القران كاملا مشاري

حمل المصحف بكل صيغه

 حمل المصحف

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 31 ديسمبر 2022

تفسير الآيات من 31 الي37. من سورة الأعراف


  

 

 =====================

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

أولا: تفسير ابن كثير

الأعراف - تفسير ابن كثير

يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) }

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير (1) -واللفظ له -من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء: الرجال بالنهار، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول:

اليومَ يبدُو بعضُه أو كُلّه ... وما بَدَا مِنْه فلا أحِلّهُ ...

فقال الله تعالى: { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (2)

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله [تعالى] (3) { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية، قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة -والزينة: اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع -فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك،

__________

(1) في أ: "ابن ماجة".

(2) صحيح مسلم برقم (3028) وسنن النسائي (5/233) وتفسير الطبري (12/390).

(3) زيادة من أ.

== ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها أنزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنزلت (1) في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر (2) والله أعلم.

ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب (3) البياض، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر".

هذا حديث جيد الإسناد، رجاله (4) على شرط مسلم. ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به (5) وقال الترمذي: حسن صحيح.

وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" (6)

وروى الطبراني بسند (7) صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين: أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه.

وقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (8) الآية. قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا }

وقال البخاري: قال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرَف ومَخِيلة.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن

ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده

__________

(1) في أ: "نزلت".

(2) ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (3/143) من طريق عباد بن جويرية، عن الأوزاعي، عن قتادة به. وعباد بن جويرية قال فيه الإمام أحمد: "كذاب أفاك".

ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/287) من طريق يعقوب، الدعاء عن يحيى بن عبد الله الدمشقي، عن الأوزاعي به.

ويعقوب وشيخه لا يعرفان.

(3) في د، ك، م، أ: "اللباس".

(4) في م: "رجاله كلهم ثقات".

(5) المسند (1/247) وسنن أبي داود برقم (4061) وسنن الترمذي برقم (944) وسنن ابن ماجة برقم (1472).

(6) المسند (5/7) وسنن النسائي (8/205).

(7) في م: "بإسناد".

(8) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية". صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى (1) نعمته على عبده" (2)

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة" (3)

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي (4) سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي (5) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه".

ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به (6) وقال الترمذي: حسن -وفي نسخة: حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز (7) حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف ابن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت".

ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية. (8)

وقال السُّدِّي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله [تعالى] (9) لهم: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (10) يقول: لا تسرفوا في التحريم.

وقال مجاهد: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَلا تُسْرِفُوا } يقول: ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: { وَكُلُوا (11) وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }

__________

(1) في ك: "ترى".

(2) المسند (2/182).

(3) سنن النسائي (5/79) وسنن ابن ماجة برقم (3605).

(4) في أ: "الطائي قال".

(5) في ك: "العبدي".

(6) المسند (4/132) النسائي في السنن الكبرى برقم (6768) وسنن الترمذي برقم (2380).

(7) في جميع النسخ: "سويد بن عبد العزيز" وصوابه: "سويد بن سعيد" كما في مسند أبي يعلى وكتب الرجال.

(8) مسند أبي يعلى (5/154) وأطراف الغرائب والأفراد لابن القيسراني (ق72) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3352) من طريق سويد بن سعيد به. وقال البوصيري في الزوائد (3/95): "هذا إسناد ضعيف" وهو مسلسل بالعلل.

(9) زيادة من م.

(10) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ "الآية".

(11) في م: "كلوا".

  قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

في الطعام والشراب.

وقال ابن جرير: وقوله: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } يقول الله: إن الله [تعالى] (1) لا يحب المتعدين (2) حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) }

يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله: { قُلْ } يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] } (3) الآية، أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا (4) في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.

قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون. فأنزل الله: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } فأمروا بالثياب. (5)

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) }

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله" .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود (6) وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله: { وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال السُّدِّي: أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.

__________

(1) زيادة من ك.

(2) في ك، م: "المعتدين".

(3) زيادة من ك، م، أ.

(4) في ك: "حبا".

(5) المعجم الكبير (12/13)، وقال الهيثمي في المجمع (7/23): "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف".

(6) المسند (1/381)، وصحيح البخاري برقم (4634)، وصحيح مسلم برقم (2760).

  وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

وقال مجاهد:الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.

وحاصل ما فُسّر (1) به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.

وقوله: { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه (2) من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ [وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] } (3) الآية [ الحج : 30 ، 31 ].

{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) }

يقول تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } أي: قرن وجيل { أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } أي: ميقاتهم المقدر لهم { لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } عن ذلك (4) { وَلا يَسْتَقْدِمُونَ }

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال: { فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ } أي: ترك المحرمات وفعل الطاعات { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا } أي: كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي: ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) }

يقول [تعالى] (5) { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي: لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنزلة.

{ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس: ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به،

__________

(1) في أ: "فسرا".

(2) في ك: "على الله".

