموضحة قصّة شعيب مع مدين، ومما استدلّ به
أهل هذا القول، أنّه قال هنا لأصحاب الأيكة: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا
مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، وهذا الكلام
ذكر اللَّه عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعدّدة؛ كقوله في "هود" :
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا
(6/95)
________________________________________
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ *
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ
اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدّمنا في سورة
"الأعراف" ، قولنا: فإن قيل الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر اللَّه جلَّ
وعلا في "الأعراف" أنه رجفة، وذكر في "هود" أنه صيحة، وذكر في
"الشعراء"
، أنه عذاب يوم الظلّة.
فالجواب ما قاله ابن
كثير رحمه اللَّه في تفسيره، قال: "وقد اجتمع عليهم ذلك كلّه، أصابهم عذاب
يوم الظلّة، وهي سحابة أظلّتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من
السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام،
انتهى. وعلى القول بأن شعيبًا أرسل إلى أُمّتين: مدين وأصحاب الأيكة، وأن مدين
ليسوا هم أصحاب الأيكة، فلا إشكال. وقد جاء ذلك في حديث ضعيف عن عبد اللَّه بن
عمرو، وممن روي عنه هذا القول: قتادة، وعكرمة وإسحاق بن بشر".
وقد قدّمنا بعض
الآيات الموضحة لهذا في سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، وأوضحنا هنالك أن نافعًا، وابن عامر، وابن
كثير قرأوا {لَيْكَةَ} في سورة "الشعراء" ، و سورة "ص?" ،
بلام مفتوحة أول الكلمة، وتاء مفتوحة آخرها من غير همز، ولا تعريف على أن اسم
للقرية غير منصرف، وأن الباقين قرأوا: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} بالتعريف والهمز
وكسر التاء، وأن الجميع اتّفقوا على ذلك في "ق" و "الحجر" ،
وأوضحنا هنالك توجيه القراءتين في "الشعراء" و "ص?" ، ومعنى
{الْأَيْكَةِ} في اللغة مع بعض الشواهد العربية.
قوله تعالى:
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}
{الْجِبِلَّةَ}
: الخلق، ومنه قوله
تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} ،
وقد استدلّ بآية "ي?س" ، المذكورة على آية "الشعراء" هذه ابن
زيد نقله عنه ابن كثير، ومن ذلك قول الشاعر:
والموت أعظم حادث ...
مما يمرّ على الجبلة
(6/96)
________________________________________
قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
أكَّد جلَّ وعلا في
هذه الآية الكريمة أن هذا القرءان العظيم تنزيل ربّ العالمين، وأنه نزل به الروح
الأمين الذي هو جبريل على قلب نبيّنا صلى اللَّه عليهما وسلم ليكون من المنذرين
به، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين، وما ذكره جلَّ وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع.
أمّا كون هذا القرءان تنزيل رب العالمين، فقد أوضحه جلّ وعلا في آيات من كتابه؛
كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى:
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ
قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {طه * مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى
* تَنْزِيلاً مِمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ،
وقوله: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآناً عَرَبِيّاً} ، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ
فَهُمْ غَافِلُونَ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ} ، بيّنه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقوله:
{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ،
أي: نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به، جاء مبيّنًا في آيات أُخر؛ كقوله
تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
لِتُنْذِرَ بِهِ} ، أي: أنزل إليك لتنذر به، وقوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ
فَهُمْ غَافِلُونَ} . وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ،
ذكره أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {لسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وقوله تعالى:
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} .
وقد بيَّنا معنى اللسان
العربي بشواهده في سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرءان
(6/97)
________________________________________
على قلبه صلى الله
عليه وسلم بالآيات القرءانية في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله
تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ} .
قوله تعالى: {وَلَوْ
نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ مُؤْمِنِينَ} .
قد قدَّمنا هذه الآية
الكريمة، مع ما يوضحها من الآيات في "النحل" ، في الكلام على قوله
تعالى: {ِلسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} .
واعلم أن كل صوت غير
عربيّ تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة:
فلم أرَ مثلي شاقه
صوت مثلها ولا عربيًّا شاقه صوت أعجما
قوله تعال: {كَذَلِكَ
سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .
قوله:
{سَلَكْنَاهُ} ، أي:
أدخلناه، كما قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانيّة والشواهد العربية في سورة
"هود" ، في الكلام على قوله تعالى :{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ، والضمير في {سَلَكْنَاهُ} ، قيل: للقرءان، وهو الأظهر. وقيل: للتكذيب والكفر،
المذكور في قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} ، وهؤلاء الكفار الذين ذكر
اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هم
الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وسبق في علم اللَّه أنهم أشقياء؛ كما يدلّ لذلك قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ *
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، وقد
أوضحنا شدّة تعنّت هؤلاء، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة "الفرقان" ،
وفي سورة "بني إسرائيل" وغيرهما. وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} نعت لمصدر محذوف، أي: كذلك السلك، أي: الإدخال،
{سَلَكْنَاهُ}
، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين، وإيضاحه على أنه القرءان: أن اللَّه أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه
لأنه بلغتهم، ودخلت معانيه في قلوبهم، ولكنهم لم يؤمنوا به؛ لأن كلمة العذاب حقّت
عليهم، وعلى أن الضمير في {سَلَكْنَاهُ} للكفر والتكذيب، فقوله عنهم:
{مَا كَانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ} ، يدلّ على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم، أي: كذلك السلك سكناه،
الخ.
(6/98)
________________________________________
قوله تعالى:
{فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} .
لفظة:
{هَلْ} هنا يراد بها
التمنّي، والآية تدلّ على أنهم تمنّوا التأخير والإنظار، أي: الإمهال، وقد دلّت
آيات أُخر على طلبهم ذلك صريحًا، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا؛ كقوله تعالى:
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ
الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}
، وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ
رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، وقوله تعالى: {مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}
، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى:
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "الرعد" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، وذكرنا طرفًا منه في سورة "يونس"
، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ
بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ
إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}
.
قوله تعالى:
{أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ
يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}
.
قد قدَّمنا إيضاحه في
سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}
.
قوله تعالى: {وَمَا
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} .
قد قدّمنا إيضاحه
بالآيات القرءانية في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
قوله تعالى: {ذِكْرَى
وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
قد قدّمنا الآيات
الدالّة عليه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً
وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
(6/99)
________________________________________
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ،إلى غير ذلك من الآيات. وقوله:
{ذِكْرِى} ، أعربه بعضهم مرفوعًا، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وأعربه
بعضهم منصوبًا، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه:
منها أنه ما ناب عن
المطلق، من قوله: {مُنذِرُونَ} ، لأن أنذر وذكر متقاربان.
ومنها أنه مفعول من
أجله، أي: منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة.
ومنها أنها حال من
الضمير في {مُنذِرُونَ} ، أي: ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة.
قوله تعالى:
{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا
فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا}
.
قوله تعالى: {فَلا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}
.
قد أوضحنا في سورة
"بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، بالدليل القرءاني أن النبيّ
صلى الله عليه وسلم يخاطب بمثل هذا الخطاب، والمراد التشريع لأُمّته مع بعض
الشواهد العربيّة، وقوله هنا: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية،
جاء معناه في آيات كثيرة؛ كقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ،
وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ
مَلُوماً مَدْحُوراً} ، وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
هذا الأمر في هذه
الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين، لا ينافي الأمر بالإنذار العام، كما
دلّت على ذلك الآيات القرءانية؛ كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيراً} ، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ
بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، وقوله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} ، والآيات
بمثل ذلك كثيرة.
(6/100)
________________________________________
قوله تعالى:
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في سورة "المائدة" ، في الكلام على قوله تعالى:
{فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وفي "الحجر" ، في الكلام على قوله
تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وقد وعدنا في سورة "بني
إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، بأنا نوضح معنى خفض الجناح،
وإضافته إلى الذل في سورة "الشعراء" ، في هذا الموضع، وهذا وفاؤنا بذلك
الوعد، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسمّاة: "منع جواز
المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز" .
فقد قلنا فيها، ما
نصّه: والجواب عن قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ، أن الجناح
هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يدّ الإنسان وعضده وإبطه.
قال تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ، والخفض مستعمل في
معناه الحقيقي، الذي هو ضدّ الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل
والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما،
والتواضع لهما؛ كما قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع،
ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر
وأنت الشهير بخفض
الجنا ... ح فلا تكُ في رفعه أجدلا
وأما إضافة الجناح
إلى الذلّ، فلا تستلزم المجاز كما يظنّه كثير؛ لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك:
حاتم الجود.
فيكون المعنى: واخفض
لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي
تمام من أنه لما قال:
لا تسقني ماء الملام
فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل فقال له: صب
لي في هذا الإناء شيئًا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني
(6/101)
________________________________________
بريشة من جناح الذل
صببت لك شيئًا من ماء الملام، فلا حجّة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذلّ
جناحًا، وإنما يراد بها خفض الجناح المتّصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية
ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود، ونظيره في القرءان الإضافة في
قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} ، و {عَذَابَ الْهُونِ} ، أي: مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه،
وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذلّ
مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح، أن خفض الجناح كني به عن ذلّ
الإنسان، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها
من أساليب اللغة العربية، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى:
{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ، وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} ، وأمثال ذلك كثيرة في القرءان، وفي كلام العرب.
وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدلّ عليه كلام السلف من المفسّرين.
وقال ابن القيّم في
"الصواعق" : "إن معنى إضافة الجناح إلى الذلّ أن للذلّ جناحًا
معنويًّا يناسبه لا جناح ريش، واللَّه تعالى أعلم"، انتهى. وفيه إيضاح معنى
خفض الجناح.
والتحقيق أن إضافة
الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كما أوضحنا، والعلم عند اللَّه تعالى.
وقال الزمخشري في "الكشاف" ، في تفسير قوله تعالى: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} ، "فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتّبعون
للرسول، فما قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
قلت: فيه وجهان، أن
يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، لمشارفتهم ذلك. وأن يريد بالمؤمنين المصدقين
بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتّبع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به،
وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين،
والمنافق والفاسق، لا يخفض لهما الجناح.
والمعنى:
المؤمنين من عشريتك
وغيرهم، أي: أنذر قومك فإن اتّبعوك وأطاعوك، فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم
يتّبعوك فتبرّأ منهم ومن أعمالهم من الشرك باللَّه وغيره"، انتهى منه.
(6/102)
________________________________________
والأظهر عندي في
قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في
القرءان العظيم؛ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} ،
ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ، ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم، وقوله تعالى:
{وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ، وقوله تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} .
قد قدّمنا في ترجمة
هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية
قولاً، وتكون في الآية قرينة، تدلّ على عدم صحته، وذكرنا أمثلة متعدّدة لذلك في
الترجمة، وفيما مضى من الكتاب.
وإذا علمت ذلك، فاعلم
أن قوله هنا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، قال فيه بعض أهل العلم المعنى:
وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين، أي: المؤمنين باللَّه كآدم ونوح، وإبراهيم،
وإسماعيل.
واستدلّ بعضهم لهذا
القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه، بقوله تعالى عن إبراهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً
فِي عَقِبِهِ} ، وممّن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي، وفي الآية
قرينة تدلّ على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالى قبله مقترنًا به: {الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعًا، وأوّل
الآية مرتبط بأخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك
ومجلسك، ويرى {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: المُصلِّين، على أظهر
الأقوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يتقلب في المصلّين قائمًا، وساجدًا وراكعًا،
وقال بعضهم: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: إلى الصلاة وحدك، و {الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: المصلّين إذا صلُّيت بالناس.
وقوله هنا: {الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، يدلّ على الاعتناء به صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}
.
(6/103)
________________________________________
وقوله:
{وَتَوَكَّلْ} قرأه
عامّة السبع غير نافع وابن عامر: {وَتَوَكَّلْ} بالواو، وقرأه نافع وابن عامر: {فَتَوَكَّلْ} بالفاء، وبعض نسخ المصحف
العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء، وقوله هنا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ} ، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الفاتحة"
، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وبسطنا
إيضاحه بالآيات القرءانية مع بيان معنى التوكّل في سورة "بني إسرائيل" ،
في الكلام على قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي
إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} .
قوله تعالى:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} .
{وَالشُّعَرَاءُ}
: جمع شاعر، كجاهل
وجهلاء، وعالم وعلماء. و {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} : جمع غاو وهو الضالّ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:
{يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} يدلّ على أن اتّباع الشعراء من اتِّباع الشيطان،
بدليل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْغَاوِينَ} ، وقرأ هذا الحرف نافع وحده: {يَتَّبِعُهُمُ}
بسكون التاء المثناة،
وفتح الباء الموحدة، وقرأه الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} بتشديد المثناة، وكسر الموحدة، ومعناهما واحد.
وما ذكره تعالى في
هذه الآية الكريمة، في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}
، يدلّ على تكذيب الكفار في دعواهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم
شاعر؛ لأن الذين يتبعهم الغاوون، لا يمكن أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم.
ويوضح هذا المعنى
ماجاء من الآيات، مبيّنًا أنهم ادّعوا عليه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر وتكذيب
اللَّه لهم في ذلك، أما دعواهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر، فقد ذكره تعالى في
قوله عنهم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}
، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ
مَجْنُونٍ} ، وقوله تعالى: {أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ} . وأمّا تكذيب اللَّه لهم في ذلك، فقد ذكره في قوله تعالى: {وَمَا
هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ} ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ
مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ؛ لأن
(6/104)
________________________________________
قوله تعالى: {بَلْ
جَاءَ بِالْحَقِّ} ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون.
مسألتان تتعلقان بهذه
الآية الكريمة
المسألة الأولى :
اعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: "لأن يمتلىء جوف رجل
قيحًا يريه خير له من أن يمتلىء شعرًا" ، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث
أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقوله في الحديث: "يريه" بفتح المثناة
التحتية وكسر الراء بعدها ياء، مضارع ورى القيح جوفه، يريه، وريا إذا أكله وأفسده،
والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد.
واعلم أن التحقيق لا
ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
ومن الأدلّة
القرءانيّة على ذلك أنه تعالى لمّا ذمّ الشعراء، بقوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا
الصالحات، في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} .
وبما ذكرنا تعلم أن
التحقيق أن الحديث الصحيح المصرّح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه
من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرءان،
وطاعة اللَّه تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمّن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن
النساء الأجنبيّات، ونحو ذلك.
المسألة الثانية :
اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدًا، هل يقام
عليه الحدّ؟ على قولين:
أحدهما : أنه يقام
عليه لأنه أقرّ به، والإقرار تثبت به الحدود.
والثاني : أنه لا يحد
بإقراره في الشعر؛ لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد، واقع لا نزاع فيه.
قال مقيّده -عفا
اللَّه عنه وغفر له- : أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقرّ في شعره بما يستوجب
الحدّ، لا يقام عليه الحدّ؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا صرّح هنا بكذبهم في شعرهم في
قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، فهذه الآية الكريمة تدرأ
عنهم الحدّ،
(6/105)
________________________________________
ولكن الأظهر أنه إن
أقرّ بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحدّ به، كما ذكره جماعة
من أهل الأخبار في قصّة عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه المشهورة مع النعمان بن عدي
بن نضلة.
قال ابن كثير رحمه
اللَّه في تفسير هذه الآية الكريمة: "وقد ذكر بن محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد
في "الطبقات"
، والزبير بن بكّار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللَّه
عنه استعمل النعمان بن عديّ بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر،
فقال:
ألا هل أتى الحسناء
أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين
قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني
فبالأكبر سقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعلّ أمير المؤمنين
يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغ ذلك عمر بن
الخطاب رضي اللَّه عنه، قال: "إي واللَّه إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره
أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، {حم* تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، أما بعد: فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين
يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
وايم اللَّه إنه
ليسوءني، وقد عزلتك. فلمّا قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال:
واللَّه يا أمير
المؤمنين ما شربتها قط، وما ذلك الشعر إلا شىء طفح على لساني، فقال عمر: أظنّ ذلك،
ولكن واللَّه لا تعمل لي عملاً أبدًا، وقد قلت ما قلت"، فلم يذكر أنه حدّه
على الشراب، وقد ضمّنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمّه عمر ولامه على
ذلك وعزله به"، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير، وهذه القصة يستأنس بها لما
ذكرنا.
وقد ذكر غير واحد من
المؤرخين أن سليمانبن عبد الملك، لما سمع قول الفرزدق:
فبتن بجانبي مصرعات
... وبتّ أفض أغلاق الختام
قال له: "قد وجب
عليك الحدّ"، فقال الفرزدق: "يا أمير المؤمنين? قد درأ اللَّه عني
(6/106)
________________________________________
الحدّ، بقوله:
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} "، فلم يحدّه مع إقراره بموجب
الحدّ.
قوله تعالى:
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} .
هذا الذي ذكره هنا عن
الشعراء من أنهم يقولون ما لا يفعلون، بيّن في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده
جلَّ وعلا، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ} ، والمقت في لغة العرب: البغض الشديد، فقول الإنسان ما لا يفعل، كما ذكر عن الشعر يبغضه
اللَّه، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى:
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً حَسَناً} ، مع شواهده العربية.
قوله تعالى:
{وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} .
أثنى اللَّه تعالى في
هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم اللَّه كثيرًا، وهذا
الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر اللَّه، أمر به في آيات أُخر، وبيَّن جزاءه؛
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً *
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
* الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْراً عَظِيماً} .
قوله تعالى:
{وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .
قد قدّمنا الآيات
الموضحة له؛ كقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ
النَّاسَ} ، في آخر سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} .
(6/107)
________________________________________
قوله تعالى:
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
.
المنقلب هنا المرجع
والمصير، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي، وقد تقرّر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على
ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول.
والمعنى:
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أيّ مرجع يرجعون، وأيّ مصير يصيرون، وما دلّت
عليه هذه الآية الكريمة، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون،
أي: يعلمون
العاقبة السيّئة التي هي مآلهم، ومصيرهم ومرجعهم، جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى:
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا
عَيْنَ الْيَقِينِ} ، وقوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ
سَبِيلاً} ، وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ
لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
وقوله: {أَيَّ
مُنْقَلَبٍ} ، ما ناب عن المطلق من قوله: {يَنْقَلِبُونَ} ، وليس مفعولاً به،
لقوله: {وَسَيَعْلَمُ} ، قال القرطبي: و {أَيُّ} منصوب {يَنْقَلِبُونَ}
، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبًا بـ {سَيَعْلَمُ} ، لأن أيًا وسائر
أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون، قال النحاس: وحقيقة
القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني
في بعض، انتهى منه. والعلم عند اللَّه تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق