إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
الأعراف - تفسير ابن كثير
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) }
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، [ولا تنصر] (1) ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم؛ ولهذا قال: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي: أتشركون (2) به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:73 ، 74] أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها، ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو أستَلبتهم (3) الذبابة شيئا من حَقير المطاعم (4) وطارت، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمن هذه صفته وحاله، كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: { لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي: بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل: { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * [ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ] (5) } [الصافات:95 ، 96]
ثم قال تعالى: { وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } أي: لعابديهم { وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } يعني: ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما كان الخليل، عليه الصلاة والسلام، يكسر أصنام قومه ويهينُها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله: { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } [الصافات:93] وقال تعالى: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء:58] وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما -وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيدًا في قومه -كان له صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعَذِرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: "انتصر". [ثم] (6) يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه مرة فقرنا معه جرو كلب ميت، ودلَّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:
تَالله لو كُنتَ إِلَها مُسْتَدن ... لم تَكُ والكَلْبُ جَمِيعًا في قَرنْ (7)
ثم أسلم فَحسُن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدًا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه.
وقوله: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ [ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ] } (8) يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها، كما قال إبراهيم: { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [مريم:42] ؟
ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها، أي: مخلوقات مثلهم، بل الأناسي أكمل منها، لأنها
__________
(1) زيادة من د، ك، م، أ.
(2) في م، أ: "أيشركون".
(3) في د: "سلبتهم".
(4) في د، م: "الطعام".
(5) زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(6) زيادة من د، م، أ.
(7) انظر: الرجز في السيرة النبوية لابن هشام (1/354).
(8) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك.
وقوله: { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ } (1) أي: استنصروا بها علي، فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم! { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } أي: الله حسبي وكافىّ، وهو نصيري وعليه متكلي، وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي. وهذا كما قال هود، عليه السلام، لما قال له قومه: { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُون * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود:54-56] وكقول الخليل [عليه السلام] (2) { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * [ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ] (3) } [الشعراء:75-80] الآيات، وكقوله لأبيه وقومه { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف:26-28]
وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } إلى آخر الآية، مؤكد لما تقدم، إلا أنه بصيغة الخطاب، وذلك بصيغة الغيبة؛ ولهذا قال: { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }
وقوله: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } كقوله تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (4) ] } [فاطر:14]
وقوله: { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } إنما قال: { يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } أي: يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة، وهي جماد؛ ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صور مصورة كالإنسان، [فقال] (5) { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } فعبر عنها بضمير من يعقل.
وقال السدي: المراد بهذا (6) المشركون وروي عن مجاهد نحوه. والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير، وقاله قتادة.
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { خُذِ الْعَفْوَ } يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه. وكان هذا قبل أن تنزل "براءة" بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت إليه الصدقات. قاله السدي.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { خُذِ الْعَفْوَ } أنفق الفضل. وقال سعيد (7) بن جبير عن ابن عباس: قال الفضل.
__________
(1) زيادة من د، ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ. وفي هـ: "الآية".
(5) زيادة من د، أ.
(6) في أ: "بها".
(7) في م: "حميد".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { خُذِ الْعَفْوَ } أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم. واختار هذا القول ابن جرير.
وقال غير واحد، عن مجاهد في قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ } قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس (1)
وقال هشام بن عُرْوة، عن أبيه: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وفي رواية قال: خذ ما عفي لك من أخلاقهم.
وفي صحيح البخاري، عن هشام، عن أبيه عروة، عن أخيه (2) عبد الله بن الزبير قال: إنما أنزل (3) { خُذِ الْعَفْوَ } من أخلاق الناس (4) وفي رواية لغيره: عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر. وفي رواية: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك (5) والله أعلم.
وفي رواية سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن ابن (6) الزبير: { خُذِ الْعَفْوَ } قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم. وهذا أشهر الأقوال، ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا: حدثنا يونس حدثنا سفيان -هو ابن عيينة -عن أمي قال: لما أنزل الله، عز وجل، على نبيه صلى الله عليهوسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا جبريل؟" قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.
وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا، عن أبي يزيد القراطيسي كتابة، عن أصْبَغ بن الفرج، عن سفيان، عن أُمَيّ عن الشعبي. نحوه، وهذا -على كل حال -مرسل، وقد روي له شاهد (7) من وجوه أخر، وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أسندهما ابن مردويه (8)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي، عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته، فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: "يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك".
وروى الترمذي نحوه، من طريق عبيد الله بن زَحْر (9) عن علي بن يزيد، به. وقال حسن (10)
قلت: ولكن "علي بن يزيد" وشيخه "القاسم أبو عبد الرحمن"، فيهما ضعف.
__________
(1) في د، ك، م: "تحسيس"، وفي أ: "تجسيس".
(2) في أ: "عن أبيه".
(3) في أ: "أنزل الله".
(4) صحيح البخاري برقم (4643 ، 4644).
(5) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/305): "وقال عبيد الله بن عمر، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر، أخرجه البزار والطبراني وهي شاذة، وكذا رواية حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عند ابن مردويه".
(6) في أ: "عن أبي".
(7) في ك، م: "شواهد".
(8) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/628).
(9) في م: "أحمد"، وفي أ: "نحر".
(10) المسند (4/148) وسنن الترمذي برقم (2406).
وقال البخاري قوله: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } "العرف": المعروف. حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر -وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته -كُهولا كانوا أو شبابا -فقال عيينة لابن أخيه: يابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر [رضي الله عنه] (1) فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وَقَّافًا عند كتاب الله، عز وجل. انفرد بإخراجه البخاري (2)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع؛ أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه، فقالوا: نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجُلْجُل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به. فسكت سالم وقال: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }
وقول البخاري: "العرف: المعروف" نص عليه عروة بن الزبير، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جرير، وغير واحد. وحكى ابن جرير أنه يقال: أوليته عرفًا، وعارفًا، وعارفة، كل ذلك بمعنى: "المعروف". قال: وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال: هذه أخلاق أمر الله [عز وجل] (3) بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ودله عليها.
وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى، فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:
خُذ العفو وأمر بعُرفٍ كَمَا ... أُمِرتَ وأعْرض عن الجَاهلينْ ...
وَلِنْ في الكَلام لكُلِّ الأنام ... فَمُسْتَحْسَن من ذَوِي الجاه لين ...
وقال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون:96-98]
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4642).
(3) زيادة من أ.
وقال تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا} أي هذه الوصية { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت:34-36] وقال في هذه السورة الكريمة أيضا: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فهذه الآيات الثلاث في "الأعراف" و "المؤمنون" و "حم السجدة" ، لا رابع لهن، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى؛ ولهذا قال: { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان، فإنه لا يكفه (1) عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.
قال ابن جرير في تفسير قوله: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ } وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين (2) ويحملك على مجازاتهم { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } يقول: فاستجر بالله من نزغه { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رب، كيف بالغضب؟" فأنزل الله: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (3)
قلت: وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقيل له، فقال: ما بي من جنون (4)
وأصل "النزغ": الفساد، إما بالغضب أو غيره، قال الله تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ } [الإسراء:53] و"العياذ": الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر، وأما "الملاذ" ففي طلب الخير، كما قال أبو الطيب [الحسن بن هانئ] (5) المتنبي:
يَا مَنْ ألوذُ به فيمَا أؤمِّلُه ... وَمَنْ أعوذُ به مما أحَاذرُه ...
لا يَجْبر الناس عَظمًا أنت كاسرُه ... ولا يَهِيضُون عَظمًا أنت جَابِره (6) ...
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
__________
(1) في ك، م: "لا يكفيه"، وفي أ: "لا يكفيك".
(2) في د، ك، م: "الجاهل".
(3) تفسير الطبري (13/333).
(4) انظر: الحديث وتخريجه في الكلام على الاستعاذة.
(5) زيادة من ك، م، أ.
(6) ديوان المتنبي (2/272).
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (11/275): "وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح لجناب الله سبحانه وتعالى.
وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم، رحمه الله، أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعوا الله بما تضمناه من الذل والخضوع".
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) }
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر، أنهم { إِذَا مَسَّهُمْ } أي: أصابهم "طيف" وقرأ آخرون: "طائف"، وقد جاء فيه حديث، وهما قراءتان مشهورتان، فقيل: بمعنى واحد. وقيل: بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب.
وقوله: { تَذَكَّرُوا } أي: عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب. { فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } أي: قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه.
وقد أورد (1) الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاءت امرأة إلى النبي (2) صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني. فقال: "إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك". فقالت: بل أصبر، ولا حساب علي.
ورواه غير واحد من أهل السنن، وعندهم: قالت (3) يا رسول الله، إني أصرع وأتكشف، فادع الله أن يشفيني. فقال (4) إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؟" فقالت: بل أصبر، ولي الجنة، ولكن (5) ادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها، فكانت لا تتكشف.
وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه (6)
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة "عمرو بن جامع" من تاريخه: أن شابًا كان يتعبد في المسجد، فهويته امرأة، فدعته إلى نفسها، وما (7) زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل، فذكر هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فخر مغشيًا عليه، ثم أفاق فأعادها، فمات. فجاء عمر فَعزَّى فيه أباه (8) وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه، ثم ناداه عمر فقال: يا فتى (9) { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن:46] وأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربي، عز وجل، في الجنة مرتين (10)
وقوله: { وَإِخْوَانِهِمْ } أ:ي وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } [الإسراء:27] وهم أتباعهم والمستمعون (11) لهم القابلون (12) لأوامرهم { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } أي: تساعدهم الشياطين على [فعل] (13) المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.
__________
(1) في ك: "روى".
(2) في أ: "رسول الله".
(3) في م، أ: "فقالت".
(4) في أ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) في أ: ولكن يا رسول الله".
(6) المستدرك (4/218).
(7) في د: "فما".
(8) في أ: "أهله".
(9) في د، ك، أ: "يا فلان".
(10) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/ 411 ، 412) "القسم المخطوط". ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (19/190، 191).
(11) في ك، م، أ: "المستمعين".
(12) في أ: "القائلون".
(13) زيادة من أ.
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وقال ابن كثير: المد: الزيادة. يعني: يزيدونهم في الغي، يعني: الجهل والسفه.
{ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قيل: معناه إن الشياطين تمد، والإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك . كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.
قيل: معناه كما رواه العوفي، عن ابن عباس في قوله: { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قال: هم الجن، يوحون إلى أوليائهم من الإنس { ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } يقول: لا يسأمون.
وكذا قال السُّدِّي وغيره: يعني إن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ولا تسأم من إمدادهم في الشر؛ لأن ذلك طبيعة لهم وسَجِيَّة، لا تفتر فيه ولا تبطل عنه، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم:83] قال ابن عباس وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول: لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها.
وقال ابن جرير (1) عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله [تعالى] (2) { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } قال: لولا اقتضيتها، قالوا: تخرجها عن نفسك. وكذا قال قتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (3) { لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول: تلقيتها من الله، عز وجل (4)
وقال الضحاك: { لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.
ومعنى قوله تعالى: { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } أي: معجزة، وخارق، كما قال تعالى: { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء:4] يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا تجهد نفسك في طلب الآيات [من الله] (5) حتى نراها ونؤمن بها، قال الله تعالى له: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي } أي: أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء، وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي، فإن بعث آية قبلتها، وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها؛ إلا أن يأذن لي في ذلك، فإنه حكيم عليم.
ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال: { هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
__________
(1) في د، أ: "جريج".
(2) زيادة من ك، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في د، ك، أ: "تعالى".
(5) زيادة من م.
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظامًا له واحترامًا، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون (1) في قولهم: { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ] (2) } [فصلت:26] ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما ورد الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (3) وكذلك رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة (4) وصححه مسلم بن الحجاج أيضا، ولم يخرجه في كتابه (5) وقال إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [ وَأَنْصِتُوا ] } (6) والآية الأخرى، أمروا بالإنصات (7)
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: سلام على فلان، وسلام على فلان، فجاء القرآن { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
وقال أيضا: حدثنا أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناسًا يقرءون مع الإمام، فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } كما أمركم (8) الله (9)
قال: وحدثني أبو السائب، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه، فنزلت: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }
وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث الزهري، عن أبي أُكَيْمضة الليثي، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟" قال رجل: نعم يا رسول الله. قال (10) إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟" قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات (11) حين سمعوا ذلك من
__________
(1) في أ: "المشركين".
(2) زيادة من د.
(3) صحيح مسلم برقم (404).
(4) رواه النسائي في السنن (12/141) ، وابن ماجة في السنن برقم (846).
(5) انظر الكلام على هذه الزيادة في: سورة الفاتحة.
(6) زيادة من م.
(7) رواه الطبري في تفسيره (13/345).
(8) في أ: "كما أمر".
(9) تفسير الطبري (13/346).
(10) في ك، م: "فقال".
(11) في د: "الصلاة"
رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه أبو حاتم الرازي.
وقال عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري قال: لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته، ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سرًا في أنفسهم، ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًا ولا علانية، فإن الله تعالى قال: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قلت: هذا مذهب طائفة من العلماء: أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها، وهو أحد قولي الشافعي، وهو القديم كمذهب مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة. وقال في الجديد: يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا الجهرية، لما ورد في الحديث: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعًا، وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان، عن جابر موقوفًا، وهذا أصح. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع (2) وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفًا على حدة (3) واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضا، والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } يعني: في الصلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد الله بن المغفل.
وقال ابن جرير: حدثنا حُمَيْد بن مَسْعَدة، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيزَ قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان، والقاص يقص، فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت (4) فنظرا إلي، وأقبلا (5) على حديثهما. قال: فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }
وقال سفيان الثوري، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: في الصلاة. وكذا رواه غير واحد عن مجاهد.
وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
__________
(1) المسند (2/301) وسنن أبي داود برقم (826) وسنن الترمذي برقم (312) وسنن النسائي (2/140) وسنن ابن ماجة برقم (848).
(2) انظر الكلام مبسوطا في: مقدمة سورة الفاتحة.
(3) سماه "جزء القراءة خلف الإمام" مطبوع في مؤسسة الرسالة ببيروت.
(4) في أ: "فأعدت الكلام".
(5) في أ: "ثم أقبلا".
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والشعبي، والسدي، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: أن المراد بذلك في الصلاة.
وقال شعبة، عن منصور، سمعت إبراهيم بن أبي حرة يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الآية: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة.
وكذا روى ابن جريج (1) عن عطاء، مثله.
وقال هُشَيْم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن قال: في الصلاة وعند الذكر.
وقال ابن المبارك، عن بَقِيَّة: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.
وهذا اختيار ابن جرير أن المراد بذلك [الإنصات في الصلاة وفي الخطبة؛ لما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات] (2) خلف الإمام وحال الخطبة.
وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا، قال: السكوت.
وقال مبارك بن فَضَالة، عن الحسن: إذا جلست إلى القرآن، فأنصت له.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن ميسرة، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة". تفرد به أحمد (3) رحمه الله.
{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) }
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق:39] وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وهذه الآية مكية.
وقال هاهنا بالغدو -وهو أوائل النهار: { وَالآصَالِ } جمع أصيل، كما أن الأيمان جمع يمين.
وأما قوله: { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } أي: اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة، وبالقول لا جهرًا؛ ولهذا
__________
(1) في د، أ: "ابن جرير".
(2) زيادة من م، أ.
(3) المسند (2/341) وفي إسناده عباد بن ميسرة وهو ضعيف.
قال: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء و[لا] (1) جهرًا بليغًا؛ ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة:186] (2)
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا؛ إن الذي تدعونه سميع قريب" (3)
وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } [الإسراء:110] فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه، وسبوا من أنزله، و[سبوا] (4) من جاء به؛ فأمره الله تعالى ألا يجهر به، لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، وليتخذ سبيلا بين الجهر والإسرار. وكذا قال في هذه الآية الكريمة: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ }
وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله: أن المراد بهذه الآية: أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به، ثم المراد بذلك في الصلاة، كما تقدم، أو الصلاة والخطبة، ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرًا أو جهرًا، فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين؛ ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ] } (5) وإنما ذكرهم بهذا ليتشبه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم؛ ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله، عز وجل، كما جاء في الحديث: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، يتمون الصفوف الأوَل، ويتَراصُّون في الصف" (6)
وهذه أول سجدة في القرآن، مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع. وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن (7)
آخر [تفسير] (8) سورة الأعراف، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه الطبري في تفسيره (3/480) من طريق عبدة السجستاني، عن الصلت بن حكيم، عن أبيه، عن جده فذكره، وقد سبق الكلام عليه عند الآية: 186 من سورة البقرة.
(3) صحيح البخاري برقم (4205) وصحيح مسلم برقم (2704).
(4) زيادة من د.
(5) زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (430) من حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنه.