(3) زيادة من ك، م، أ.

(4) في أ: "أي من ذلك".

(5) زيادة من أ.

 == ومن عمل شرًا جُزِي به.

وقال مجاهد: ما وعدوا فيه من خير وشر.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد. واختاره ابن جرير.

وقال محمد بن كعب القرظي: { أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } قال: عمله ورزقه وعمره.

وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله: { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [تعالى] (1) { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] وقوله { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ] } (2) [ لقمان : 23 ، 24 ] .

وقوله [تعالى] (3) { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] } (4) الآية: يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم (5) عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم (6) أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم (7) مما أنتم فيه. قالوا: { ضَلُّوا عَنَّا } أي: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم. { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي: أقروا واعترفوا على أنفسهم { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } .

__________

(1) زيادة من أ.

(2) زيادة من د، ك، م، أ.

(3) زيادة من أ.

(4) زيادة من أ.

(5) في أ: "تقرعهم".

(6) في د: "قائلين لهم".

(7) في أ: "يخلصونكم". 

تفسير القرطبي /الأعراف - تفسير القرطبي

 

الآية: 31 {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}

 فيه سبع مسائل:-

الأولى:قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا؛ فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا! للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تِطوافا؟ تجعله على فرجها. وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . التطواف "بكسر التاء". وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط؛ قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى؛ قال قائل من العرب:

كفى حزنا كري عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم

فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} الآية. وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يطوف بالبيت عريان.

  قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: "خذوا زينة الصلاة" قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: "البسوا نعالكم فصلوا فيها".

الثانية: دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام للمسور بن مخرمة: "أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة". أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه؛ قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها. وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال: "ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن" . قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود؛ فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا إست ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.

  الثالثة: واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه؛ لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - وأحسبه قال: في تبان وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني.

الرابعة: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان

== والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" . خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} . فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: "المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته" . فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.

قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصل كل دواء الحمية" . والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء؛ ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح.

الخامسة: روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعىً واحد" . وهذا منه صلى الله عليه وسلم

حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم:

تكفيه فلذة كبد إن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر

وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة. وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقال الخطاب: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معى واحد" أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله عليه السلام: "والكافر يأكل في سبعة أمعاء" ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم. وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقبل: حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما. وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة.

السادسة: وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله عليه السلام: "الوضوء قبل الطعام وبعده بركة" . وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة" حديث صحيح. ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها. وسيأتي بعضها في سورة "هود" إن شاء الله تعالى. وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله" .

قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُو} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأ؛ فقال: "اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة" . فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى.  /قلت: وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام: "المؤمن يأكل في معى واحد" أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم. وقال ابن زيد: معنى {وَلا تُسْرِفُوا} لا تأكلوا حراما. وقيل: "من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت". رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: {آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} أي في تحريم ما لم يحرم عليكم.

الآية: 32 {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}

فيه أربع مسائل:-

الأولى: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .

الثانية: وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة" . فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي. وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائه قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: "نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال" . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين.

الثالثة: قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. ويروى "صرائق" بالراء، وهما جميعا الجرادق. والصلائق "باللام": ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء "بكسر الصاد والمد": الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم.

قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .وقال عليه السلام: "سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم". وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: "يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا". والطبيخ لغة في البِطيخ، وهو من المقلوب. وقد مضى في "المائدة" الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله.

الرابعة: قوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث:"لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم وير زقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد". وتم الكلام على {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . ثم قال {خَالِصَةً} بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. {خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد. وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {آمَنُوا}. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على {الدُّنْيَا}. لأن ما بعده متعلق بقول {لِلَّذِينَ آمَنُوا} حال منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو علي. وخبر الابتداء {لِلَّذِينَ آمَنُوا} والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: {لِلَّذِينَ} واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه.

الآية: 33 {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}

فيه مسألة واحدة:

قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} نكاح الأمهات في الجاهلية. {وَمَا بَطَنَ} الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر؛ فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. {وَالْأِثْمَ} قال الحسن: الخمر. قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول  وقال آخر:  نشرب الإثم بالصواع جهارا ... وترى المسك بيننا مستعارا

{وَالْبَغْيَ} الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق؛ إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما؛ فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا {وَأَنْ تُشْرِكُوا}{وَأَنْ تَقُولُوا} وهما في موضع نصب عطفا على ما قبل. وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي؛ كما قال الشاعر:

إني وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله وشره الإثم

قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال: "ولا حجة في البيت؛ لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك، الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني". قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد:

شربت الإثم...... ... ............. البيت

وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد.

الآية: 34 {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}

فيه مسألة واحدة: قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي وقت مؤقت. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} أي الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين {جاء آجالهم} بالجمع {لا يَسْتَأْخِرُونَ} عنه ساعة ولا أقل من ساعة؛ إلا أن الساعة خصت بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات، وهي ظرف زمان. {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} فدل بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله. وأجل الموت هو وقت الموت؛ كما أن أجل الدين هو وقت حلوله. وكل شيء وقت به شيء فهو أجل له. وأجل الإنسان هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة. وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره. وقال كثير من المعتزلة إلا من شذ منهم: إن المقتول مات بغير أجله الذي ضرب له، وإنه لو لم يقتل لحيي. وهذا غلط، لأن المقتول لم يمت من أجل قتل غيره له، بل من أجل ما فعله الله من إزهاق نفسه عند الضرب له. فإن قيل: فإن مات بأجله فلم تقتلون ضاربه وتقتصون منه؟. قيل له: نقتله لتعديه وتصرفه فيما ليس له أن يتصرف فيه، لا لموته وخروج الروح إذ ليس ذلك من فعله. ولو ترك الناس والتعدي من غير قصاص لأدى ذلك إلى الفساد ودمار العباد. وهذا واضح.

الآيتان: 35 - 36 {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} شرط. ودخلت النون توكيدا لدخول "ما". وقيل: ما صلة، أي إن يأتكم. أخبر أنه يرسل إليهم الرسل منهم لتكون إجابتهم أقرب. والقصص اتباع الحديث بعضه بعضا. {آيَاتِي} أي فرائضي وأحكامي.

قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} شرط، وما بعده جوابه، وهو جواب الأول. أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} دليل على أن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع. وقيل: قد يلحقهم أهوال يوم القيامة، ولكن مآلهم الأمن. وقيل: جواب {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} ما دل عليه الكلام، أي فأطيعوهم {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} والقول الأول قول الزجاج.

الآية: 37 {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}

قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} المعنى أي ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} أي ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل؛ عن ابن زيد. ابن جبير: من شقاء وسعادة. ابن عباس: من خير وشر. الحسن وأبو صالح: من العذاب بقدر كفرهم. واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم، أي ما قدر لهم من خير وشر ورزق وعمل وأجل؛ على ما تقدم عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير. {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يعني رسل ملك الموت. وقيل: {الْكِتَابِ} هنا القرآن؛ لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل: {الْكِتَابِ} اللوح المحفوظ. ذكر الحسن بن علي الحلواني قال: أملى علي علي بن المديني قال: سألت عبدالرحمن بن مهدي عن القدر فقال لي: كل شيء بقدر، والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفرية من قال: إن المعاصي ليست بقدر. قال علي وقال لي عبدالرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء. ثم عرضت كلام عبدالرحمن بن مهدي على يحيى بن سعيد فقال: لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير. وروى يحيى بن معين حدثنا مروان الفزاي حدثنا إسماعيل بن سميع عن بكير الطويل عن مجاهد عن ابن عباس {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قال: قوم يعملون أعمالا لا بد لهم من أن يعملوها. و{حَتَّى} ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم. قال الخليل وسيبويه: حتى وإما وألا  لا يملن لأنهن حروف ففرق بينها وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال الزجاج: تكتب حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى، ولو كتبت ألا بالياء لأشبهت إلى. ولم تكتب إما بالياء لأنها {إنْ} ضمت إليها ما. {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سؤال توبيخ. ومعنى {تَدْعُونَ} تعبدون. {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي بطلوا وذهبوا. قيل: يكون هذا في الآخرة. {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي أقروا بالكفر على أنفسهم.

  تفسير الدر المنثور/الأعراف - تفسير الدر المنثور

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

- أخرج ابْن أبي شيبَة وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن عَبَّاس  أَن النِّسَاء كن يطفن عُرَاة إِلَّا أَن تجْعَل الْمَرْأَة على فرجهَا خرقَة وَتقول: الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله وَأخرج عبد بن حميد عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: كَانَ النَّاس يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة يَقُولُونَ: لَا نطوف فِي ثِيَاب اذنبنا فِيهَا فَجَاءَت امْرَأَة فَأَلْقَت ثِيَابهَا وطافت وَوضعت يَدهَا على قَلبهَا وَقَالَت: الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله فَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله فَنزلت هَذِه الْآيَة {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} إِلَى قَوْله {والطيبات من الرزق}

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} قَالَ: كَانَ رجال يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة فَأَمرهمْ الله بالزينة والزينة اللبَاس وَهُوَ مَا يواري السوءة وَمَا سوى ذَلِك من جيّد الْبَز وَالْمَتَاع

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} قَالَ: مَا وارى الْعَوْرَة وَلَو عباءة

  وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} قَالَ: الثِّيَاب

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن طَاوس قَالَ: الشملة من الزِّينَة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ الْمُشْركُونَ يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة يأْتونَ الْبيُوت من ظُهُورهَا فيدخلونها من ظُهُورهَا وهم حَيّ من قُرَيْش يُقَال لَهُم الحمس فَأنْزل الله {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ نَاس من الْعَرَب يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة حَتَّى ان كَانَت الْمَرْأَة لتطوف بِالْبَيْتِ وَهِي عُرْيَانَة فَأنْزل الله {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} قَالَ: كَانُوا يطوفون عُرَاة بِالْبَيْتِ فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يلبسوا ثِيَابهمْ وَلَا يتعروا

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَت الْعَرَب إِذا حجُّوا فنزلوا أدنى الْحرم نزعوا ثِيَابهمْ وَوَضَعُوا رداءهم ودخلوا مَكَّة بِغَيْر رِدَاء إِلَّا أَن يكون للرجل مِنْهُم صديق من الحمس فيعيره ثَوْبه ويطعمه من طَعَامه فَأنْزل الله {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}

وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن عَطاء قَالَ: كَانَ الْمُشْركُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة فَأنْزل الله {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ حَيّ من أهل الْيمن يطوفون بِالْبَيْتِ وهم عُرَاة إِلَّا أَن يستعير أحدهم مئزراً من ميازر أهل مَكَّة فيطوف فِيهِ فَأنْزل الله {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن طَاوس فِي الْآيَة قَالَ: لم يَأْمُرهُم بِلبْس الْحَرِير والديباج وَلَكنهُمْ كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة وَكَانُوا إِذا قدمُوا يضعون ثِيَابهمْ خَارِجا من الْمَسْجِد ثمَّ يدْخلُونَ وَكَانَ إِذا دخل رجل وَعَلِيهِ ثِيَابه يضْرب وتنزع مِنْهُ ثِيَابه فَنزلت هَذِه الْآيَة {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}

  وَأخرج ابْن عدي وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذُوا زِينَة الصَّلَاة قَالُوا: وَمَا زِينَة الصَّلَاة قَالَ: البسوا نعالكم فصلوا فِيهَا

وَأخرج الْعقيلِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن عَسَاكِر عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَول الله {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} قَالَ صلوا فِي نعالكم

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا أكْرم الله بِهِ هَذِه الْأمة لبس نعَالهمْ فِي صلَاتهم

وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن شَدَّاد بن أَوْس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خالفوا الْيَهُود فَإِنَّهُم لَا يصلونَ فِي خفافهم وَلَا نعَالهمْ

وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا صلى أحدكُم فَخلع نَعْلَيْه فَلَا يؤذ بهما أحدا ليجعلهما بَين رجلَيْهِ أَو لِيُصَلِّ فيهمَا

وَأخرج أَبُو يعلى بِسَنَد ضَعِيف عَن عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ زين الصَّلَاة الْحذاء

وَأخرج الْبَزَّار بِسَنَد ضَعِيف عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: خالفوا الْيَهُود وصلوا فِي نعالكم فَإِنَّهُم لَا يصلونَ فِي خفافهم وَلَا فِي نعَالهمْ

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن مَسْعُود عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من تَمام الصَّلَاة الصَّلَاة فِي النَّعْلَيْنِ

وَأخرج أَحْمد عَن أبي أُمَامَة قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مشيخة من الْأَنْصَار بيض لحاهم فَقَالَ: يَا معشر الْأَنْصَار حمِّرُوا وصفِّروا وخالفوا أهل الْكتاب

قيل يَا رَسُول الله إِن أهل الْكتاب يتسرولون وَلَا يَأْتَزِرُونَ فَقَالَ رَسُول الله: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الْكتاب

قُلْنَا: يَا رَسُول الله إِن أهل الْكتاب يتخففون وَلَا ينتعلون فَقَالَ: تخففوا وَانْتَعِلُوا وخالفوا أهل الْكتاب قُلْنَا يَا رَسُول الله إِن أهل الْكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم فَقَالَ: قصوا سبالكم ووفِرُوا عثانينكم وخالفوا أهل الْكتاب

وَأخرج أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن أنس أَنه سُئِلَ أَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْه قَالَ: نعم

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: وجهني على بن أبي طَالب إِلَى ابْن الْكواء وَأَصْحَابه وَعلي قَمِيص رَقِيق وحلة فَقَالُوا لي: أَنْت ابْن عَبَّاس وتلبس مثل هَذِه الثِّيَاب فَقلت: أول مَا أخاصمكم بِهِ قَالَ الله {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} الْأَعْرَاف الْآيَة 32 و {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلبس فِي الْعِيدَيْنِ بردي حبرَة

وَأخرج أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما خرجت الحرورية أتيت عليا فَقَالَ: ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَلبِست أحسن مَا يكون من حلل الْيمن فأتيتهم فَقَالُوا: مرْحَبًا بك يَا ابْن عَبَّاس مَا هَذِه الْحلَّة قلت: مَا تعيبون عليّ لقد رَأَيْت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن مَا يكون من الْحلَل

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا صلى أحدكُم فليلبس ثوبيه فَإِن الله عز وَجل أَحَق من تزين لَهُ فَإِن لم يكن لَهُ ثَوْبَان فليتزر إِذا صلى وَلَا يشْتَمل أحدكُم فِي صلَاته اشْتِمَال الْيَهُود

وَأخرج الشَّافِعِي وَأحمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء

وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ عَن بُرَيْدَة قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي الرجل فِي لِحَاف لَا يتوشح بِهِ وَنهى أَن يُصَلِّي الرجل فِي سَرَاوِيل وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاء

وَأخرج ابْن ماجة عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أحسن مَا زرتم الله بِهِ فِي قبوركم ومساجدكم الْبيَاض

وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَابْن ماجة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا من خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم

وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألبسوا ثِيَاب الْبيَاض فَإِنَّهَا أطهر وَأطيب وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم

وَأخرج أَبُو دَاوُد عَن أبي الْأَحْوَص عَن أَبِيه قَالَ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثوب دون فَقَالَ: أَلَك مَال قَالَ: نعم

قَالَ: من أَي المَال قَالَ: قد آتَانِي الله من الإِبل وَالْغنم وَالْخَيْل وَالرَّقِيق

قَالَ: فَإِذا آتاك الله فلير أثر نعْمَة الله عَلَيْك وكرامته

وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَحسنه عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يحب أَن يرى أثر نعْمَته على عَبده

  وَأخرج أَحْمد وَمُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل النَّار من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان وَلَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من كبر

قَالَ رجل: يَا رَسُول الله انه يُعجبنِي أَن يكون ثوبي غسيلاً ورأسي دهيناً وشراك نَعْلي جَدِيدا وَذكر أَشْيَاء حَتَّى ذكرعلاقة سَوْطه فَمن الْكبر ذَاك يَا رَسُول الله قَالَ: لَا ذَاك الْجمال إِن الله عز وَجل جميل يحب الْجمال وَلَكِن الْكبر من سفه الْحق وازدرى النَّاس

وَأخرج ابْن سعد عَن جُنْدُب بن مكيث قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قدم الْوَفْد لبس أحسن ثِيَابه وَأمر عَلَيْهِ أَصْحَابه بذلك

وَأخرج أَحْمد عَن سهل بن الحنظلية قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنَّكُم قادمون على إخْوَانكُمْ فأصلحوا رحالكُمْ واصلحوا لباسكم حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاس كأنكم شامة فَإِن الله لَا يحب الْفُحْش وَلَا التَّفَحُّش

أما قَوْله تَعَالَى: {وكلوا وَاشْرَبُوا} الْآيَة

أخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: احل الله الْأكل وَالشرب مَا لم يكن سَرفًا ومخيلة

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: احل الله الْأكل وَالشرب مَا لم يكن سَرفًا أَو مخيلة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {إِنَّه لَا يحب المسرفين} قَالَ: فِي الطَّعَام وَالشرَاب

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله {وَلَا تسرفوا} قَالَ: فِي الثِّيَاب وَالطَّعَام وَالشرَاب

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله {وَلَا تسرفوا} قَالَ: لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا ذَلِك إِسْرَاف

وَأخرج عبد بن حميد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كلوا وَاشْرَبُوا وتصدقوا وَالْبَسُوا فِي غير مخيلة وَلَا سرف فَإِن الله سُبْحَانَهُ يحب أَن يرى أثر نعْمَته على عَبده

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ وَضَعفه عَن عَائِشَة قَالَت رَآنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أكلت فِي الْيَوْم  مرَّتَيْنِ فَقَالَ: يَا عَائِشَة أما تحبين أَن يكون لَك شغل إِلَّا فِي جوفك الْأكل فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ من الإِسراف وَالله لَا يحب المسرفين

وَأخرج ابْن ماجة وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ عَن أنس قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن من الإِسراف أَن تَأْكُل كل مَا اشْتهيت

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن الْحسن قَالَ: دخل عمر على ابْنه عبد الله بن عمر إِذا عِنْدهم لحم فَقَالَ: مَا هَذَا اللَّحْم قَالَ: اشتهيته

قَالَ: وَكلما اشْتهيت شَيْئا أَكلته كفى بِالْمَرْءِ: إسرافاً أَن يَأْكُل كلما اشْتهى

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كل مَا شِئْت واشرب مَا شِئْت والبس مَا شِئْت إِذا أَخْطَأتك اثْنَتَانِ سرف أَو مخيلة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: من السَّرف أَن يكتسي الإِنسان وَيَأْكُل وَيشْرب مَا لَيْسَ عِنْده

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير

أَنه سُئِلَ مَا الإِسراف فِي المَال قَالَ: أَن يرزقك الله مَالا حَلَالا فتنفقه فِي حرَام حرمه عَلَيْك

وَأخرج ابْن ماجة عَن سلمَان

أَنه أكره على طَعَام يَأْكُلهُ فَقَالَ: حسبي أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن أَكثر النَّاس شبعاً فِي الدُّنْيَا أطولهم جوعا يَوْم الْقِيَامَة

وَأخرج التِّرْمِذِيّ وحسنة وَابْن ماجة عَن ابْن عمر قَالَ: تجشى رجل عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ كف جشاك عَنَّا فَإِن أطولكم جوعا يَوْم الْقِيَامَة أَكْثَرَكُم شبعاً فِي دَار الدُّنْيَا

وَأخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَابْن حبَان وَابْن السّني فِي الطِّبّ وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَأَبُو نعيم فِي الطِّبّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَا مَلأ ابْن آدم وعَاء شرا من بطن حسب ابْن آدم لقيمات يقمن صلبه فَإِن كَانَ لَا محَالة فثلث لطعامه وَثلث لشرابه وَثلث لنَفسِهِ

وَأخرج ابْن السّني وَأَبُو نعيم فِي الطِّبّ النَّبَوِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن المرقع قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لم يخلق وعَاء إِذا ملىء شرا من بطن فَإِن كَانَ لَا بُد فاجعلوا ثلثا للطعام وَثلثا للشراب وَثلثا للريح

  وَأخرج ابْن السّني وَأَبُو نعيم عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصل كل دَاء الْبردَة

وَأخرج ابْن السّني وَأَبُو نعيم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ /مثله

وَأخرج أَبُو نعيم عَن عمر بن الْخطاب قَالَ: إيَّاكُمْ والبطنة فِي الطَّعَام وَالشرَاب فَإِنَّهَا مفْسدَة للجسد مورثة للسقم ومكسلة عَن الصَّلَاة وَعَلَيْكُم بِالْقَصْدِ فيهمَا فَإِنَّهُ أصلح للجسد وَأبْعد من السَّرف وَأَن الله تَعَالَى ليبغض الحبر السمين وَإِن الرجل لن يهْلك حَتَّى يُؤثر شَهْوَته على دينه

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن أَرْطَاة قَالَ: اجْتمع رجال من أهل الطِّبّ عِنْد ملك من الْمُلُوك فَسَأَلَهُمْ مَا رَأس دَوَاء الْمعدة فَقَالَ كل رجل مِنْهُم قولا وَفِيهِمْ رجل سَاكِت فَلَمَّا فرغوا قَالَ: مَا تَقول أَنْت قَالَ: ذكرُوا أَشْيَاء وَكلهَا تَنْفَع بعض النَّفْع وَلَكِن ملاك ذَلِك ثَلَاثَة أَشْيَاء

لَا تَأْكُل طَعَاما أبدا إِلَّا وَأَنت تشتهيه وَلَا تَأْكُل لَحْمًا يُطْبَخُ لَك حَتَّى تنعم إنضاجه وَلَا تبتلع لقْمَة أبدا حَتَّى تمضغها مضغاً شَدِيدا لَا يكون على الْمعدة فِيهَا مؤونة

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْموصِلِي قَالَ: أخرج من جَمِيع الْكَلَام أَرْبَعَة الآف كلمة وَأخرج مِنْهَا أَرْبَعمِائَة كلمة وَأخرج مِنْهَا أَرْبَعُونَ كلمة وَأخرج مِنْهَا أَربع كَلِمَات

أَولهَا لَا تثقفن بِالنسَاء وَالثَّانيَِة لَا تحمل معدتك مَا لَا تطِيق وَالثَّالِثَة لَا يغرنك المَال وَالرَّابِعَة يَكْفِيك من الْعلم مَا تنْتَفع بِهِ

وَأخرج أَبُو مُحَمَّد الْخلال عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل عَلَيْهَا وَهِي تَشْتَكِي فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَة الازم دَوَاء والمعدة بَيت الادواء وعودوا بدنا مَا اعْتَادَ

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن محب عَن أَبِيه قَالَ: الْمعدة حَوْض الْجَسَد وَالْعُرُوق تشرع فِيهِ فَمَا ورد فِيهَا بِصِحَّة صدر بِصِحَّة وَمَا ورد فِيهَا بسقم صدر بسقم

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن السّني وَأَبُو نعيم معافى الطِّبّ النَّبَوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان وَضَعفه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمعدة حَوْض الْبدن وَالْعُرُوق إِلَيْهَا وَارِدَة فَإِذا صحت الْمعدة صدرت الْعُرُوق بِالصِّحَّةِ وَإِذا فَسدتْ الْمعدة صدرت الْعُرُوق بِالسقمِ

  - الْآيَة (32){{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

- أخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَت قُرَيْش يطوفون بِالْبَيْتِ وهم عُرَاة يصفرون ويصفقون فَأنْزل الله {قل من حرم زِينَة الله} فَأمروا بالثياب أَن يلبسوها {قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} قَالَ: يَنْتَفِعُونَ بهَا فِي الدُّنْيَا لَا يتبعهُم فِيهَا إِثْم يَوْم الْقِيَامَة

وَأخرج وَكِيع فِي الْغرَر عَن عَائِشَة

أَنَّهَا سُئِلت عَن مقانع القز فَقَالَت: مَا حرم الله شَيْئا من الزِّينَة

وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن الضَّحَّاك {قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} قَالَ: الْمُشْركُونَ يشاركون الْمُؤمنِينَ فِي زهرَة الدُّنْيَا وَهِي خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة للْمُؤْمِنين دون الْمُشْركين

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس والطيبات من الرزق قَالَ: الودك وَاللَّحم وَالسمن

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن زيد قَالَ: كَانَ قوم يحرمُونَ من الشَّاة لَبنهَا ولحمها وسمنها فَأنْزل الله {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق} قَالَ: والزينة الثِّيَاب

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {والطيبات من الرزق} قَالَ: هُوَ مَا حرم أهل الْجَاهِلِيَّة عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحامي

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ الْجَاهِلِيَّة يحرمُونَ أَشْيَاء أحلهَا الله من الثِّيَاب وَغَيرهَا وَهُوَ قَول الله {قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} يُونُس الْآيَة 59 وَهُوَ هَذَا فَأنْزل الله {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا}  يَعْنِي شَارك الْمُسلمُونَ الْكفَّار فِي الطَّيِّبَات فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فَأَكَلُوا من طَيّبَات طعامها ولبسوا من جِيَاد ثِيَابهَا ونكحوا من صَالح نسائها ثمَّ يخلص الله الطَّيِّبَات فِي الْآخِرَة للَّذين آمنُوا وَلَيْسَ للْمُشْرِكين فِيهَا شَيْء

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة قَالَ: الزِّينَة تخلص يَوْم الْقِيَامَة لمن آمن فِي الدُّنْيَا

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج بن يُوسُف يقْرَأ (قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة) بِالرَّفْع

قَالَ عَاصِم: وَلم يبصر الْحجَّاج اعرابها وَقرأَهَا عَاصِم بِالنّصب (خَالِصَة)

 - الْآيَة (33) {{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

- أخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} قَالَ: مَا ظهر الْعرية وَمَا بطن الزِّنَا كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن الْمُنْذر وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أحد أغير من الله فَلذَلِك حرم الْفَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن مرْدَوَيْه عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: قَالَ سعد بن عبَادَة: لَو رَأَيْت رجلا مَعَ امْرَأَتي لضربته بِالسَّيْفِ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أتعجبون من غيرَة سعد فو الله لأَنا أَغْيَرُ مِنْ سعد وَالله أغْيَرُ مني وَمن أَجله حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا شخص أغير من الله

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قيل: يَا رَسُول الله أما تغار قَالَ وَالله إِنِّي لأغار وَالله أغْيَرُ مني وَمن غيرته نهى عَن الْفَوَاحِش

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن الْحسن {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} قَالَ: مَا ظهر مِنْهَا الِاغْتِسَال بِغَيْر ستْرَة

وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن يحيى بن أبي كثير أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي  أصبت حدا فأقمه عليَّ فجلده ثمَّ صعد الْمِنْبَر وَالْغَضَب يعرف فِي وَجهه فَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن الله حرم عَلَيْكُم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن فَمن أصَاب مِنْهَا شَيْئا فليستتر بسترالله فَإِنَّهُ من يرفع إِلَيْنَا من ذَلِك شَيْئا نقمة عَلَيْهِ

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن أبي جَعْفَر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي غيور وَإِن إِبْرَاهِيم كَانَ غيوراً وَمَا من امرىء لَا يغار إِلَّا منكوس الْقلب

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ فِي قَوْله {والإِثم} قَالَ: الْمعْصِيَة وَالْبَغي

قَالَ: إِن تبغى على النَّاس بِغَيْر حق

 - الْآيَة (34) {{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

- أخرج ابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه والخطيب فِي تالي التَّلْخِيص وَابْن النجار فِي تَارِيخه عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: تَذَاكرنَا زِيَادَة الْعُمر عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا: من وصل رَحمَه أنسء فِي أَجله

فَقَالَ إِنَّه لَيْسَ بزائدة فِي عمره قَالَ الله {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَلَكِن الرجل يكون لَهُ الذُّرِّيَّة الصَّالِحَة فَيدعونَ الله لَهُ من بعده فيبلغه ذَلِك فَذَلِك الَّذِي ينسأ فِي أبده وَفِي لفظ: فيلحقه دعاؤهم فِي قَبره فَذَلِك زِيَادَة الْعُمر

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن أبي عرُوبَة قَالَ: كَانَ الْحسن يَقُول: مَا أَحمَق هَؤُلَاءِ الْقَوْم يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أطل عمره وَالله يَقُول {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب قَالَ: لما طعن عمر قَالَ كَعْب: لَو دَعَا الله عمر لأَخَّر فِي أَجله

فَقيل لَهُ: أَلَيْسَ قد قَالَ الله {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فَقَالَ كَعْب: وَقد قَالَ الله {وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب} فاطر الْآيَة 11 قَالَ الزُّهْرِيّ: وَلَيْسَ أحد إِلَّا لَهُ عمر مَكْتُوب فَرَأى أَنه مَا لم يحضر أَجله فَإِن الله يُؤَخر مَا شَاءَ وَينْقص {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}

  وَأخرج ابْن سعد فِي الطَّبَقَات عَن كَعْب قَالَ: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل ملك إِذا ذَكرْنَاهُ ذكرنَا عمر وَإِذا ذكرنَا عمر ذَكرْنَاهُ وَكَانَ إِلَى جنبه نَبِي يُوحى إِلَيْهِ فَأوحى الله إِلَى النَّبِي أَن يَقُول لَهُ: أَعهد عَهْدك واكتب إِلَى وصيتك فَإنَّك ميت إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام فَأخْبرهُ النَّبِي بذلك فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث وَقع بَين الْجدر وَبَين السرير ثمَّ جَار إِلَى ربه فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي كنت أعدل فِي الحكم وَإِذا اخْتلفت الْأُمُور اتبعت هداك وَكنت فزدني فِي عمري حَتَّى يكبر طفلي وتربو أمتِي  فَأوحى الله إِلَى النَّبِي: أَنه قد قَالَ كَذَا وَكَذَا وَقد صدق: وَقد زِدْته فِي عمره خمس عشرَة سنة فَفِي ذَلِك مَا يكبر طِفْله وتربو أمته فَلَمَّا طعن عمر قَالَ كَعْب: لَئِن سَأَلَ عمر ليبقينه فَأخْبر بذلك عمر فَقَالَ: اللَّهُمَّ اقبضني إِلَيْك غير عَاجز وَلَا ملوم

وَأخرج ابْن سعد عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: لما طعن عمر جَاءَ كَعْب فَجعل يبكي بِالْبَابِ وَيَقُول: وَالله لَو أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقسم على الله أَن يُؤَخِّرهُ لأخَّرَهُ فَدخل ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا كَعْب يَقُول كَذَا وَكَذَا قَالَ: إِذا - وَالله - لَا أسأله

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل وَابْن عَسَاكِر عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن لَبِيبَة عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: جَاءَ سعد بن أبي وَقاص فَقَالَ: يَا رب إِن لي بَنِينَ صغَارًا فأخِّر عني الْمَوْت حَتَّى يبلغُوا فَأخر عَنهُ الْمَوْت عشْرين سنة

وَأخرج أَحْمد عَن ثَوْبَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من سره النسأ فِي الْأَجَل والزياده فِي الرزق فَليصل رَحمَه

وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فحسنت سَرِيرَته رزق الهيبة من قُلُوبهم وَإِذا بسط يَده لَهُم بِالْمَعْرُوفِ رزق الْمحبَّة مِنْهُم وَإِذا وفر عَلَيْهِم أَمْوَالهم وفر الله عَلَيْهِ مَاله وَإِذا أنصف الضَّعِيف من الْقوي قوّى الله سُلْطَانه وَإِذا عدل مدَّ فِي عمره

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عمر قَالَ: من اتَّقى ربه وَوصل رَحمَه نسىء لَهُ فِي عمره وَربا مَاله وأحبه أَهله

  - الْآيَة (35 - 36) {{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

- أخرج ابْن جرير عَن أبي سيار السّلمِيّ فَقَالَ: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى جعل آدم وَذريته فِي كَفه فَقَالَ {يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} ثمَّ نظر إِلَى الرُّسُل فَقَالَ {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} الْمُؤْمِنُونَ الْآيَة 51 {وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون} الْمُؤْمِنُونَ الْآيَة 53 ثمَّ بثهم

 - الْآيَة (37) {{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

- أخرج الْفرْيَابِيّ وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: مَا قدر لَهُم من خير وَشر

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: من الْأَعْمَال من عمل خيرا جزى بِهِ وَمن عمل شرا جزى بِهِ

وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله ونصيبهم من الْكتاب قَالَ: مَا كتب عَلَيْهِم من الشَّقَاء والسعادة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: قوم يعْملُونَ أعمالاً لَا بُد لَهُم أَن يعملوها

 وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: مَا سبق من الْكتاب

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: مَا وعدوا فِيهِ من خير أَو شَرّ

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن كَعْب فِي قَوْله {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: رزقه وأجله وَعَمله

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن أبي صَالح فِي قَوْله {نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: من الْعَذَاب

وَأخرج عبد بن حميد عَن الْحسن {مثله

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن الرّبيع بن أنس فِي قَوْله {ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ: مِمَّا كتب لَهُم من الرزق

 - الْآيَة (38 - 39)

 ملاحظات التدوين

التعريف بالقرآن الكريم
فضله، مكانته، وكونه المصدر الأول للتشريع الإسلامي


"القرآن الكريم كلام الله منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله -تعالى- بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر…" (1) .
وصفه منزله بقوله -سبحانه-: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42] . كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] .
حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