(7) سنن ابن ماجة برقم (1056).
(8) زيادة من ك، م.
الأعراف - تفسير القرطبي
الآية: 196 {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}
قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} أي الذي يتولى نصري وحفظي الله. وولي الشيء: الذي يحفظه ويمنع عنه الضرر. والكتاب: القرآن. {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} أي يحفظهم. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير مرة يقول: "ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين" . وقال الأخفش: وقرئ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} يعني جبريل. النحاس. هي قراءة عاصم الجحدي. والقراءة الأولى أبين؛ لقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}.
الآيتان: 197 - 198 {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} كرره ليبين أن ما يعبدونه لا ينفع ولا يضر. {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى} شرط، والجواب {لا يَسْمَعُوا}. {وَتَرَاهُمْ} مستأنف. {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} في موضع الحال. يعني الأصنام. ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه؛ وتراهم كالناظرين إليك. وخبر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر؛ لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. وقيل: كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ} وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم.
الآية: 199 {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
فيه ثلاث مسائل:-
الأولى: هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. قال جابر بن سليم أبو جري: ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر؛ فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: "وعليك السلام" . فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: "آدن" ثلاثا، فدنوت فقال: "أعد علي" فأعدت عليه فقال: "اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى". قال أبو جري: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" . وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا جبريل"؟ فقال: "لا أدري حتى أسأل العالم" في رواية "لا أدري حتى أسأل ربي" فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: "إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك" . فنظمه بعض الشعراء فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاثة ... ممن كملت فيه فذلك الفتى
إعطاء من تحرمه ووصل من ... تقطعه والعفو عمن اعتدى
وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" . وقال الشاعر:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باقي
ولو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
وقال سهل بن عبدالله: كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له: بأي شيء أوصاك ؟ قال: بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة.
قلت: وقد روي عن نبينا محمد أنه قال،: "أمرني ربي بتسع الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة". وقيل: المراد بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} أي الزكاة؛ لأنها يسير من كثير. وفيه بعد؛ لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر؛ تقول: أخذت حقي عفوا صفوا، أي سهلا.
الثانية: قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر {العُرُف} بضمتين؛ مثل الحلم؛ وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عطاء: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} يعني بلا إله إلا الله.
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم؛ صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن
كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة: هي محكمة؛ وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه؛ فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل ! قال: فغضب عمر حتى هم بأن يقع به. فقال الحر؛ يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل. قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها محكمة لا. منسوخة. وكذلك استعملها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ على ما يأتي بيانه. وإذا كان الجفاء على السلطان تعمدا واستخفافا بحقه فله تعزيره. وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصفح والعفو؛ كما فعل الخليفة العدل.
الآية: 200 {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فيه مسألتان:-
الأولى: لما نزل قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} قال عليه السلام: "كيف يا رب والغضب" فنزلت: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} ونزغ الشيطان: وساوسه. وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز، وهم المورشون. الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن
الشيطان أدنى وسوسة. قال سعيد بن المسيب: شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا، ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه. ومعنى {يَنْزَغَنَّكَ} : يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي اطلب النجاة من ذلك بالله. فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به؛ ولله المثل الأعلى. فلا يستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب. وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك.
الثانية: النغز والنزغ والهمز والوسوسة سواء؛ قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97] وقال: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4]. وأصل النزغ الفساد؛ يقال: نزغ بيننا؛ أي أفسد. ومنه قوله: {نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] أي أفسد. وقيل: النزغ الإغواء والإغراء؛ والمعنى متقارب.
قلت: ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته" . وفيه عن عبدالله قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: "تلك محض الإيمان" . وفي حديث أبي هريرة: "ذلك صريح الإيمان" والصريح الخالص. وهذا ليس على ظاهره؛ إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم. فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه؛ لصحة إيمانكم، وعلمكم بفسادها. فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها
والجزع منها صادرا عن الإيمان. وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان. وأما الأمر بالانتهاء فعن الركون إليها والالتفات نحوها. فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به. وأما من خالجته الشبهة وغلب عليه الحس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بد من مشافهته بالدليل العقلي؛ كما قال صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" . وقال أعرابي: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول" فاستأصل الشبهة من أصلها. فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات. والوساوس: الترهات؛ فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاؤوا - كما في الصحيح - فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أو قد وجدتموه"؟ قالوا: نعم. قال: "ذلك صريح الإيمان رغما للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها؛ وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة. والله أعلم.
الآيتان: 201 - 202 {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} يريد الشرك والمعاصي. {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة. وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة {طَائِفٌ}. وروي عن سعيد بن جبير {طَيْفٌ} بتشديد الياء. قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا {طَيْفٌ} بالتخفيف؛ على أنه مصدر من طاف يطيف. قال الكسائي:
هو مخفف من {طَيِّف} مثل ميت وميت. قال النحاس: ومعنى {طَيْف} في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم؛ وكذا معنى طائف. وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن طيف؛ فقال: ليس في المصادر فيعل. قال النحاس: ليس هو بمصدر، ولكن يكون بمعنى طائف. والمعنى إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية؛ وقيل: الطيف والطائف معنيان مختلفان فالأول: التخيل. والثاني: الشيطان نفسه. فالأول مصدر طاف الخيال يطوف طيفا؛ ولم يقولوا من هذا طائف في اسم الفاعل. قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له. فأما قوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] فلا يقال فيه: طيف؛ لأنه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل. قال الزجاج: طفت عليهم أطوف، وطاف الخيال يطيف. وقال حسان:
فدع هذا ولكن من لطيف
يؤرقني إذا ذهب العشاء
مجاهد: الطيف الغضب. ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا؛ لأنه لمة من الشيطان تشبه بلمة الخيال. {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} أي منتهون. وقيل: فإذا هم على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير: {تَذَكَّرُوا} بتشديد الذال. ولا وجه له في العربية؛ ذكره النحاس.
الثانية: قال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام، فأعجبني سمته وحسن روائه؛ فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض؛ فقلت: أنت ابن أبي طالب! قال نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه؛ فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فقرأ إلى قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} ثم قال لي: خفض عليك، استغفر الله لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك،
ولو استرشدتنا أرشدناك. فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] أمن أهل الشأم أنت؟ قلت نعم. فقال:
شنشنة أعرفها من أخزم
حياك الله وبياك، وعافاك، وآداك؛ انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء الله. قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي؛ ثم تسللت منه لواذا، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه.
قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} قيل: المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين في الغي. وقيل للفجار إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقد سبق في هذه الآية ذكر الشيطان. هذا أحسن ما قيل فيه؛ وهو قول قتادة والحسن والضحاك. ومعنى {لا يُقْصِرُونَ} أي لا يتوبون ولا يرجعون. وقال الزجاج: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي؛ لأن الكفار إخوان الشياطين. ومعنى الآية: إن المؤمن إذا مسه طيف من الشيطان تنبه عن قرب؛ فأما المشركون فيمدهم الشيطان. و{لا يُقْصِرُونَ} قيل: يرجع إلى الكفار على القولين جميعا. وقيل: يجوز أن يرجع إلى الشيطان. قال قتادة: المعنى ثم لا يقصرون عنهم ولا يرحمونهم. والإقصار: الانتهاء عن الشيء، أي لا تقصر الشياطين في مدهم الكفار بالغي. وقوله: {فِي الْغَيِّ} يجوز أن يكون متصلا بقوله:
{يَمُدُّونَهُمْ} ويجوز أن يكون متصلا بالإخوان. والغي: الجهل. وقرأ نافع {يُمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم. والباقون بفتح الياء وضم الميم. وهما لغتان مد وأمد. ومد أكثر، بغير الألف؛ قاله مكي. النحاس: وجماعة من أهل العربية ينكرون قراءة أهل المدينة؛ منهم أبو حاتم وأبو عبيد، قال أبو حاتم: لا أعرف لها وجها، إلا أن يكون المعنى يزيدونهم في الغي. وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مده، وإذا كثره بغيره قيل أمده؛ نحو {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]. وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتج لقراءة أهل المدينة قال: يقال مددت له في كذا أي زينته له واستدعيته أن يفعله. وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. قال مكي: والاختيار الفتح؛ لأنه يقال: مددت في الشر، وأمددت في الخير؛ قال الله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]. فهذا يدل على قوة الفتح في هذا الحرف؛ لأنه في الشر، والغي هو الشر، ولأن الجماعة عليه. وقرأ عاصم الجحدي {يُمَاُّدونهُمْ فِي الْغَيِّ} . وقرأ عيسى بن عمر {يَقْصُرُونَ} بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف. الباقون {يُقْصِرُونَ} بضمه، وهما لغتان. قال امرؤ القيس:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
الآية: 203 {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} أي تقرؤها عليهم. {قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} لولا بمعنى هلا، ولا يليها على هذا المعنى إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا. ومعنى {اجْتَبَيْتَهَا} اختلقتها من نفسك. فأعلمهم أن الآيات من قبل الله
عز وجل، وأنه لا يقرأ عليهم إلا ما أنزل عليه. يقال: اجتبيت الكلام أي ارتجلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك. {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} أي من عند الله لا من عند نفسي. {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني القرآن، جمع بصيرة، هي الدلالة والعبرة. أي هذا الذي دللتكم به على أن الله عز وجل واحد. بصائر، أي يستبصر بها. وقال الزجاج: {بَصَائِرُ}أي طرق. والبصائر طرق الدين. قال الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
{وَهُدىً} رشد وبيان. {وَرَحْمَةٌ} أي ونعمة.
الآية: 204 {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قيل: إن هذا نزل في الصلاة، روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيدالله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ فيقول بعضهم لبعض بمكة: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]. فأنزل الله جل وعز جوابا لهم {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . وقيل: إنها نزلت في الخطبة؛ قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبدالله بن المبارك. وهذا ضعيف؛ لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها؛ قاله ابن العربي. النقاش: والآية مكية، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة. وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أيضا أن هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام فهو عام. وهو الصحيح
لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات. قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء. وقال الزجاج: يجوز أن يكون {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. والإنصات: السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة. انصت ينصت إنصاتا؛ ونصت أيضا؛ قال الشاعر:
قال الإمام عليكم أمر سيدكم ... فلم نخالف وأنصتنا كما قالا
ويقال: أنصتوه وأنصتوا له؛ قال الشاعر:
إذا قالت حذام فأنصتوها ... فإن القول ما قالت حذام
وقال بعضهم في قوله {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} : كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصا ليعيه عنه أصحابه.
قلت: هذا فيه بعد، والصحيح القول بالعموم؛ لقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والتخصيص يحتاج إلى دليل. وقال عبدالجبار بن أحمد في فوائد القرآن له: إن المشركين كانوا يكثرون اللغط والشغب تعنتا وعنادا؛ على ما حكاه الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فأمر الله المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجن على ذلك فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] الآية. وقال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه؛ إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة. فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث؛ فنزل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . فأنصتوا. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم، كم بقي؛ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا}. وعن مجاهد هذا أيضا: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم؛ فنزل قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وقد مضى في الفاتحة الاختلاف في قراءة المأموم خلف الإمام. ويأتي في "الجمعة" حكم الخطبة، إن شاء الله تعالى.
الآية: 205 {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} نظيره {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقد تقدم. قال أبو جعفر النحاس: ولم يختلف في معنى "واذكر ربك في نفسك" أنه في الدعاء.
قلت: قد روي عن ابن عباس أنه يعني بالذكر القراءة في الصلاة. وقيل: المعنى اقرأ القرآن بتأمل وتدبر. {تَضَرُّعاً}مصدر، وقد يكون في موضع الحال. {وَخِيفَةً} معطوف عليه. وجمع خيفة خوف؛ لأنه بمعنى الخوف؛ ذكره النحاس. وأصل خيفة خوفة، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. خاف الرجل يخاف خوفا وخيفة ومخافة، فهو خائف، وقوم خوف على الأصل، وخيف على اللفظ. وحكى الفراء أنه يقال أيضا في جمع خيفة خيف. قال الجوهري: والجيفة الخوف، والجمع خيف، وأصله الواو. {وَدُونَ الْجَهْرِ} أي دون الرفع في القول. أي أسمع نفسك؛ كما قال: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110] أي بين الجهر والمخافتة. ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر ممنوع؛ على ما تقدم في غير موضع .{بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} قال قتادة وابن زيد: الآصال العشيات. والغدو جمع غدوة. وقرأ أبو مجلز {بِالْغُدُوّ وَالْإِيصالِ} وهو مصدر آصلنا، أي دخلنا في العشي. والآصال جمع أصل؛ مثل طنب وأطناب؛ فهو جمع الجمع، والواحد أصيل، جميع على أصل؛ عن الزجاج.
الأخفش: الآصال جمع أصيل؛ مثل يمين وأيمان. الفراء: أصل جمع أصيل، وقد يكون أصل واحدا، كما قال الشاعر:
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
الجوهري: الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أصل وآصال وأصائل؛ كأنه جمع أصيلة؛ قال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
ويجمع أيضا على أصلان؛ مثل بعير وبعران؛ ثم صغروا الجمع فقالوا أصيلان، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا أصيلال؛ ومنه قول النابغة:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد
وحكى اللحياني: لقيته أصيلالا. {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أي عن الذكر.
الآية: 206 {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}
فيه ثمان مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يعني الملائكة بإجماع. وقال: {عِنْدَ رَبِّكَ} والله تعالى بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده؛ عن الزجاج. وقال غيره لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله. وقيل: لأنهم رسل الله؛ كما يقال: عند الخليفة جيش كثير. وقيل: هذا على جهة التشريف لهم، وأنهم بالمكان المكرم؛ فهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة. {وَيُسَبِّحُونَهُ} أي ويعظمونه وينزهونه عن كل سوء. {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} قيل: يصلون. وقيل: يذلون، خلاف أهل المعاصي.
الثانية: والجمهور من العلماء في أن هذا موضع سجود للقارئ. وقد اختلفوا في عدد سجود القرآن؛ فأقصى ما قيل: خمس عشرة. أولها خاتمة الأعراف، وآخرها خاتمة العلق. وهو قول ابن حبيب وابن وهب - في رواية - وإسحاق. ومن العلماء من زاد سجدة الحجر قوله تعالى: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فعلى هذا تكون ست عشرة. وقيل: أربع عشرة؛ قاله ابن وهب في الرواية الأخرى عنه. فأسقط ثانية الحج. وهو قول أصحاب الرأي والصحيح سقوطها؛ لأن الحديث لم يصح بثبوتها. ورواه ابن ماجة وأبو داود في سننهما عن عبدالله بن منين من بني عبد كلال عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن؛ منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. وعبدالله بن منين لا يحتج به؛ قاله أبو محمد عبدالحق. وذكر أبو داود أيضا من حديث عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، أفي سورة الحج سجدتان؟. قال: "نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" . في إسناده عبدالله بن لهيعة، وهو ضعيف جد. وأثبتهما الشافعي وأسقط سجدة ص. وقيل: إحدى عشرة سجدة، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل. وهو مشهور مذهب مالك. وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة والفرقان وسليمان سورة النمل والسجدة وص وسجدة الحواميم. وقيل: عشر، وأسقط آخرة الحج وص وثلاث المفصل؛ ذكر عن ابن عباس. وقيل: إنها أربع، سجدة آلم تنزيل وحم تنزيل والنجم والعلق. وسبب الخلاف اختلاف النقل في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأم المجرد بالسجود في القرآن، هل المراد به سجود التلاوة أو سجود الفرض في الصلاة؟
الثالثة: واختلفوا في وجوب سجود التلاوة؛ فقال مالك والشافعي: ليس بواجب. وقال أبو حنيفة: هو واجب. وتعلق بأن مطلق الأمر بالسجود على الوجوب، وبقوله عليه السلام: "إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله". وفي رواية
أبي كريب "يا ويلي"، وبقوله عليه السلام إخبارا عن إبليس لعنه الله: "أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". أخرجه مسلم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه. وعول علماؤنا على حديث عمر الثابت - خرجه البخاري - أنه قرأ آية سجدة على المنبر فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال: "أيها الناس على رسلكم! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء". وذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من الأنصار والمهاجرين. فلم ينكر عليه أحد فثبت الإجماع به في ذلك. وأما قوله: "أمر ابن آدم بالسجود" فإخبار عن السجود الواجب. ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الاستحباب! والله أعلم.
الرابعة: ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجس ونية واستقبال قبلة ووقت. إلا ما ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة. وذكره ابن المنذر عن الشعبي. وعلى قول الجمهور هل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده وتكبير وتسليم؟ اختلفوا في ذلك؛ فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع للتكبير لها. وقد روي في الأثر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبر، وكذلك إذا رفع كبر. ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة. واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة؛ وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء، ولا سلام لها عند الجمهور. وذهب جماعة من السلف وإسحاق إلى أنه يسلم منها. وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير في أولها للإحرام. وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب. والأول أولى؛ لقوله عليه السلام: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى، لأنها فعل وصلاة الجنازة قول. وهذا اختيار ابن العربي.
الخامسة: وأما وقته فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا؛ لأنها صلاة لسبب. وهو قول الشافعي وجماعة. وقيل: ما لم يسفر الصبح، أو ما لم تصفر الشمس بعد العصر.
وقيل: لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر. وقيل: يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر. وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا. وسبب الخلاف معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والله أعلم.
السادسة: فإذا سجد يقول في سجوده: ا للهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا . رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره ابن ماجة.
السابعة: فإن قرأها في صلاة، فإن كان في نافلة سجد إن كان منفردا أو في جماعة وأمن التخليط فيها. وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها فالمنصوص جوازه. وقيل: لا يسجد. وأما في الفريضة فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها، سواء كانت صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى. وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة. وقيل: معلل بخوف التخليط على الجماعة؛ وهذا أشبه. وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط.
الثامنة: روى البخاري عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1] فسجد؛ فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. انفرد بإخراجه. وفيه: "وقيل لعمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها؟ قال: أرأيت لو قعد لها! كأنه لا يوجبه عليه. وقال سلمان: ما لهذا غدونا. وقال عثمان: إنما السجدة على من استمعها. وقال الزهري: لا يسجد إلا أن يكون طاهرا، فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، فإن كنت راكبا فلا عليك، حيث كان وجهك. وكان السائب لا يسجد لسجود القاص" والله أعلم.
الأعراف - تفسير الدر المنثور
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
- أخرج أَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: يجاء بالشمس وَالْقَمَر حَتَّى يلقيان بَين يَدي الله ويجاء بِمن كَانَ يعبدهما فَيُقَال {فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين}
- الْآيَة (198)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
- أخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ فِي قَوْله {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك} قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون} مَا تدعوهم إِلَيْهِ من الْهدى
- الْآيَة (199)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
- أخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن أبي شيبَة وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والنحاس فِي ناسخه وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: مَا نزلت هَذِه الْآيَة إِلَّا فِي أَخْلَاق النَّاس {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} وَفِي لفظ: أَمر الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن يَأْخُذ الْعَفو من أَخْلَاق النَّاس
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن عمر فِي قَوْله تَعَالَى {خُذ الْعَفو} قَالَ: أَمر الله نبيه أَن يَأْخُذ الْعَفو من أَخْلَاق النَّاس
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم قَالَ: لما أنزل الله {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن آخذ الْعَفو من أَخْلَاق النَّاس
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن الشّعبِيّ قَالَ: لما أنزل الله {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أسأَل الْعَالم
فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِن الله أَمرك أَن تَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتُعْطِي من حَرمك وَتصل من قَطعك
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن جَابر قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا جِبْرِيل مَا تَأْوِيل هَذِه الْآيَة قَالَ: حَتَّى أسأَل
فَصَعدَ ثمَّ نزل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد إِن الله يَأْمُرك أَن تصفح عَمَّن ظلمك وَتُعْطِي من حَرمك وَتصل من قَطعك
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا ادلكم على أشرف أَخْلَاق الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالُوا: وَمَا ذَاك يَا رَسُول الله قَالَ: تَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتُعْطِي من حَرمك وَتصل من قَطعك
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن قيس بن سعد بن عبَادَة قَالَ: لما نظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى حَمْزَة بن عبد الْمطلب قَالَ وَالله لَأُمَثِّلَن بسبعين مِنْهُم
فَجَاءَهُ جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} فَقَالَ: يَا جِبْرِيل مَا هَذَا قَالَ: لَا أَدْرِي
ثمَّ عَاد فَقَالَ: إِن الله يَأْمُرك أَن تَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتصل من قَطعك وَتُعْطِي من حَرمك
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَائِشَة فِي قَول الله {خُذ الْعَفو} قَالَ: مَا عفى لَك من مَكَارِم الْأَخْلَاق
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {خُذ الْعَفو} من أَخْلَاق النَّاس وأعمالهم بِغَيْر تجسيس {وَأمر بِالْعرْفِ} قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ
وَأخرج البُخَارِيّ وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قدم عُيينة بن حصن بن بدر فَنزل على ابْن أَخِيه الْحر بن قيس - وَكَانَ من النَّفر الَّذين يدنيهم عمر وَكَانَ الْقُرَّاء أَصْحَاب مجَالِس عمر ومشاورته كهولا كَانُوا أَو شبَابًا - فَقَالَ عُيَيْنَة لِابْنِ أَخِيه: يَا ابْن أخي هَل لَك وَجه عِنْد هَذَا الْأَمِير فَاسْتَأْذن لي عَلَيْهِ قَالَ: سأستأذن لَك عَلَيْهِ
قَالَ ابْن عَبَّاس: فَاسْتَأْذن الْحر لعُيينة فَأذن لَهُ عمر فَلَمَّا دخل قَالَ: هِيَ يَا ابْن الْخطاب فو الله مَا تُعْطِينَا الجزل وَلَا تحكم بَيْننَا بِالْعَدْلِ فَغَضب عمر حَتَّى همَّ أَن يُوقع بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله عز وَجل قَالَ لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} وَإِن هَذَا من الْجَاهِلين وَالله مَا جاوزنا عمر حِين تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وقافا عِنْد كتاب الله عز وَجل
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن وهب عَن مَالك بن أنس عَن عبد الله بن نَافِع
أَن سَالم بن عبد الله مر على عير لأهل الشَّام وفيهَا جرس فَقَالَ: إِن هَذَا ينْهَى عَنهُ فَقَالُوا: نَحن أعلم بِهَذَا مِنْك إِنَّمَا يكره الجلجل الْكَبِير وَأما مثل هَذَا فَلَا بَأْس بِهِ فَبكى سَالم وَقَالَ {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن قَتَادَة فِي قَوْله {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} قَالَ: خلق أَمر الله بِهِ نبيه ودله عَلَيْهِ
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن عَليّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا أدلك على خير أَخْلَاق الأوّلين والآخرين قَالَ: قلت يَا رَسُول الله نعم
قَالَ: تُعْطِي من حَرمك وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتصل من قَطعك
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن عقبَة بن عَامر قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا أخْبرك بِأَفْضَل أَخْلَاق أهل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة تصل من قَطعك وَتُعْطِي من حَرمك وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صل من قَطعك واعف عَمَّن ظلمك
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صل من قَطعك واعف عَمَّن ظلمك
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَلا أدلكم على كرائم الْأَخْلَاق للدنيا وَالْآخِرَة أَن تصل من قَطعك وَتُعْطِي من حَرمك وَتجَاوز عَمَّن ظلمك
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا أدلكم على مَكَارِم الْأَخْلَاق فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله
قَالَ: صل من قَطعك واعط من حَرمك واعف عَمَّن ظلمك
وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن معمر عَن أبي إِسْحَق الْهَمدَانِي عَن ابْن أبي حُسَيْن قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا أدلكم على خير أَخْلَاق أهل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَن تصل من قَطعك وَتُعْطِي من حَرمك وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل حسن
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لن ينَال عبد صَرِيح الإِيمان حَتَّى يصل من قطعه وَيَعْفُو عَمَّن ظلمه وَيغْفر لمن شَتمه وَيحسن إِلَى من أَسَاءَ إِلَيْهِ
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن مَكَارِم الْأَخْلَاق عِنْد الله أَن تَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتصل من قَطعك وَتُعْطِي من حَرمك ثمَّ تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين}
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رَضِي الله بِالْعَفو وَأمر بِهِ
وَأخرج أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ عَن معَاذ بن أنس عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أفضل الْفَضَائِل أَن تصل من قَطعك وَتُعْطِي من حَرمك وتصفح عَمَّن شتمك
وَأخرج السلَفِي فِي الطيوريات عَن نَافِع أَن ابْن عمر
كَانَ إِذا سَافر أخرج مَعَه سَفِيها يرد عَنهُ سفاهة السُّفَهَاء
وَأخرج ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن ابْن شَوْذَب قَالَ: كُنَّا عِنْد مَكْحُول ومعنا سُلَيْمَان بن مُوسَى فجَاء رجل واستطال على سُلَيْمَان وَسليمَان سَاكِت فجَاء أَخ لِسُلَيْمَان فَرد عَلَيْهِ فَقَالَ مَكْحُول: لقد ذل من لَا سَفِيه لَهُ
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {خُذ الْعَفو} قَالَ: خُذ مَا عُفيَ لَك من أَمْوَالهم مَا أتوك بِهِ من شَيْء فَخذه وَكَانَ هَذَا قبل أَن تنزل بَرَاءَة بفرائض الصَّدقَات وتفصيلها
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {خُذ الْعَفو} قَالَ: خُذ الْفضل أنْفق الْفضل {وَأمر بِالْعرْفِ} يَقُول بِالْمَعْرُوفِ
وَأخرج الطستي فِي مسَائِله عَن ابْن عَبَّاس إِن نَافِع بن الأرزق قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي {خُذ الْعَفو} قَالَ: خُذ الْفضل من أَمْوَالهم أَمر الله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْخُذ لَك
قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم أما سَمِعت عبيد بن الأبرص وَهُوَ يَقُول: يعْفُو عَن الْجَهْل والسوآت كَمَا يدْرك غيث الرّبيع ذُو الطَّرْد وَأخرج ابْن جرير والنحاس فِي ناسخه عَن السّديّ فِي قَوْله {خُذ الْعَفو} قَالَ: الْفضل من المَال نسخته الزَّكَاة
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة {خُذ الْعَفو} فَكَانَ الرجل يمسك من مَاله مَا يَكْفِيهِ وَيتَصَدَّق بِالْفَضْلِ فنسخها الله بِالزَّكَاةِ {وَأمر بِالْعرْفِ} قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة قبل أَن تفرض الصَّلَاة وَالزَّكَاة والقتال أمره الله بالكف ثمَّ نسخهَا الْقِتَال وَأنزل {أُذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} الْحَج الْآيَة 39 الْآيَة
- الْآيَة (200)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
- أخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد قَالَ: لما نزلت {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} الْأَعْرَاف الْآيَة 199 قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يَا رب وَالْغَضَب فَنزل {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} الْآيَة
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} قَالَ: علم الله أَن هَذَا الْعَدو مبتغ ومريد
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان من همزه ونفثه ونفخه
قَالَ: همزه الموتة ونفثه الشّعْر: ونفخه الْكِبْرِيَاء
- الْآيَة (201 - 203)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
- أخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {إنَّ الَّذين اتَّقوا} قَالَ: هم الْمُؤْمِنُونَ
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي ذمّ الْغَضَب وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان} قَالَ: الْغَضَب
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الطيف: الْغَضَب
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك أَنه قَرَأَ (إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان) بِالْألف {تَذكرُوا} قَالَ: هَم بِفَاحِشَة فَلم يعملها
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ فِي قَوْله {إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا} يَقُول: إِذا زلوا تَابُوا
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان من طَرِيق وهب بن جرير عَن أَبِيه قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد الْحسن إِذْ جَاءَهُ رجل فَقَالَ: يَا أَبَا سعيد مَا تَقول فِي العَبْد يُذنب الذَّنب ثمَّ يَتُوب قَالَ: لم يَزْدَدْ بتوبته من الله إِلَّا دنواً
قَالَ: ثمَّ عَاد فِي ذَنبه ثمَّ تَابَ قَالَ: لم يَزْدَدْ بتوبته إِلَّا شرفاً عِنْد الله
قَالَ: ثمَّ قَالَ لي: ألم تسمع مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: وَمَا قَالَ قَالَ مثل الْمُؤمن مثل السنبلة تميل أَحْيَانًا وتستقيم
أَحْيَانًا - وَفِي ذَلِك تكبر - فَإِذا حصدها صَاحبهَا حمد أمره كَمَا حمد صَاحب السنبلة بره ثمَّ قَرَأَ {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون}
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: إِن الله لم يسم عَبده الْمُؤمن كَافِرًا ثمَّ قَرَأَ {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا} فَقَالَ: لم يسمه كَافِرًا وَلَكِن سَمَّاهُ متقياً
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ {إِذا مسهم طائف} بِالْألف
وَأخرج عبد بن حميد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم وَيحيى بن وثاب قَرَأَ أَحدهمَا طائف وَالْآخر طيف
وَأخرج عبد بن حميد عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَرَأَ (إِذا مسهم طائف) بِالْألف
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة قَالَ: الطَّائِف اللمة من الشَّيْطَان {تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} يَقُول: إِذا هم مُنْتَهُونَ عَن الْمعْصِيَة آخذون بِأَمْر الله عاصون للشَّيْطَان وإخوانهم
قَالَ: إخْوَان الشَّيَاطِين {يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون} قَالَ: لَا الإِنس عَمَّا يعْملُونَ السَّيِّئَات وَلَا الشَّيَاطِين تمسك عَنْهُم {وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها} يَقُول: لَوْلَا أحدثتها لَوْلَا تلقيتها فأنشأتها
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس {وإخوانهم يمدونهم فِي الغي} قَالَ: هم الْجِنّ يوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ من الإِنس {ثمَّ لَا يقصرون} يَقُول: لَا يسامون {وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها} يَقُول: هلا افتعلتها من تِلْقَاء نَفسك
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد {وإخوانهم من الشَّيَاطِين يمدونهم فِي الغي} قَالَ: استجهالاً وَفِي قَوْله {لَوْلَا اجتبيتها} قَالَ: ابتدعتها
وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ عَن عمر بن الْخطاب قَالَ: أَتَانِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أعرف الْحزن فِي وَجهه فَأخذ بلحيتي فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أَتَانِي جِبْرِيل
آنِفا فَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قلت: أجل فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَمَا ذَاك يَا جِبْرِيل فَقَالَ: إِن أمتك مفتتنة بعْدك بِقَلِيل من الدَّهْر غير كثير قلت: فتْنَة كفر أَو فتْنَة ضَلَالَة قَالَ: كل ذَلِك سَيكون
قلت: وَمن أَيْن ذَاك وَأَنا تَارِك فيهم كتاب الله
قَالَ: بِكِتَاب الله يضلون وَأول ذَلِك من قبل قرائهم وأمرائهم يمْنَع الْأُمَرَاء النَّاس حُقُوقهم فَلَا يعطونها فيقتتلون وتتبع الْقُرَّاء أهواء الْأُمَرَاء فيمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون قلت: يَا جِبْرِيل فَبِمَ يسلم من سلم مِنْهُم قَالَ: بالكف وَالصَّبْر إِن أعْطوا الَّذِي لَهُم أَخَذُوهُ وَإِن منعُوهُ تَرَكُوهُ
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة {قل إِنَّمَا أتبع مَا يُوحى إليَّ من رَبِّي} قَالَ: هَذَا الْقُرْآن {هَذَا بصائر من ربكُم} أَي بَيِّنَات فاعقلوه {وَهدى وَرَحْمَة} لمن آمن بِهِ وَعمل بِهِ ثمَّ مَاتَ عَلَيْهِ
- الْآيَة (204)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
- أخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن عَسَاكِر عَن أبي هُرَيْرَة فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ: نزلت فِي رفع الْأَصْوَات وهم خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} يَعْنِي فِي الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ خَلفه قوم فَنزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَرَأَ فِي الصَّلَاة أَجَابَهُ من وَرَاءه إِذا قَالَ: بِسم الله الرَّحْمَن [] قَالُوا مثل مَا يَقُول حَتَّى تَنْقَضِي فَاتِحَة الْكتاب وَالسورَة فَلبث مَا شَاءَ الله أَن يلبث ثمَّ نزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} الْآيَة
فَقَرَأَ وأنصتوا
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن مُجَاهِد قَالَ: قرأرجل من الْأَنْصَار خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة فأنزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} الْآيَة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن مُغفل أَنه سُئِلَ أَكُلُّ من سمع الْقُرْآن يُقْرَأْ وَجب عَلَيْهِ الِاسْتِمَاع والإِنصات قَالَ: لَا
قَالَ: إِنَّمَا نزلت هَذِه الْآيَة {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} فِي قِرَاءَة الإِمام إِذا قَرَأَ الإِمام فاستمع لَهُ وأنصت
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن مَسْعُود
أَنه صلى بِأَصْحَابِهِ فَسمع نَاسا يقرؤون خَلفه فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: أما آن لكم أَن تفهموا أما آن لكم أَن تعقلوا {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} كَمَا أَمركُم الله
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي الْقِرَاءَة خلف الإِمام: انصت لِلْقُرْآنِ كَمَا أُمرت فَإِن فِي الصَّلَاة شغلاً وسيكفيك ذَاك الإِمام
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ قَالَ: من قَرَأَ خلف الإِمام فقد أَخطَأ الْفطْرَة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن زيد بن ثَابت قَالَ: لَا قِرَاءَة خلف الإِمام
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا جعل الإِمام ليؤتم بِهِ فَإِذا كبر فكبروا وَإِذا قَرَأَ فانصتوا
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءته لَهُ قِرَاءَة
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: أول مَا أَحْدَثُوا الْقِرَاءَة خلف الإِمام وَكَانُوا لَا يقرأون
وَأخرج ابْن جرير عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي فَتى من الْأَنْصَار كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما قَرَأَ شَيْئا قَرَأَهُ فَنزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن أبي الْعَالِيَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا صلى بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ قَرَأَ أَصْحَابه خَلفه فَنزلت هَذِه الْآيَة {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} فَسكت الْقَوْم وَقَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عمر قَالَ: كَانَت بَنو إِسْرَائِيل إِذا قَرَأت أئمتهم جاوبوهم فكره الله ذَلِك لهَذِهِ الْأمة قَالَ {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ وَرجل يقْرَأ فَنزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن طَلْحَة بن مصرف فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ: لَيْسَ هَؤُلَاءِ بالأئمة الَّذين أمرنَا بالإِنصات لَهُم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من طَرِيق أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاة فَنزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود أَنه سلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُصَلِّي فَلم يرد عَلَيْهِ - وَكَانَ الرجل قبل ذَلِك يتَكَلَّم فِي صلَاته وَيَأْمُر بحاجته - فَلَمَّا فرغ رد عَلَيْهِ وَقَالَ: غن الله يفعل مَا يَشَاء وَإِنَّهَا نزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون}
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كُنَّا يسلم بَعْضنَا على بعض فِي الصَّلَاة فجَاء الْقُرْآن {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن عبد الله بن مُغفل قَالَ: كَانَ النَّاس يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاة فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} فنهانا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة
وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف عَن عَطاء قَالَ: بَلغنِي أَن الْمُسلمين كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاة كَمَا يتَكَلَّم الْيَهُود وَالنَّصَارَى حَتَّى نزلت {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة قَالَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاة أول مَا أمروا بهَا كَانَ الرجل يَجِيء وهم فِي الصَّلَاة فَيَقُول لصَاحبه: كم صليتم فَيَقُول: كَذَا وَكَذَا فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} فَأمروا بالاستماع والإِنصات علم أَن الإِنصات هُوَ أَحْرَى أَن يستمع العَبْد ويعيه ويحفظه علم أَن لن يفقهوا حَتَّى ينصتوا والإِنصات بِاللِّسَانِ وَالِاسْتِمَاع بالأذنين
وَأخرج عبد بن حميد عَن الضَّحَّاك قَالَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاة فَأنْزل الله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن} الْآيَة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} قَالَ: نزلت فِي صَلَاة الْجُمُعَة وَفِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَفِيمَا جهر بِهِ من الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْمُؤمن فِي سَعَة من الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ إِلَّا فِي صَلَاة الْجُمُعَة وَفِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَفِيمَا جهر بِهِ من الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ: نزلت فِي رفع الْأَصْوَات خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة وَفِي الْخطْبَة لِأَنَّهَا صَلَاة وَقَالَ: من تكلم يَوْم الْجُمُعَة والإِمام يخْطب فَلَا صَلَاة لَهُ
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي هَذِه الْآيَة {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ: هَذَا فِي الصَّلَاة وَالْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُجَاهِد قَالَ: وَجب الإِنصات فِي اثْنَتَيْنِ فِي الصَّلَاة والإِمام يقْرَأ وَيَوْم الْجُمُعَة والإِمام يخْطب
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: مَا أوجب الإِنصات يَوْم الْجُمُعَة قَالَ: قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ: ذَاك زَعَمُوا فِي الصَّلَاة وَفِي الْجُمُعَة قلت: والإِنصات يَوْم الْجُمُعَة كالإِنصات فِي الْقِرَاءَة سَوَاء
قَالَ: نعم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن الْحسن فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ: عِنْد الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وَعند الذّكر
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن الْمُنْذر عَن الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانُوا يرفعون أَصْوَاتهم فِي الصَّلَاة حِين يسمعُونَ ذكر الْجنَّة وَالنَّار فَأنْزل الله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} الْآيَة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} الْآيَة
قَالَ: فِي الصَّلَاة وَحين ينزل الْوَحْي عَن الله عزَّ وجلَّ
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن مُجَاهِد
أَنه كره إِذا مر الإِمام بِآيَة خوف أَو آيَة رَحْمَة أَن يَقُول أحد من خَلفه شَيْئا قَالَ: السُّكُوت
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن عُثْمَان بن زَائِدَة
أَنه كَانَ إِذا قرىء عَلَيْهِ الْقُرْآن غطى وَجهه بِثَوْبِهِ ويتأوّل من ذَلِك قَول الله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} فَيكْرَه أَن يشغل بَصَره وشيئاً من جواره بِغَيْر اسْتِمَاع
وَأخرج أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان بِسَنَد حسن عَن أبي هُرَيْرَة
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من اسْتمع إِلَى آيَة من كتاب الله كتبت لَهُ حَسَنَة مضاعفة وَمن تَلَاهَا كَانَت لَهُ نورا يَوْم الْقِيَامَة
- الْآيَة (205)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
- أخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي الْآيَة قَالَ: أمره الله أَن يذكرهُ وَنَهَاهُ عَن الْغَفْلَة أما بالغدوّ: فَصَلَاة الصُّبْح وَالْآصَال: بالْعَشي
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي صَخْر قَالَ: الآصال: مَا بَين الظّهْر وَالْعصر
وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن زيد فِي قَوْله {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} الْأَعْرَاف الْآيَة 204 قَالَ: هَذَا إِذا أَقَامَ الإِمام الصَّلَاة {فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} وَاذْكُر رَبك أَيهَا المنصت {فِي نَفسك تضرعاً وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل} قَالَ: لَا تجْهر بِذَاكَ {بالغدوّ وَالْآصَال} بالبكر والعشي {وَلَا تكن من الغافلين}
وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن عبيد بن عُمَيْر فِي قَوْله {وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك} قَالَ: يَقُول الله إِذا ذَكرنِي عَبدِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي وَإِذا ذَكرنِي عَبدِي وحْده ذكرته وحدي وَإِذا ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ أحسن مِنْهُم وَأكْرم
وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد {بالغدوّ} قَالَ: آخر الْفجْر صَلَاة الصُّبْح {وَالْآصَال} آخر الْعشي صَلَاة الْعَصْر وكل ذَلِك لَهَا وَقت أول الْفجْر وَآخره وَذَلِكَ مثل قَوْله فِي سُورَة آل عمرَان {بالْعَشي والإِبكار} آل عمرَان الْآيَة 41 ميل الشَّمْس إِلَى أَن تغيب والإِبكار أول الْفجْر
وَأخرج عبد بن حميد عَن معرف بن وَاصل قَالَ: سَمِعت أَبَا وَائِل يَقُول لغلامه عِنْد مغيب الشَّمْس: آصلنا
أخرج الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله {وَلَا تكن من الغافلين} قَالَ: ذَاكر الله فِي الغافلين كالمقاتل عَن الفارقين
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن بكير بن الْأَخْنَس قَالَ: مَا أَتَى يَوْم الْجُمُعَة على أحد وَهُوَ لَا يعلم أَنه يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا كتب من الغافلين
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن ابْن عَمْرو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْغَفْلَة فِي ثَلَاث
عَن ذكر الله وَمن حِين يُصَلِّي الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس وَأَن يغْفل الرجل عَن نَفسه فِي الدّين حَتَّى يركبه
- الْآيَة (206)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
- أخرج ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي الْعُرْيَان الْمُجَاشِعِي عَن ابْن عَبَّاس
أَنه ذكر سُجُود الْقُرْآن فَقَالَ: الْأَعْرَاف والرعد والنحل وَبَنُو إِسْرَائِيل وَمَرْيَم وَالْحج سَجْدَة وَاحِدَة والنمل وَالْفرْقَان والم تَنْزِيل وحم تَنْزِيل وص وَلَيْسَ فِي الْمفصل سُجُود
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن عَطاء قَالَ: عد عَليّ بن الْعَبَّاس عشر سَجدَات فِي الْقُرْآن
الْأَعْرَاف والرعد والنحل وَبني إِسْرَائِيل وَمَرْيَم وَالْحج الأولى مِنْهَا وَالْفرْقَان والنمل وتنزيل السَّجْدَة وحم السَّجْدَة
وَأخرج ابْن ماجة وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ سجدت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِحْدَى عشرَة سَجْدَة لَيْسَ فِيهَا من الْمفصل شَيْء
الْأَعْرَاف والرعد والنحل وَبني إِسْرَائِيل وَمَرْيَم وَالْحج سَجْدَة وَالْفرْقَان وَسليمَان سُورَة النَّمْل والسجدة وص وَسجْدَة الحواميم
وَأخرج أَبُو دَاوُد وَابْن ماجة وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَقْرَأَهُ خَمْسَ عشرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن مِنْهَا ثَلَاث من الْمفصل وَفِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَيْنِ
وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَمْرو قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ علينا الْقُرْآن فَيقْرَأ السُّورَة فِيهَا السَّجْدَة فَيسْجد ونسجد مَعَه حَتَّى لَا يجد أَحَدنَا مَكَانا لوضع جَبهته
وَأخرج مُسلم وَابْن ماجة وَالْبَيْهَقِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَرَأَ ابْن آدم السَّجْدَة فَسجدَ اعتزل الشَّيْطَان يبكي يَقُول: يَا ويله أَمر ابْن آدم بِالسُّجُود فَسجدَ فَلهُ الْجنَّة وأُمِرْتُ بِالسُّجُود فأبيتُ فليَ النَّار
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن سِيرِين قَالَ: سُئِلت عَائِشَة عَن سُجُود الْقُرْآن فَقَالَت: حق الله يُؤَدِّيه أَو تطوّع تطوّعه وَمَا من مُسلم سجد لله سَجْدَة إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة أَو حط عَنهُ بهَا خَطِيئَة أَو جمعهَا لَهُ كلتيهما
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن مُسلم بن يسَار قَالَ: إِذا قَرَأَ الرجل السَّجْدَة فَلَا يسْجد حَتَّى يَأْتِي على الْآيَة كلهَا فَإِذا أَتَى عَلَيْهِ رفع يَدَيْهِ وَكبر وَسجد
وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ علينا الْقُرْآن فَإِذا مر بِالسَّجْدَةِ كبَّر وَسجد وسجدنا مَعَه
وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَأحمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي سُجُود الْقُرْآن بِاللَّيْلِ يَقُول فِي السَّجْدَة مرَارًا سَجَدَ وَجْهي للَّذي خلقه وشق سَمعه وبصره بحوله وقوته فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن قيس بن السكن قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول سجد وَجْهي للَّذي خلقه وشق سَمعه وبصره قَالَ: وَبَلغنِي أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَقُول: سجد وَجْهي متعفراً فِي التُّرَاب لخالقي وَحقّ لَهُ ثمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا أشبه كَلَام الْأَنْبِيَاء بَعضهم بِبَعْض
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول فِي سُجُوده: اللَّهُمَّ لَك سجد سوَادِي وَبِك آمن فُؤَادِي اللَّهُمَّ ارزفني علما يَنْفَعنِي وعلماً يرفعني
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن قَتَادَة أَنه كَانَ يَقُول إِذا قَرَأَ السَّجْدَة: سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولاً سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر قَالَ: لَا يسْجد الرجل إِلَّا وَهُوَ طَاهِر
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن الشّعبِيّ قَالَ: كَانُوا يكْرهُونَ إِذا أَتَوا على السَّجْدَة أَن يجاوزوها حَتَّى يسجدوا
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يدع قِرَاءَة آخر سُورَة الْأَعْرَاف فِي كل جُمُعَة على الْمِنْبَر
4
الأعراف - تفسير فتح القدير
[سورة الأعراف (7) : الآيات 193 الى 198]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
قَوْلُهُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ بِأَنْ تَطْلُبُوا مِنْهُمْ أَنْ يَهْدُوكُمْ وَيُرْشِدُوكُمْ لَا يَتَّبِعُوكُمْ وَلَا يُجِيبُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ دُونُ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أَيِ:
الْأَصْنَامَ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقُرِئَ لَا يَتَّبِعُوكُمْ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: اتْبَعَهُ مُخَفَّفًا: إِذَا مَضَى خَلْفَهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَاتَّبَعَهُ مُشَدَّدًا: إِذَا مَضَى خَلْفَهُ فَأَدْرَكَهُ، وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ:
دُعَاؤُكُمْ لَهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ، وَقَالَ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مكان أم صمتم، لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: إِنَّمَا جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِكَوْنِهَا رَأْسَ آيَةٍ، يَعْنِي لِمُطَابَقَةِ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَمَا قَبْلَهُ، قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بأن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ آلِهَةً هُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ كَمَا أَنْتُمْ عِبَادٌ لَهُ مَعَ أَنَّكُمْ أَكْمَلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّكُمْ أَحْيَاءٌ تَنْطِقُونَ وَتَمْشُونَ وَتَسْمَعُونَ وَتُبْصِرُونَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مِثْلُكُمْ فِي كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لِلَّهِ مُسَخَّرَةً لِأَمْرِهِ. وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ بَالِغٌ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَظِيمٌ، وَجُمْلَةُ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ مقرة لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا مِنْ أَنَّهُمْ إِنْ دَعَوْهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ شَيْئًا، أَيِ: ادْعُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا تَزْعُمُونَ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لَهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ وَمَا بَعْدَهُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ لَكُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَعْكِفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا لَيْسَتْ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فِي نَفْعِ أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْشُوا فِي نَفْعِكُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها كَمَا يَبْطِشُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها كَمَا تُبْصِرُونَ، وَلَيْسَ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها كَمَا تَسْمَعُونَ، فَكَيْفَ تَدْعُونَ مَنْ هُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ سَلْبِ الْأَدَوَاتِ، وَبِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْعَجْزِ، وَأَمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ النَّحْوِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ بِتَخْفِيفِ إِنَّ وَنَصْبِ عِبَادًا، أَيْ: مَا الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ
عَلَى إِعْمَالِ إِنِ النَّافِيَةِ عَمَلَ مَا الْحِجَازِيَّةِ، وَقَدْ ضُعِّفَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهَا خِلَافُ مَا رَجَّحَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنِ اخْتِيَارِ الرَّفْعِ فِي خَبَرِهَا، وَبِأَنَّ الْكِسَائِيَّ قَالَ:
إِنَّهَا لَا تَكَادُ تَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى مَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ كَمَا فِي قوله: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَبْطِشُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ لهم
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
حَالَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، وَتَعَاوَرَ وُجُوهَ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ لَهَا مِنْ كُلِّ بَابٍ، أَمْرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ ثُمَّ كِيدُونِ أَنْتُمْ وَهَمَ جَمِيعًا بِمَا شِئْتُمْ مِنْ وُجُوهِ الْكَيْدِ فَلا تُنْظِرُونِ أَيْ: فَلَا تُمْهِلُونِي، وَلَا تُؤَخِّرُونَ إِنْزَالَ الضَّرَرِ بِي مِنْ جِهَتِهَا، وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا التَّحَدِّي لَهُمْ وَالتَّعْجِيزِ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أَيْ: كَيْفَ أَخَافُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُهَا وَلِي وَلِيٌّ أَلْجَأُ إِلَيْهِ وَأَسْتَنْصِرُ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، وَوَلِيُّ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَقُومُ بِنُصْرَتِهِ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ الضَّرَرَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أَيْ: يَحْفَظُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيَحُولُ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقُرِئَ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ يعني: جبريل. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ الْجَحْدَرَيِّ وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَبْيَنُ، لِقَوْلِهِ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ هَذَا لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَلِمَا فِي تَكْرَارِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ من الإهانة للمشركين والتنقيص بِهِمْ، وَإِظْهَارِ سَخْفِ عُقُولِهِمْ، وَرَكَاكَةِ أَحْلَامِهِمْ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ جُمْلَةٌ مُبْتَدِأَةٌ لِبَيَانِ عَجْزِهِمْ، أَوْ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حَالُ كَوْنِهِمْ لَا يُبْصِرُونَ، وَالْمُرَادُ: الْأَصْنَامُ إِنَّهُمْ يُشْبِهُونَ النَّاظِرِينَ، وَلَا أَعْيُنَ لَهُمْ يُبْصِرُونَ بِهَا، قِيلَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ لِلْأَصْنَامِ أَعْيُنًا مِنْ جَوَاهِرَ مَصْنُوعَةٍ، فَكَانُوا بِذَلِكَ فِي هَيْئَةِ النَّاظِرِينَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَبْصَارِهِمْ، وَإِنْ أَبْصَرُوا بِهَا غَيْرَ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يُجَاءُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَتَّى يُلَقَيَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُجَاءُ بِمَنْ كَانَ يَعْبُدُهُمَا، فَيُقَالُ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ما تدعوهم إليه من الهدى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قَوْلُهُ خُذِ الْعَفْوَ لَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ مَا عَدَّدَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَتَسْفِيهِ رَأْيِهِمْ وَضَلَالِ سَعْيهِمْ أَمَرَ رَسُولَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، يُقَالُ: أَخَذْتُ حَقِّي عَفْوًا: أَيْ سَهْلًا، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «يَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ هُنَا: ضِدُّ الْجَهْدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ خُذِ الْعَفْوَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَلَا تُشَدِّدْ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَتَأْخُذَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أَيْ: بِالْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالْعُرْفِ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْعُرْفُ وَالْمَعْرُوفُ وَالْعَارِفَةُ: كُلُّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ تَرْتَضِيهَا الْعُقُولُ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أَيْ: إِذَا أَقَمْتَ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُمَارِهِمْ، وَلَا تُسَافِهْهُمْ مُكَافَأَةً لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْمِرَاءِ وَالسَّفَاهَةِ قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النَّزْغُ: الْوَسْوَسَةُ، وَكَذَا النَّغْزُ وَالنَّخْسُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّزْغُ: أَدْنَى حَرَكَةٍ تَكُونُ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ: أَدْنَى وَسْوَسَةٍ، وَأَصْلُ النَّزْغِ: الْفَسَادُ، يُقَالُ نَزَغَ بَيْنَنَا: أَيْ أَفْسَدَ، وَقِيلَ: النَّزْغُ: الْإِغْوَاءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ يَا رَبِّ بِالْغَضَبِ» ؟ فَنَزَلَتْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عِلَّةٌ لِأَمْرِهِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، أَيِ: اسْتَعِذْ بِهِ، وَالْتَجِئْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْكَ وَيَعْلَمُ بِهِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ شَأْنَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ وَحَالَهُمْ هُوَ التَّذَكُّرُ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ عِنْدَ أَنْ يَمَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ طَيْفٌ وَكَذَا أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ طائِفٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: كَلَامُ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا طَيْفٌ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَنْ طَافَ يَطِيفُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مُخَفَّفٌ مِثْلُ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يُتَخَيَّلُ فِي الْقَلْبِ، أَوْ يُرَى فِي النَّوْمِ، وَكَذَا مَعْنَى طَائِفٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ طَيِّفٍ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ فَيْعِلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هُوَ مَصْدَرًا وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَعْنَى طَائِفٍ وَقِيلَ: الطَّيْفُ وَالطَّائِفُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَالْأَوَّلُ التَّخَيُّلُ، وَالثَّانِي الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ فَالْأَوَّلُ مِنْ طَافَ الْخَيَالُ يَطُوفُ طَيْفًا، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ هَذَا طَائِفٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَأَمَّا قوله فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «1» فَلَا يُقَالُ فِيهِ طَيْفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: طُفْتُ عَلَيْهِمْ أَطُوفُ، فَطَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ. قَالَ حَسَّانٌ:
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لَطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
وَسُمِّيَتِ الْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهَا لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تُشْبِهُ لَمَّةَ الْخَيَالِ فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بِسَبَبِ التَّذَكُّرِ أَيْ: مُنْتَبِهُونَ، وَقِيلَ: عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَذَكَّرُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ. قَالَ النَّحَّاسُ: ولا
__________
(1) . القلم: 19.
وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، وَهُمُ الْفُجَّارُ مِنْ ضُلَّالِ الْإِنْسِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِخْوَانِهِمْ يَعُودُ إِلَى الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْجِنْسُ، فَجَازَ إِرْجَاعُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ إِلَيْهِ. يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أَيْ: الْمُرَادَ بِالْإِخْوَانِ: الشَّيَاطِينُ، وَبِالضَّمِيرِ: الْفُجَّارُ مِنَ الْإِنْسِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ الْإِقْصَارُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ: لَا تُقَصِّرُ الشَّيَاطِينُ فِي مَدِّ الْكُفَّارِ فِي الْغَيِّ، قِيلَ: إِنَّ فِي الْغَيِّ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ يَمُدُّونَهُمْ وَقِيلَ: بِالْإِخْوَانِ، وَالْغَيُّ:
الْجَهْلُ. قَرَأَ نَافِعٌ يَمُدُّونَهُمْ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: يُقَالُ مَدَّ وَأَمَدَّ. قال مكي: ومدّ أكثر. وقال أبو عبيدة وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: فَإِنَّهُ يُقَالُ إِذَا كَثَّرَ شَيْءٌ شَيْئًا بِنَفْسِهِ مَدَّهُ، وَإِذَا كَثَّرَهُ بِغَيْرِهِ، قِيلَ أَمَدَّهُ نَحْوُ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «1» وَقِيلَ: يُقَالُ مَدَدْتُ فِي الشَّرِّ وَأَمْدَدْتُ فِي الْخَيْرِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرَيُّ يُمَادُونَهُمْ فِي الْغَيِّ. وقرأ عيسى ابن عُمَرَ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ. قَوْلُهُ وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها اجْتَبَى الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَبَاهُ لِنَفْسِهِ: أَيْ جَمَعَهُ، أَيْ: هَلَّا اجْتَمَعْتَهَا افْتِعَالًا لَهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ وَقِيلَ:
الْمَعْنَى اخْتَلَقْتَهَا، يُقَالُ اجْتَبَيْتُ الْكَلَامَ: انْتَحَلْتُهُ وَاخْتَلَقْتُهُ وَاخْتَرَعْتُهُ، إِذَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ، كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَرَاخَى الْوَحْيُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ: لَسْتُ مِمَّنْ يَأْتِي بِالْآيَاتِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا تَزْعُمُونَ قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فَمَا أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغه إِلَيْكُمْ، وَبَصَائِرُ: جُمَعُ بَصِيرَةٍ، أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَيَّ هُوَ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يَتَبَصَّرُ بِهَا مَنْ قَبِلَهَا، وَقِيلَ: الْبَصَائِرُ، الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَصَائِرُ: الطُّرُقُ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى بَصَائِرَ، أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ بَصَائِرُ وَهُدًى، يَهْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ. قَوْلُهُ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ وَالْإِنْصَاتِ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ، وَيَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ قِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ اللَّفْظَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا وَالْعَامُّ لَا يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ، فَيَكُونُ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ، مِمَّا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ وَقِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقُرْآنِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ: تَنَالُونَ الرَّحْمَةَ، وَتَفُوزُونَ بِهَا بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ أَدْخَلُ فِي الْإِخْلَاصِ وَأَدْعَى لِلْقَبُولِ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُذْكَرُ اللَّهُ بِهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَمْ يُخْتَلَفْ فِي مَعْنَى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ الدُّعَاءُ وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ أَيِ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ بِتَأَمُّلٍ وتدبر، وتَضَرُّعاً وَخِيفَةً مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ، أَي: مُتَضَرِّعًا وَخَائِفًا، والخيفة: الخوف، وأصلها: خوفة
__________
(1) . آل عمران: 125. [.....]
قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ يُقَالُ فِي جَمْعِ خِيفَةٍ: خِيَفٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْخِيفَةُ:
الْخَوْفُ وَالْجَمْعُ: خِيَفٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، أَي: خَوْفٌ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: دُونَ الْمَجْهُورِ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: مُتَضَرِّعًا، وَخَائِفًا، وَمُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ هُوَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، وبِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ متعلق باذكر أَيْ أَوْقَاتِ الْغَدَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْأَصَائِلِ، وَالْغُدُوُّ: جَمْعُ غُدْوَةٍ، وَالْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ، مِثْلُ يَمِينٍ وَأَيْمَانٍ، وَقِيلَ: الْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ، وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا جَمْعُ الْجَمْعِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَصِيلُ الْوَقْتُ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَجَمْعُهُ أُصُلٌ وَآصَالٌ وَأَصَائِلُ كَأَنَّهُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أَكْرَمُ أَهْلُهُ ... وَأَقْعَدُ فِي أَفَنَائِهِ بِالْأَصَائِلِ
وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُصْلَانٍ مِثْلَ بَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ وَالْإِيصَالِ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَخَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِشَرَفِهِمَا، وَالْمُرَادُ دَوَامُ الذِّكْرِ لِلَّهِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ أَيْ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَالَ:
عِنْدَ رَبِّكَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ مَكَانٍ، لِأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَكُلُّ قَرِيبٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ عِنْدَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ إِلَّا حُكْمُ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جَيْشٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ هَذَا على جهة التشريف والتكريم لهم، ومعنى يُسَبِّحُونَهُ يُعَظِّمُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ شَيْنٍ وَلَهُ يَسْجُدُونَ أَيْ: يَخْصُّونَهُ بِعِبَادَةِ السُّجُودِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ عِبَادَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ:
الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ، وَفِي ذِكْرِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى تَعْرِيضٌ لِبَنِي آدَمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ الْآيَةَ، قَالَ: مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ، وَفِي لَفْظٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ قال: «والله لأمثلنّ بسبعين منهم، فجاء جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: مَا عَفَا لَكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: خُذْ مَا عَفَا من أموالهم
مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْهُ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَةِ وَتَفْصِيلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَ خُذِ الْعَفْوَ الْآيَةَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَيْفَ بِالْغَضَبِ يَا رَبُّ؟ فَنَزَلَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مجاهد في قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ قَالَ: الْغَضَبُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطَّيْفُ: الْغَضَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَذَكَّرُوا قَالَ:
إِذَا زَلُّوا تَابُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الطَّائِفُ:
اللَّمَّةُ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يَقُولُ: فَإِذَا هُمْ مُنْتَهُونَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ آخِذُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَاصُونَ لِلشَّيْطَانِ. وَإِخْوانُهُمْ قَالَ: إِخْوَانُ الشيطان يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قَالَ:
لَا الْإِنْسُ يُمْسِكُونَ عَمَّا يَعْمَلُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، ولا الشياطين تمسك عنهم، وإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يَقُولُ: لَوْلَا أَحْدَثْتَهَا، لَوْلَا تَلَقَّيْتَهَا فَأَنْشَأْتَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قَالَ: هُمُ الجنّ يوحون إلى أولياؤهم مِنَ الْإِنْسِ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ يَقُولُ:
لَا يَسْأَمُونَ وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يَقُولُ: هَلَّا افْتَعَلْتَهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَهُمْ خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ:
صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ خَلْفَهُ قَوْمٌ فَخَلَطُوا، فَنَزَلَتْ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ الْآيَةَ. فَهَذِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ.
قَالَ: وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَسْتَمِعْ لِمَنْ يَقْرَأْ بِالْأَخْفَى مِنَ الْجَهْرِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِمَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ:
عِنْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ وَحِينَ يَنْزِلُ الْوَحْيُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الْآيَةَ، قَالَ:
أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ، وَنَهَاهُ عَنِ الْغَفْلَةِ، أَمَّا بِالْغُدُوِّ: فَصَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالِ: بِالْعَشِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ. قَالَ: الْآصَالُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تَجْهَرُ بِذَاكَ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ بِالْبَكْرِ وَالْعَشِيِّ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ
بِالْغُدُوِّ قَالَ: آخِرُ الْفَجْرِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: آخِرُ الْعَشِيِّ، صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَعَدَدِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْجَدُ فِيهَا، وَكَيْفِيَّةِ السُّجُودِ وَمَا يُقَالُ فِيهِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، فَلَا نُطَوِّلُ بإيراد ذلك هاهنا.
الأعراف - تفسير أضواء البيان
المجلد الثاني
سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
قوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} الآية، قال مجاهد، وقتادة، والسدي: {حَرَجٌ} أي شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً، وعلى هذا القول فالآية، كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [2/147]، وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [3/60]، {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [10/94].
والممتري: هو الشاك؛ لأنه مفتعل من المرية وهي الشك، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد: نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الراجز: "الرجز"
إياك أعني واسمعي يا جارة
وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [76/24]، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/65]، وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الآية [2/120 و145] و [13/37].
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً من ذلك، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.
وجمهور العلماء: على أن المراد بالحرج في الآية الضيق. أي: لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك؛ لأن تحمل عدواة الكفار، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة"، أخرجه مسلم. والثلغ: الشدخ وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ، وهذا البطش مما
يضيق به الصدر.
ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [11/12] وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [15/97]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [18/6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [26/3].
ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب: الضيق. وذلك معروف في كلامهم، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [24/61]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [22/78]، وقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [6/125]، أي: شديد الضيق، إلى غير ذلك من الآيات، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل: "الكامل"
فخرجت خوف يمينها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج
وقول العرجي: "السريع"
عوجي علينا ربة الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي
والمراد بالإحراج في البيتين: الإدخال في الحرج. بمعنى الضيق كما ذكرنا.
قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، لم يبين هنا المفعول به لقوله: {لِتُنْذِرَ} ، ولكنه بينه في مواضع أُخر كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [19/97]، وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [36/6]، إلى غير ذلك من الآيات. كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر، كقوله {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} الآية [18/2]، وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [92/14]، وقوله: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} الآية[78/40]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [7/3] فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدلّ لذلك قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [19/97]، وقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [50/51]، وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [50/45].
ولا ينافي ما ذكرنا من أن الإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [36/11]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم.
ومن أساليب اللغة العربية: التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء.
وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث: أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين:
أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [74/1، 2]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1].
وهذا الإنذار العام: هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} الآية؛ لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.
والثاني: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}، وقوله هنا: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} اهـ.
والإنذار في اللغة العربية: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.
قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}، خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، بأنه أهلك كثيراً من القرى بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها {بَيَاتاً}، أي: ليلاً، ومنهم من أهلكها و {هُمْ قَائِلُونَ}، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار. يعني: فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [6/10]، وقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [22/45]، وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [28/58]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [47/10]، ثم بين أنه
يريد تهديدهم بذلك بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحى في حالة اللعب، في قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [7/97، 98]، وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [16/45، 46، 47].
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.
وأوضح هذا المعنى في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [21/11-15].
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، حدثنا بذلك ابن حميد، حدثنا جرير عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، قال: قلت لعبد الله: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [7/5].
قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ، لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.
قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [5/109].
وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [28/65].
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعلمون، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/92، 93].
وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [7/6]، وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [37/24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [55/39].
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وسنزيده إيضاحاً هنا إن شاء الله تعالى.
اعلم أولاً: أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخص من السؤال المثبت فيها؛ لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة، فإنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، فخصه بكونه عن الذنوب، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، فخصه بذلك أيضاً، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه؛ لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [33/8]، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [5/116]، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الآية [5/119]، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات: المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [37/24،25]، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [52/15]، إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ، بين تعالى في هذه الآية
الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [58/7]، وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [57/4]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [10/61].
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني، القائلين: إنه تعالى عالم بذاته، لا بصفة قامت بذاته، هي العلم، وهكذا في قولهم: قادر مريد، حي سميع، بصير متكلم، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [7/7]، ونظيره قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية[4/166]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.
قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه، ولا ظلم، فلا يزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [21/47]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الآية [4/40] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من ثقلت موازينهم أفلحوا، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا.
وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار، وذلك في قوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [101/6-11].
وبين أيضاً خسران من خفت موازينة، بقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [23/103، 104]]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} الآية،لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، كقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً َعِنَباً وَقَضْباً َزَيْتُوناً وَنَخْلاً َحَدَائِقَ غُلْباً َفَاكِهَةً وَأَبّا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [80/24-32].
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [32/27]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} [20/53، 54].
وذكر كثيراً من ذلك في سورة النحل كقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [5] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، قال بعض العلماء: معناه: ما منعك أن تسجد، و "لا" صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى: في سورة "ص" {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية [38/75]، وقد أوضحنا زيادة لفظة "لا" وشواهد ذلك من القرآن، ومن كلام العرب في سورة البلد، في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، ذكر في هذه الآية الكريمة: أن إبليس لعنه الله خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن، فقد زاد في مواضع أخر أوصافاً للنار التي خلقه منها، من ذلك أنها نار السموم، كما في قوله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [15/27]، ومن ذلك أنها خصوص المارج، كما في قوله: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍٍ} [55/15]، والمارج أخص من مطلق النار؛ لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.
وسميت نار السموم؛ لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"، ورواه عنها أيضاً الإمام أحمد.
قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغراً حقيراً ذليلا، متصفاً بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [7/13]، والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} [7/18]، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك؛ وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [40/56].
وبين في مواضع أخر كثيراً من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر، ـ أعاذنا الله والمسلمين منه، ـ فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [7/146]، ومن ذلك أَنَه من أسباب الثواء في النار، كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [38/60]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [37/35]، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [16/23]، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعاذ إلا مما هو شر، كما في قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [40/27]، إلى غير ذلك من
نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.
وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [25/63]، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [28/83] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، وقد قال الشاعر: "الطويل"
تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه ... على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى صفحات الجو وهو وضيع
وقال أبو الطيب المتنبي: "الوافر"
ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام
قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }، لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في "الحجر" و "ص"، مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم؛ لقوله: في سورة "الحجر" و "ص" {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [/80] فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بني آدم فيه قاله ظناً منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم، وقد بين تعالى في سورة "سبأ" أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} الآية [34/20]، كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} ، بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: أخرج منها في حال كونك مذءوماً مدحوراً، والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [38/84، 85]، وقوله: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [17/63، 64]، وقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [26/94، 95] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} ، حذر تعالى في هذه الآية الكريمة بني آدم أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم، وصرح في موضع آخر: أنه حذر آدم من مكر إبليس قبل أن يقع فيما وقع فيه، ولم ينجه ذلك التحذير من عدوه، وهو قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [20/117].
قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا فعلوا فاحشة، استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد.
وبين في موضع آخر: أن هذا واقع من جميع الأمم، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [43/23].
ورد الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [2/170]، وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [5/104]، وقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [43/24]، وقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [37/69، 70]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، في هذه الآية الكريمة للعلماء وجهان من التفسير:
الأول: أن معنى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، أي: كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه، فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن
سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، ويدل لهذا الوجه قوله بعده: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [7/30]، وهو ظاهر كما ترى، ومن الآيات الدالة عليه أيضاً قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [64/2]، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} الآية [11/119]، أي: ولذلك الاختلاف إلى شقي، وسعيد خلقهم.
الوجه الثاني: أن معنى قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [7/29]، أي: كما خلقكم أولاً، ولم تكونوا شيئاً، فإنه يعيدكم مرة أخرى، ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرتم عظاماً رميماً، والآيات الدالة على هذا الوجه كثيرة جداً، كقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا} [21/104]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [30/27]، وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية [36/97]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [22/5]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنه قد يكون في الآية وجهان، وكل واحد منهما حق، ويشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم على هدى.
وبين في موضع آخر: أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملاً، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [18/103، 104].
تنبيه
هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل، وعناداً،
فلذلك كان غير معذور. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يسأل سؤال إنكار من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، كاللباس في الطواف، {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كالأنعام، والحرث التي حرمها الكفار، وكاللحم والودك الذي حرمه بعض العرب في الجاهلية في الحج.
وصرح في مواضع أخر: أن من قال ذلك على الله فهو مفتر عليه جل وعلا، كقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [16/116]، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [6/140]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/59]، وطلبهم في موضع آخر طلب إعجاز أن يأتوا بالشهداء الذين يشهدون لهم أن الله حرم هذا، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم إن شهد لهم شهود زور أن يشهد معهم، وهو قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [6/150]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ، لم يبين هنا السبب الذي مكنهم من إضلالهم، ولكنه بين في موضع آخر: أن السبب الذي مكنهم من ذلك هو كونهم سادتهم وكبراءهم، ومعلوم أن الأتباع يطيعون السادة الكبراء فيما يأمرونهم به، وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [33/67، 68] . وبسط ذلك في سورة "سبأ" بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداًً} [34/31-33].
قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات: أن الأتباع يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب للمتبوعين،
وبين في مواضع أخر: أن مضاعفة العذاب للمتبوعين لا تنفع الأتباع، ولا تخفف عنهم من العذاب، كقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [43/39]، وقوله هنا: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} الآية [7/38]، وقوله: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [7/39]، وقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [40/48]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جل وعلا، ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد، والحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة، وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخواناً على سرر متقابلين آمنين من النصب، والخروج من الجنة، وهو قوله تعالى في "الحجر": {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [15/47، 48].
قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بين أهل الجنة، وأهل النار حجاباً يوم القيامة، ولم يبين هذا الحجاب هنا، ولكنه بينه في سورة "الحديد"، بقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية [57/13].
قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف، {يَعْرِفُونَ كُلّاً} من أهل الجنة، وأهل النار {بِسِيمَاهُمْ}، ولم يبين هنا سيما أهل الجنة، ولا أهل النار، ولكنه أشار لذلك في مواضع أخر، كقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية [3/106].
فبياض الوجوه وحسنها؛ سيما أهل الجنة، وسوادها وقبحها، وزرقة العيون، سيما أهل النار، كما قال أيضاً في سيما أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [83/24] ، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الآية [75/22]، وقال في سيما أهل النار: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [10/27] . وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} الآية [80/40] ، وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [20/102].
قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، ذكر تعالى في هذه
الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار: {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا.
وبين في مواضع أخر وجه ذلك: وهو أن الإنسان يوم القيامة، يحشر فرداً، لا مال معه، ولا ناصر، ولا خادم، ولا خول. وأن استكباره في الدنيا يجزى به عذاب الهون في الآخرة، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [6/94]، وقوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [19/80]، وقوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [19/95]، وقوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [46/20].
قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار، إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق، ويتمنون أحد أمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل، ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر، فبين: أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} الآية [26/100]، وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [74/48]، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21/28] مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [39/7]، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [9/96]، وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [32/12، 13].
فقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية، دليل على أن النار وجبت لهم، فلا يردون، ولا يعذرون، وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [35/37].
فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا؛ بالإمهال مدة يتذكرون فيها؛ وإنذار الرسل،
وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: {َأَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [14/44]، جواباً لقولهم: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [40/12]، بعد قوله تعالى عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [40/11] ، وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآية [42/45]، بعد قوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [42/44]، وقوله هنا: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم} الآية [7/53]، بعد قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ} الآية.
فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه.
وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان؛ وهو قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [6/28]، وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى، ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به في قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، ويعلم أن المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك لا يحضرونها؛ لأنه هو الذي ثبطهم عنها لحكمة كما بينه بقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} الآية [9/46]، وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآية [9/47] ، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [23/75]، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، لا ينفعهم كقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [67/11]، وقوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة "فصلت" بقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [41/9-12].
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الآية، هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [48/10] ونحو ذلك، أشكلت على كثير من الناس إشكالاً ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة، فصار قوم إلى التعطيل وقوم إلى التشبيه، سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن ذلك كله، والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين:
أحدهما: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُُ} [2/140]، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [53/3،4]، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعماً أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا، سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!.
ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال، والتنزيه عن مشابهة الخلق، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا؛ هي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [42/11]، فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الإتصاف بصفات الكمال والجلال.
والظاهر أن السر في تعبيره بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، دون أن يقول مثلاً:
وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة؛ أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فبين أن الله متصف بهما، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى، وبين صفات خلقه، ولذا جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحاً تاماً بحسب طاقتنا، وبالله جل وعلا التوفيق.
اعلم أولاً: أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:
صفة نفسية، وصفة سلبية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة جامعة، والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية؛ لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة، فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجوداً قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء؛ لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية، وليستا من صفات الأفعال، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عالم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح؛ لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز، وإن كان المقصود به صحيحاً؛ لأن الصفة النفسية في الإصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس، كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً، المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينا لك، من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى؛ لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته، ولا من صفاته، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة.
والفصل: هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضاً وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به؛ لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد؛ لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.
فمن ذلك: الصفات السبع، المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي: القدرة، والإدارة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [2/284] و[3/29] و[3/189] و [5/19] و [5/40] و [8/41].
وقال في وصف الحادث بها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [5/34]، فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء، وبين قدرته وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه.
وقال في وصف نفسه بالإرادة: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [11/107] و[85/16]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36/82]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2/185]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآية[8/67]، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [33/13]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [61/8]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضاً مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالعلم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [24/35]، {لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية[4/ 166]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [7/7].
وقال في وصف الحادث به: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [51/28]، وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [12/68]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالحياة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [2/255]، {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية [40/65]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [25/58]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [19/15]، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [21/30]، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [30/19].
فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضاً حياة مناسبة لحاله؛ وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [22/75] و [31/28]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بهما: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [76/2]، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية[19/38]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله، وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالكلام {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [4/164]، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [7/144]، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [9/6]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق به: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [12/54]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} الآية[36/65]، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [ 19/29]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله؛ وللمخلوق كلام أيضاً مناسب لحاله. وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.
والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها، فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته هكذا فراراً منهم من تعدد القديم.
ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلاً استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة، قال في "مراقي السعود":"الرجز"
وعند فقد الوصف لا يشتق ... وأعوز المعتزلي الحق
وأما الصفات المعنوية عندهم: فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة، وهي كونه تعالى: قادراً، مريداًً، عالماً حياً، سميعاً بصيراً، متكلماً.
والتحقيق: أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بالمعاني، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني، مبني على ما يسمونه الحال المعنوية، زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود، ولا معدوم؛ والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها؛ لأن العقل الصحيح حاكم حكماً لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة، فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود، فإنه معدوم قطعاً، وكل ما هو غير معدوم، فإنه موجود قطعاً، وهذا مما لا شك فيه كما ترى.
وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني، مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها.
وأما الصفات السلبية عندهم: فهي خمس، وهي عندهم: القدم، والبقاء، والوحدانية، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق، المعروف عندهم بالقيام بالنفس.
وضابط الصفة السلبية عندهم: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلاً، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله.
أما الصفة التي تدل على معنى وجودي، فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى، فالقدم مثلاً عندهم لا معنى له بالمطابقة، إلا سلب العدم السابق، فإن قيل: القدرة مثلاً تدل على سلب العجز، والعلم يدل على سلب الجهل، والحياة تدل على سلب الموت، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضاً؟.
فالجواب: أن القدرة مثلا تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية. وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلاً، وهكذا في باقي المعاني.
أما القدم عندهم مثلا: فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود، إلا سلب العدم السابق، وهكذا في باقي السلبيات، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم، والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} الآية[57/3]، جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضاً، قال في وصف الحادث بالقدم: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [36/39]، وقال: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [ 12/95]، وقال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [26/75، 76]، وقال في وصف الحادث بالبقاء: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [37/77]، وقال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [16/96]، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية المذكورتين في الآية، قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [77/16، 17]، ووصف نفسه بأنه واحد، قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [2/163]، وقال في وصف الحادث بذلك: {يُسْقَى بِمَاءٍ
وَاحِدٍ} [13/4]، وقال في وصف نفسه بالغنى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [35/15]، {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [14/8]، وقال في وصف الحادث بالغنى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية [4/6]، {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} الآية [24/32]، فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، والحادث موصوف بها أيضاً على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه، وعجزه وافتقاره، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق، كما بيناه في صفات المعاني.
وأما الصفة النفسية عندهم، فهي واحدة، وهي: الوجود، وقد علمت ما في إطلاقها على الله، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة، كأبي الحسن الأشعري، وعلى كل حال، فلا يخفى أن الخالق موجود، والمخلوق موجود، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق، كما بينا.
ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم.
وأما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه، قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} الآية [51/58]، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [34/39]، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الآية [11/6]، وقال في وصف الحادث بذلك: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [4/8]، وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية [2/233]، ووصف نفسه بالعمل، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} الآية [36/71]، وقال في وصف الحادث به: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [66/7]، ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [55/1-4].
وقال في وصف الحادث به: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية [62/2].
وجمع المثالين في قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [5/4]، ووصف
نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بذلك، وجمع المثالين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [66/3]، ووصف نفسه بالإيتاء، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [2/258]، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [2/269]، وقال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [11/3]، وقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [57/21].
وقال في وصف الحادث بذلك: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [4/20]، {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [4/2]، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [4/4]، وأمثال هذا كثيرة جداً في القرآن العظيم.
ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضاً، على الوجه المناسب لحاله، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وأما الصفات الجامعة، كالعظم والكبر والعلو، والملك والتكبر والجبروت، ونحو ذلك. فإنها أيضاً يكثر جداً وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم.
ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق. قال في وصف نفسه جلا وعلا بالعلو والعظم والكبر: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [2/255]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [4/34]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [13/9] .
وقال في وصف الحادث بالعظم: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[26/63]، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [17/40]، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [27/23]، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [9/129]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بالكبر: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [67/12]، وقال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [17/31]، وقال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [8/73]، وقال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [2/143]، وقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [2/45.]
وقال في وصف الحادث بالعلو: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [19/57]، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [19/50]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالملك: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} الآية [62/1]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} الآية [59/23]، وقال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [54/55].
وقال في وصف الحادث به: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} الآية [12/43]، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [12/50] و [12/54]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [18/79]، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [2/247]، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [3/26] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالعزة: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [2/209]، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [62/1]، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [38/9].
وقال في وصف الحادث بالعزة {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} الآية[12/51]، {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [38/23].
وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [59/23].
وقال في وصف الحادث بهما: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [40/35]، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [39/60]، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [26/130] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في وصف نفسه بالقوة: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [51/58]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [22/40].
وقال في وصف الحادث بها: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الآية [41/15]، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية[11/52]، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [28/26]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ
جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} الآية [30/54]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله، وجلاله. وإنما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث، ولا إشكال في شيء من ذلك، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون؛ هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته؛ أنها صفات معان أثبتها الله، جل وعلا، لنفسه، كالرأفة والرحمة.
قال في وصفه جل وعلا بهما: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [16/47]، وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [9/128]، وقال في وصف نفسه بالحلم: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [22/59].
وقال في وصف الحادث به: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [37/101]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [9/114].
وقال في وصف نفسه بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [2/182] و [5/34] و [5/39] و [5/98] و [8/69] و [9/5] و [9/99] و [9/102] و [24/62] و [29/14] و [60/12] و [73/20]. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [49/3]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بها: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [42/43]، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} الآية[45/14]، . {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [2/263]، ونحو ذلك من الآيات.
ووصف نفسه جل وعلا بالرضى، ووصف الحادث به أيضاً فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [5/119]، ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة، ووصف الحادث بها، فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [5/54]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية[3/31].
ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الآية[5/60]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية [4/93].
وقال في وصف الحادث بالغضب: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [7/150]، وأمثال هذا كثير جداً.
والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع أوهام المشابهة بين صفاته جل وعلا، وبين صفات خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فإذا حققت كل ذلك علمت ذلك أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات، فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه، ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال، والجلال؛ القاضية بعظمته وجلاله جل وعلا، وأنه الرب وحده، المستحق لأن يعبد وحده.
الموضع الأول: بحسب ترتيب المصحف الكريم، قوله هنا في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [54].
الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة "يونس": {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [3-4].
الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة "الرعد": {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2، 3، 4].
الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة "طه": {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [2-6].
الموضع الخامس: قوله في سورة "الفرقان" {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [58، 59].
الموضع السادس: قوله تعالى في سورة "السجدة" {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} الآية [4، 5].
الموضع السابع: قوله تعالى في سورة "الحديد" {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [57/4].
وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الآية[43/13]، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الآية[23/28]، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} الآية [11/44]، ونحو ذلك من الآيات.
وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضاً استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق؛ على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، كما تقدم إيضاحه.
وينبغي للناظر في هذه المسألة التأمل في أمور:
الأمر الأول: أن جميع الصفات من باب واحد؛ لأن الموصوف بها واحد، ولا
يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم، فمن أثبت مثلاً أنه: سميع بصير. وسمعه وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات؛ كالاستواء، واليد، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال.
الأمر الثاني: أن الذات والصفات من باب واحد أيضاً، فكما أنه جل وعلا، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق.
الأمر الثالث: في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات؛ كالاستواء واليد مثلاً.
اعلم أولاً: أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا: في الآيات القرآنية، هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً؛ لأن اعتقاد ظاهرة كفر؛ لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.
والنَّبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [16/44]، لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء، على أنه صلى الله عليه وسلم: لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنَّبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!
ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث.
فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى
ـــــــ
1 واحتج أهل التأويل بحديث ابن ماجه الذي أخرجه في مقدمته بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، فقال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل". فهذا يشعر أن التأويل حاجة لا بد منها وإن أتت متأخرة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته، وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله؛ لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهاً أولا، ومعطلا ثانياً، فارتكب ما لا يليق الله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي، طاهراً من أقذار التشبيه؛ لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فلو قال متنقطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها، قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا، فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو، كما أثنى على نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [20/110]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [112/1-4]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [16/74].
فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد، وأن الحق فيها متركب من أمرين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشهابة الخلق.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً، أو نفياً؛ وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، والسلف الصالح رضي الله عنهم، ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم، ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي: "الطويل":
وكيف أخاف الناس والله قابض ... على الناس والسبعين في راحة اليد
ـــــــ
1 أي التي تشعر بالجسمية.
ومراده بالسبعين: سبع سماوات، وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة.
ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، ذكر في هذه الآية الكريمة: أن رحمته جل وعلا قريب من عباده المحسنين، وأوضح في موضع آخر صفات عبيده الذين سيكتبها لهم في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآية[7/156].
ووجه تذكير وصف الرحمة مع أنها مؤنثة في قوله: {قَرِيبٌ} [7/56]، ولم يقل قريبة، فيه للعلماء أقوال تزيد على العشرة، نذكر منها إن شاء الله بعضاً، ونترك ما يظهر لنا ضعفه أو بعده عن الظاهر.
منها: أن الرحمة مصدر بمعنى الرحم، فالتذكير باعتبار المعنى.
ومنها: أن من أساليب اللغة العربية أن القرابة إذا كانت قرابة نسب تعين التأنيث فيها في الأنثى فتقول: هذا المرأة قريبتي أي في النسب، ولا تقول: قريب مني؛ وإن كانت قرابة مسافة جاز التذكير والتأنيث، فتقول: داره قريب وقريبة مني، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [42/17]، وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [33/63]، وقول امرىء القيس: "الطويل"
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
ومنها: أن وجه ذلك إضافة الرحمة إلى الله جل وعلا.
ومنها: أن قوله {قَرِيبٌ}، صفة موصوف محذوف، أي: شيء قريب من المحسنين.
ومنها: أنها شبهت بفعيل بمعنى مفعول الذي يستوي فيه الذكر والأنثى.
ومنها: أن الأسماء التي على فعيل ربما شبهت بالمصدر الآتي على فعيل، فأفردت لذلك؛ قال بعضهم: ولذلك أفرد الصديق في قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [24/61]، وقول الشاعر: "المتقارب"
وهن صديق لمن لم يشب اهـ
والظهير في قوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [66/4]، إلى غير ذلك من الأوجه.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، على قراءة عاصم {بَشَرًا} بضم الباء الموحدة، وإسكان الشين: جمع بشير؛ لأنها تنتشر أمام المطر مبشرة به، وهذا المعنى يوضحه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} الآية [30/46]، وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [7/57]، يعني برحمته المطر كما جاء مبيناً في غير هذا الموضع، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} الآية [42/28]، وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [30/50].
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية، بين في هذه الآية الكريمة أنه يحمل السحاب على الريح، ثم يسوقه إلى حيث يشاء من بقاع الأرض، وأوضح هذا المعنى آيات كثيرة كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية[35/9]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [32/27]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} الآية، أنكر تعالى في هذه السورة الكريمة على قوم نوح، وقوم هود عجبهم من إرسال رجل؛ وبين في مواضع أخر أن جميع الأمم عجبوا من ذلك. قال في عجب قوم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [10/2]، وقال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} الآية[50/2]، وقال عن الأمم السابقة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [64/6]، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} الآية [54/23، 24]، وقال: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [23/34]، وصرح بأن هذا العجب من إرسال بشر مانع للناس من الإيمان بقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [17/94].
ورد الله عليهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} الآية[21/7]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [25/20]، وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} الآية[6/9]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا}، لم يبين هنا كيفية إغراقهم، ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} الآية [54/11]، وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [29/14].
قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الآية، لم يبين هنا شيئاً من هذا الجدال الواقع بين هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين عاد. ولكنه أشار إليه في مواضع أخر كقوله: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [11/53-56].
قوله تعالى: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} الآية،لم يبين هنا كيفية قطعه دابر عاد، ولكنه بينه في مواضع أُخر كقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} الآية [69/6]، وقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} الآية [51/41]، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} الآية، ظاهر هذه الآية الكريمة أن عقرها باشرته جماعة، ولكنه تعالى بين في سورة القمر: أن المراد أنهم نادوا واحداً منهم، فباشر
عقرها، وذلك في قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [29].
قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية،لم يبين هنا هذا الذي يعدهم به، ولكنه بين في مواضع أخر أنه العذاب كقوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [11/64]، وقوله هنا {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ} [7/73]، وقوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [11/65]، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، لم يبين هنا سبب رجفة الأرض بهم، ولكنه بين في موضع آخر أن سبب ذلك صيحة الملك بهم، وهو قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} الآية [11/67]، والظاهر أن الملك لما صاح بهم رجفت بهم الأرض من شدة الصيحة، وفارقت أرواحهم أبدانهم، والله جل وعلا أعلم.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} الآية، وبين تعالى هذه الرسالة التي أبلغها نبيه صالح إلى قومه في آيات كثيرة كقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، بين تعالى أن المراد بهذه الفاحشة اللواط بقوله بعده: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} الآية[7/81]، وبين ذلك أيضاً بقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [26/165]، وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [29/29].
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لم ينج مع لوط إلا خصوص أهله، وقد بيَّن تعالى ذلك في "الذاريات" بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [51/35، 36]، وقوله هنا: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [7/83]، أوضحه في مواضع أخر: فبين أنها خائنة، وأنها من أهل النار، وأنها واقعة فيما أصاب قومها من الهلاك، قال فيها: هي وامرأة نوح: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [66/10، وقال فيها وحدها، أعني امرأة لوط {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [11/81]،
وقوله هنا في قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [7/84].
لم يبين هنا هذا المطر ما هو، ولكنه بين في مواضع أخر أنه مطر حجارة أهلكهم الله بها كقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [15/74]، وأشار إلى أن السجيل الطين بقوله في "الذاريات": {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [51/33]، وبين أن هذا المطر مطر سوء لا رحمة بقوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [25/40]، وقوله تعالى في "الشعراء": {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [173].
قوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} ، الضمير في قوله: {وَتَبْغُونَهَا}، راجع إلى السبيل وهو نص قرآني على أن السبيل مؤنثة، ولكنه جاء في موضع آخر ما يدل على تذكير السبيل أيضاً، وهو قوله تعالى: في هذه السورة الكريمة: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [7/146].
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، بين تعالى حكمه الذي حكم به بينهم بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [11/94]، وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [7/78]، وقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}، وقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [26/189]، فإن قيل: الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر تعالى في الأعراف أنه رجفة، وذكر في هود أنه صيحة، وذكر في الشعراء أنه عذاب يوم الظلة.
فالجواب: ما قاله ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"، قال: وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابه عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام اهـ. منه.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، بين جل وعلا الرسالات التي أبلغها رسوله شعيب إلى قومه
في آيات كثيرة كقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} الآية [11/84]، ونحوها من الآيات. وبين نصحه لهم في آيات كثيرة، كقوله: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} الآية [11/89]، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [7/93]، أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى، أي: الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجاً وعناداً، وإنكاره لذلك يدل على أنه لا ينبغي، وقد صرح تعالى بذلك فنهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه في قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [5/68]، ومعنى {لا تَأْسَ}: لا تحزن،
وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} الآية [16/127].
قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} الآية، ذكر أنباءهم مفصلة في مواضع كثيرة، كالآيات التي ذكر فيها خبر نوح وهود، وصالح ولوط، وشعيب وغيرهم، مع أممهم صلوات الله وسلامه عليهم.
قوله تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} الآية، في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه من التفسير: بعضها يشهد له القرآن.
منها: أن المعنى فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به، ولم يؤمنوا به، لاستحالة التغير فيما سبق به العلم الأزلي. ويروى هذا عن أبي بن كعب وأنس، واختاره ابن جرير، ويدل لهذا الوجه لآيات كثيرة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية[10/96]، وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [10/101]، ونحو ذلك من الآيات.
ومنها: أن معنى الآية أنهم أخذ عليهم الميثاق، فآمنوا كرهاً، فما كانوا ليؤمنوا بعد ذلك طوعاً. ويروى هذا عن السدي وهو راجع في المعنى إلى الأول.
ومنها: أن معنى الآية أنهم لو ردوا إلى الدنيا مرة لكفروا أيضاً، فما كان ليؤمنوا في الرد إلى الدنيا بما كذبوا به من قبل، أي: في المرة الأولى، ويروى هذا عن مجاهد. ويدل لمعنى هذا القول قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [6/28]، لكنه بعيد من ظاهر الآية.
ومنها: أن معنى الآية: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، وهذا القول حكاه ابن عطية، واستحسنه ابن كثير، وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية الكريمة. ووجهه ظاهر؛ لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [4/155]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [61/5]، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [2/10]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [63/3]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها أوجه من التفسير كلها يشهد له قرآن، وكلها حق. فنذكر جميعها والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} الآية، بين تعالى هنا أن فرعون وملأه ظلموا بالآيات التي جاءهم بها موسى، وصرح في النمل بأنهم فعلوا ذلك جاحدين لها، مع أنهم مستيقنون أنها حق لأجل ظلمهم وعلوهم؛ وذلك في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [13، 14].
وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ، ذكر تعالى هنا أن موسى نزع يده فإذا هي بيضاء، ولم يبين أن ذلك البياض خال من البرص، ولكنه بين ذلك في سورة "النمل" و "القصص" في قوله فيهما: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [12؛/32]، أي من غير برص.
قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ، بين هنا أن موسى لما جاء بآية العصا واليد، قال الملأ من قوم فرعون إنه ساحر، ولم يبين ماذا قال فرعون: ولكنه بين في "الشعراء" أن فرعون قال مثل ما قال الملأ من قومه، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [26/34].
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} ، لم يبين هنا هذا السحر العظيم ما هو؟ ولم يبين هل أوجس موسى في نفسه الخوف منه؟ ولكنه بين كل ذلك في "طه" بقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [66-69]، ولم يبين هنا أنهم تواعدوا مع موسى موعداً لوقت مغالبته مع السحرة، وأوضح ذلك في سورة "طه" في قوله عنهم: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} الآية[58-59].
قوله تعالى: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، لم يبين هنا الشيء الذي توعدهم بأنهم يصلبهم فيه، ولكنه بينه في موضع آخر، كقوله في "طه" {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} الآية[71].
قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي قحط وجدب ونحو ذلك، تطيروا بموسى وقومه فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} الآية [4/78]، وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية [27/47]، وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية[36/18]، وبين تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم ومعاصيهم، لا من قبل الرسل، قال في "الأعراف": {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [131]، وقال في سورة "النمل" في قوم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [27/47]، وقال في "يس": {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية[19].
قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية، لم يبين هنا من هؤلاء القوم، ولكنه صرح في سورة "الشعراء": بأن المراد بهم بنو إسرائيل لقوله في القصة بعينها: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} الآية[59]، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية[7/137].
قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية،لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم، ولكنه بينها في "القصص" بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [28/5، 6].
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تراني} الآية، استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكور، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم، كما صرح به تعالى في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [75/22]، وقوله في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [83/15]، فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.
وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [10/26]، {الْحُسْنَى}: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [50/35]، وقد تواترت الأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار: جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا، قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [7/143]؛ لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى، وأما شرعاً فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح، وأما في الدنيا فممنوعة شرعاً كما تدل عليه آية "الأعراف" هذه، وحديث: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا"، كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب".
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}، بين في هذه الآية الكريمة سخافة عقول عبدة العجل، ووبخهم على أنهم يعبدون ما لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً، وأوضح هذا في "طه"، بقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} الآية[89]، وقد قدمنا في سورة "البقرة"، أن جميع آيات اتخاذهم العجل إلاهاً حذف فيها المفعول الثاني في جميع القرآن، كما في قوله هنا: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} الآية" 7/148]، أي اتخذوه إلاها، وقد قدمنا أن النكتة في حذفه دائماً التنبيه: على أنه لا ينبغي التلفظ بأن عجلاً مصطنعاً من جماد إله، وقد أشار تعالى إلى هذا المفعول المحذوف دائماً في "طه" بقوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [20/88].
قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ
لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن عبدة العجل اعترفوا بذنبهم، وندموا على ما فعلوا، وصرح في سورة "البقرة" بتوبتهم ورضاهم بالقتل وتوبة الله جل وعلا عليهم بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [54].
قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} الآية، أوضح الله ما ذكره هنا بقوله في "طه" {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} .الآية [86، 87].
قوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} الآية، أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ما اعتذر به نبي الله هارون لأخيه موسى عما وجهه إليه من اللوم، وأوضحه في "طه"، بقوله: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [94]، وصرح الله تعالى ببراءته بقوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [20/90، 91].
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/28]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1]، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [11/17]، وقيد في موضع آخر: عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [6/19]، وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [3/20]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} الآية، لم يبين هنا كثرة كلماته، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً
لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [18/109]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [31/27].
قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} الآية، هذا الميثاق المذكور يبينه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [3/187].
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}.
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء:
أحدهما: أن معنى أخذه ذرية بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين كما قال تعالى: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [6/133]، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} [35/39]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} [27/62]، ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [7/172]، أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه فمعنى: {قَالُواْ بَلَى}، أي: قالوا ذلك: بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [9/17]، أي: بلسان حالهم على القول بذلك، وقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [100/6، 7]، أي: بلسان حاله أيضاً على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضاً.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن الله جل وعلا جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك به جل وعلا، في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [7/172، 173]، قالوا: فلو كان الإشهاد المذكور الإشهاد عليهم يوم الميثاق، وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم؛
لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسل بالميثاق المذكور كاف في ثبوته، قلنا: قال ابن كثير في "تفسيره" : "الجواب عن ذلك أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا} الآية. اهـ منه بلفظه.
فإذا علمت هذا الوجه الذي ذكرنا في تفسير الآية، وما استدل عليه قائله به من القرآن، فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة.
أما وجه دلالة القرآن عليه، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من غرائب صنع الله؛ الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]، فإنه قال فيها: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية[4/165]، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم: هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في "طه" بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [134]، وأشار لها في "القصص" بقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [47]، ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك
بنصب الأدلة كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [67/8،9]، وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]، ومعلوم أن لفظة {كُلَّمَا} في قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ}، صيغة عموم، وأن لفظة {الَّذِينَ} في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، صيغة عموم أيضاً؛ لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته.
وأما السنة: فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال أبو عمر، يعني ابن عبد البر، لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. اهـ. محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة، هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في "شرح مسلم"، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في "مراقي السعود"، بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع
وقد حققنا هذه المسألة مع مناقشة أدلة الفريقين في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولذلك اختصرناها هنا.
قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} الآية، ضرب الله تعالى المثل لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب، ولم تكن حقارة الكلب مانعة من ضربه تعالى المثل به، وكذلك ضرب المثل بالذباب في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [22/73]، وكذلك ضرب المثل ببيت
العنكبوت في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [29/41]، وكذلك ضرب المثل بالحمار في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [62/5]، وهذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يستحيي من بيان العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة، وقد صرح بهذا المدلول في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [2/26] .
قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، هدّد تعالى في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين:
الأول: صيغة الأمر في قوله: {وَذَرُوا} فإنها للتهديد.
والثاني: في قوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وهدد الذين يلحدون في آياته في سورة حم "السجدة" بأنهم لا يخفون عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [41/40]، ثم أتبع ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} الآية، وأصل الإلحاد في اللغة: الميل، ومنه اللحد في القبر، ومعنى إلحادهم في أسمائه هو ما كاشتقاقهم اسم اللات من اسم الله، واسم العزى من اسم العزيز، واسم مناة من المنان، ونحو ذلك. والعرب تقول لحد وألحد بمعنى واحد، وعليهما القراءتان يلحدون بفتح الياء والحاء من الأول، وبضمها وكسر الحاء من الثاني.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدل على ذلك أيضاً كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [79/42، 43، 44]، وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [6/59]، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [31/34].
قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} الآية، وهذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وقد أمره تعالى أن يقول إنه لا يعلم الغيب في قوله في "الأنعام": {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
[50] وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [72/26، 27]، وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية [27/65]، إلى غير ذلك من الآيات.
والمراد بالخير في هذه الآية الكريمة قيل: المال، ويدل على ذلك كثرة ورود الخير بمعنى المال في القرآن، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [100/8]، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [2/180]، وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} الآية [2/215]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل: المراد بالخير فيها العمل الصالح كما قاله مجاهد وغيره، والصحيح الأول لأنه صلى الله عليه وسلم مستكثر جداً من الخير الذي هو العمل الصالح؛ لأن عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملاً أثبته.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الآية، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي: ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [30/21].
قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، والقرآن يشهد لأحدهما:
الأول: أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت، فجاءها الشيطان، فقال لها سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث فقال تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} [7/190]، أي: ولداً إنساناً ذكراً جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث، وقد جاء بنحو هذا حديث مرفوع وهو معلول كما أوضحه ابن كثير في "تفسيره".
الوجه الثاني: أن معنى الآية أنه لما آتى آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء؛ لأنهما أصل لذريتهما كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [7/11]، أي بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم بدليل قوله بعده: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده: {فَتَعَالَى اللَّهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [7/190، 191]، وهذا نص قرآني صريح في أن المراد المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن البصري، واختاره ابن كثير ، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، بين في هذه الآية الكريمة ما بنبغى أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن، فبين أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته، وأن شيطان الجن لا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه، قال في الأول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [7/199]، وقال في الثاني: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [7/200]، وبين هذا الذي ذكرنا في موضعين آخرين.
أحدهما: في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [23/1]، قال فيه في شيطان الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [96]، وقال في الآخر: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [97، 98].
والثاني: في حم "السجدة"، قال فيه في شيطان الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [41/34]، وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلا لذي الحظ الكبير والبخت العظيم عنده، فقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [41/35]، ثم قال في شيطان الجن: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [41/36].
قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}، ذكر في هذه الآية الكريمة أن إخوان الإنس من الشياطين يمدون الإنس في الغي، ثم لا يقصرون، وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [19/83]، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} [6/128]، وبين في موضع آخر أن بعض الإنس إخوان للشياطين، وهو قوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [17/27] .
تم بحمد الله تفسير سورة الأعراف
تعقيب المدون:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
الكتاب: التعريف بالقرآن الكريم
المؤلف: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
[الكتاب مرقم آليا، غير مطبوع]
(صفحات تعرف بالقرآن الكريم، وتوضح فضله ومكانته، وكونه مصدر التشريع الإسلامي نشرها موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)
التعريف بالقرآن الكريم: فضله، مكانته، وكونه المصدر الأول للتشريع الإسلامي
لا بد من قراءة القرآن، قراءة متدبرة واعية
حقا، إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه كلام الله
والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع
التعريف بالقرآن الكريم
فضله، مكانته، وكونه المصدر الأول للتشريع الإسلامي
"القرآن الكريم كلام الله منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله -تعالى- بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر…" (1) .
وصفه منزله بقوله -سبحانه-: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42] . كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] .
حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .
فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9] .
هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1] .
فتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وضمن للمسلمين الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بما شرع، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم. قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] . قال ابن عباس: "يتَّبعونه حق اتباعه، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال قتادة: "هؤلاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- آمنوا بكتاب الله فصدَّقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه.
نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن 1 - 3] . وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 30 - 31]
من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] . وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] .
قال علماء التفسير: "وعلُوُّ القرآن على سائر كتب الله -وإن كان الكل من عنده- بأمور، منها: أنه زاد عليها بسور كثيرة؛ فقد جاء في الحديث أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خُصَّ بسورة الحمد، وخواتيم سورة البقرة، وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن السبع الطوال مثل التوراة، والمئين مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد هذا فضل" وأخرج الإمام أحمد والطبراني، عن واثلة بن الأسقع، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأُعطيت مكان الزبور المئين، وأُعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل" (2)
والسبع الطوال: من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الأعراف، فهذه ست سور، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا؛ لعدم الفصل بينهما بالبسملة، بجعل الأنفال وبراءة بمنزلة سورة واحدة أم هي سورة يونس؟
والمئون: هي السور التي تزيد على مائة آية، أو تقاربها، والمثاني هي السور التي تلي المئين في عدد الآيات، أو هي السور التي يكون عدد آياتها أقل من مائة آية؛ لأنها تُثَنَّى أي تكرر أكثر مما تُثَنَّى الطوال والمئون.
وأما المفصل: فهو ما يلي المثاني من قصار السور. وقد اختلف في أوله فقيل: من أول سورة الصافات، وقيل: من أول سورة الفتح، وقيل: من أول سورة الحجرات، وقيل: من أول سورة ق -وهو الذي رجحه الحافظان: ابن كثير، وابن حجر- وقيل غير ذلك، واتفقوا على أن منتهى المفصل آخر القرآن الكريم.
ومنها: أن الله جعل أسلوبه معجزا، وإن كان الإعجاز في سائر كتب الله -تعالى- من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام، ولكن ليس فيها الأسلوب الخارج عن المعهود، فكان القرآن أعلى منها بهذه المعاني وأمثالها وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4] .
ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص 102، 103: "وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم -القرآن- الذي شرفه الله -تعالى- على كل كتاب أنزله، وجعله مهيمنا عليه، وناسخا له وخاتما له؛ لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة، وهذا القرآن نزل منجما بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به، وبمن أنزل عليه، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة" انتهى.
وهذا الكتاب المبارك قرر كثيرا من الحقائق العلمية الكونية في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته ووحدانيته، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وحث على الانتفاع بكل ما يقع تحت أبصارنا في الحياة مما خلقه الله قال -سبحانه-: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وقال -جلت قدرته-: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
فعلى المسلمين أن يُعملِوا أفكارهم في علوم الكون، ولا يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سماواته وأرضه.
_________
(1) شرح الطحاوية 1/172
(2) مسند الإمام أحمد 2/107
___
نعم إن الحديث عن القرآن الكريم لا يَنْضَب معينه، فهو الذي حَبَّب إلى المسلمين العدل والشورى، وكره إليهم الظلم والاستبداد، شعار متبعيه: قوة الإيمان، وإنكار الذات، والإيثار، والرحمة فيما بينهم.
فلنعش مع القرآن الكريم: تلاوة وفهما، وعملا وحفظا، فمعايشة القرآن من أجلِّ الأعمال التي يتصف بها المؤمنون، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
فالله -تبارك وتعالى- يشيد في هاتين الآيتين بالتالِينَ لكتابه، تلاوة مصحوبة بالتدبر الذي ينشأ عنه الإدراك والتأثر، ومما لا شك فيه أن التأثر يفضي بالقارئ -لا محالة- إلى العمل بمقتضى قراءته.
لذا أتبع الحق -تبارك وتعالى- القراءة بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سرا وعلانية من فضل الله، ثم برجاء القارئينَ بسبب ذلك تجارة لن تبور، فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون، ويتاجرون تجارة تؤدي إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله، إنه -سبحانه- غفور شكور، يغفر التقصير، ويشكر الأداء.
إذن فلا بد من قراءة القرآن، قراءة متدبرة واعية، تكون سببا في فهم الجمل القرآنية، فهما دقيقا، فإن عز على القارئ شيء في فهم المعنى سأل أهل الذكر، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ والمُدارسة القرآنية مطلوبة دائما، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه (1) "
وقوله -صلى اللهعليه وسلم - في هذا الحديث الشريف "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله (2) " ليس البيت قيدا؛ بدلالة رواية مسلم الأخرى: "لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفَّتهم الملائكة…" فإذا اجتمعوا في مكان آخر غير المسجد كان لهم هذا الفضل أيضا، فالتقييد ببيت الله خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، فالاجتماع للتلاوة، والمدارسة للتفقه في آيات الله، وما دلت عليه من أحكام وعبر في أي مكان يترتب عليه هذا الفضل، وإن كان الاجتماع للتلاوة والمدارسة في المسجد أفضل من الاجتماع في أي مكان آخر؛ لِما في المسجد من مزايا وخصائص ليست في غيره.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف (3) "
وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وهذا يدل على بيان فضل تعليم القرآن والترغيب فيه، وقد سئل سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه"
ومكث الإمام أبو عبد الرحمن السلمي يعلِّم القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة بسبب سماعه لهذا الحديث، وكان إذا روى هذا الحديث يقول: ذلك الذي أقعدني مقعدي هذا.
قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن (4) : "والغرض أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل:88] . وكما قال تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: 26] . في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [الأنعام: 157] . فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33] .
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
وكما شملت رحمة الله -تعالى- التالِينَ لكتابه، المقيمين لحدوده شملت أيضا المستمعين له، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ عليَّ. قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا قال: حسبك. فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان (5)
قال النووي "وفي هذا الحديث فوائد، منها: استحباب استماع القراءة، والإصغاء إليها والبكاء عندها، وتدبرها واستحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه". انتهى.
فيجب على كل مسلم أن يعرف للقرآن الكريم حقه، وأن يراعي حرمته، وأن يلتزم حدود الدِّين عند الاستماع لآيِ القرآن الكريم، وأن يقتفي آثار السلف الصالح في تلاوة القرآن الكريم والاستماع إليه، فقد كانوا شموسا مضيئة، يُحتذَى بهم في كمال الخشوع والتأثر، مؤمنين بقول الله -تعالى-: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] .
_________
(1) صحيح مسلم: ح 2699
(2) الترمذي: ح 3075
(3) صحيح البخاري: ح 4739
(4) فضائل القرآن 126، 127
(5) البخاري: ح 4582، ومسلم: ح 800، أبو داود: ح 3668
(6) شرح صحيح مسلم 6\88 .
حقا، إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه كلام الله، وهو المنهج السماوي للبشر كافة، وللخلق عامة، وهو المرجع الأول في أمور دِين المسلمين، وهو الحكم الذي إليه يحتكمون، وفصل قضائه الذي إليه ينتهون، والأحكام التي وردت في القرآن الكريم لم تصدر دفعة واحدة، بل نزلت تدريجيا طوال مدة الرسالة، فبعضها لتثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقوية قلبه، وبعضها لتربية هذه الأمة الناشئة، علما وعملا، والبعض الآخر نزل بمناسبة حالات وقعت فعلا للمسلمين في حياتهم اليومية، في أوقات مختلفة، وأزمنة متفرقة، فكلما وقع منها حادث نزل من القرآن الكريم ما يناسبه ويوضح حكم الله فيه، من ذلك الأقضية والوقائع التي كانت تحدث في المجتمع الإسلامي في عهد التشريع، فيحتاج المسلمون إلى معرفة حكمها، فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها، كتحريم الخمر.
فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قدم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: 219] . فقال الناس: ما حرَّمَ علينا إنما قال:
(فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) كانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من
المهاجرين، أَمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنزل الله فيها آية أغلظ
منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] . وكان الناس يشربون حتى
يأتي أحدهم الصلاة وهو مُفِيق، ثم أُنزلت آية أغلظ من ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
قالوا: انتهينا ربنا. فقال الناس: يا رسول الله: ناس قتلوا في سبيل الله، أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93] . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو حُرِّمت عليهم لتركوها كما تركتم" (1)
وفي صحيح البخاري (2) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال: فجرَت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قُتلَ قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
مما تقدم نعلم أن: النهي عن الخمر وقع مدرجا ثلاث مرات: حين نزلت آية سورة البقرة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وقد تضمن ذلك نهيا غير جازم، فترك شرب الخمر ناس كانوا أشد تقوى، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيًا"، ثم نزلت آية سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فتجنب المسلمون شربها في الأوقات التي يظن بقاء السكر فيها إلى وقت الصلاة، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيا". ثم نزلت آية سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
عند ذلك قال عمر -رضي الله عنه- عندما دُعِيَ وقُرِئَت
عليه: "انتهينا".
وهكذا كان التدرج في التشريع؛ ليطهر الله -سبحانه
وتعالى- الأمة الإسلامية من العادات المخالفة لمنهج الله، ويكملهم بالفضائل من
الصفح والحلم، والإيثار والمحبة والأمانة، ورعاية الجوار والعدل، وغير ذلك من كريم
الخصال.
فالله -تعالى- وحده هو المشرع لعباده، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] . ولا يشرع للناس إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم، سواء أظهرت الحكمة من ذلك أم لم تظهر.
_________
(1) مسند الإمام أحمد 2/351، 352
(2) ح:4620 .
والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع.
وأما السنة النبوية فهي المصدر الثاني للتشريع، ولا خلاف بين الفقهاء على أنها حجة في التشريع بجانب القرآن الكريم، قال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] . *وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] . وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] .
وهاهو الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله يحدد في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) دور السنة بالنسبة للقرآن الكريم فيقول (1) : "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
والثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، وتفسيرا له.
والثالث: أن تكون موجبة لحكمٍ سكتَ القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما".
لذا فالسنة قد تؤكد ما ورد في القرآن الكريم من أحكام، وقد تفسر نصوصه، أو تفصل ما أجمل من أحكامه، وقد تُنشئ حكما لحالات لم يرد بشأنها نص في الكتاب، ومع ذلك لا يلجأ إلى السنة دليلا للأحكام إلا عند خلو القرآن من نص يفي بالمطلوب، فالسنة هي التي وضحت لنا -نحن المسلمين- أن الصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة، وهي التي بينت لنا عدد ركعاتها وأركانها، وهي التي بينت لنا حقيقة الزكاة، وعلى من تجب وأنصبتها، وكيفية الحج والعمرة، وأن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، وبينت مواقيته، وعدد الطواف.
فعلى كل من يدعي أنه متمسك بالقرآن، ويهجر السنة أن
يبادر إلى تجديد إيمانه، وبالرجوع إلى الله -تعالى- قال -سبحانه-: وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .
فالقرآن الكريم، والسنة المطهرة هما وحي الله إلى رسوله
محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهما مصدرا التشريع الإسلامي الذي رد الإنسان إلى
فطرته، وجعل منه بشرا يعرف طريقه إلى الحياة، مرددا قول الله -تعالى-: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا
اللَّهُ [الأعراف: 43] .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
سورة الأَعْرَاف 7/114
سبب التسمية :
سُميت هذه السورة بسورة الأعراف لورود ذكر اسم الأعراف فيها وهو سور مضروب بين الجنة والنار يحول بين أهلهما روى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال :هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن دخول النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله بينهم .
التعريف بالسورة
1) سورة مكية ماعدا الآيات من " 163 : 170 " فمدنية ،
2) هي من سوره الطول .
3) عدد آياتها .206 آية ،
4) هي السورة السابعة في ترتيب المصحف ،
5) نزلت بعد سورة " ص " ،
6) تبدأ السورة بحروف مقطعة " المص " ،الآية 206 من السورة بها سجدة . ،
7) الجزء "9" ، الحزب " 16،17 ،18 " ، الربع " 1،2،3،4،5،6 " .
محور مواضيع السورة :
سورة الأعراف من أطول السور المكية وهي أول سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء ومهمتها كمهمة السورة المكية تقرير أصول الدعوة الإسلامية من توحيد الله جل وعلا وتقرير البعث والجزاء وتقرير الوحي والرسالة .
سبب نزول السورة :
1) عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلاها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجوه الحمُرِ من الذباب وهي تقول : " اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا له منه فلا أُحِلّه " فأنزل الله تعالى على نبيه " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " فأُمِروا بلبس الثياب .
2) عن أبي بكر
الهذلي قال : لما نزلت " ورحمتي وسعت كل شئ " قال إبليس: يا رب وانا من
الشىء فنزلت " فسأكتبها للذين يتقون " الآية فنزعها الله من إبليس
3) قال ابن مسعود :
نزلت في بلعم بن باعورا رجل من بني إسرائيل وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : هو
بلعم بن باعورا وقال الوالبي : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم وكان يعلم
اسم الله الأعظم فلما نزل بهم موسىأتاه بنو عمه وقومه وقالوا إن موسى رجل حديد
ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه قال
إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا
عليهم فسلخه مما كان عليه فذلك قوله فانسلخ منها
4) وقال عبد الله
بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكان قد قرأ
الكتب وعلم أن الله مُرسِلُ رسولا في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أُرسِلَ محمدحسده وكفر به وروى
عكرمة عن ابن عباسفي هذه الآية قال : هو رجل أُعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيها
وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكانت له محبة فقالت اجعل لي
منها دعوة واحدة قال لك واحدة فماذا تأمرين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في
بني اسرائيل فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا أخر فدعا الله
عليها أن يجعلها كلبة نبآية فذهبت فيها دعوتان وجاء بنوها فقالوا ليس لنا على هذا
قرار قد صارت امنا كلبة نبآية يعيرنا بها الناس فادع الله ان يردها إلى الحال التي
كانت عليها فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وهي البسوس وبها يضرب
المثل في الشؤم فيقال أشام من البسوس
5) قال ابن عباس: قال جهل بن أبي قشير وشموال بن زيد وهما من اليهود: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا ؟ فإنّا نعلم متى هي ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قتادة : قالت قريش لمحمد : إن بيننا وبينك قرابة فَاسِرّ الينا متى تكون الساعة؟ فأنزل الله تعالى " يسألونك عن الساعة ". أخبرنا أبو سعيد بن أبي بكر الوراق قال أخبرنا محمد بن أحمد بن حمدان قال حدثنا أبو يعلى قال حدثنا عقبة بن مكرم قال حدثنا يونس قال حدثنا عبد الغفار بن القاسم عن ابان بن لقيط عن قرظة بن حسان قال سمعت ابا موسى في يوم جمعة على منبر الصلاة يقول : سئل رسول الله عن الساعة وأنا شاهد فقال: لا يعلمها إلا الله لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن سأحدثكم بأشراطها وما بين يديها إن بين يديها ردما من الفتن وهرجا ، فقيل : وما الهرج يا رسول الله ؟ قال : هو بلسان الحبشة القتل وأن تحصر قلوب الناس وأن يلقى بينهم التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدا ويرفع ذوو الحجى وتبقى رجاجة من الناس لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا .
فضل السورة :
2) عن أبي أيوب وزيد بن ثابت " أن النبي قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين جميعا "سورة رقم -7-
قلت المدون تم بحمد الله ثم قلت :سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تََشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين اللهم تقبل واستجب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق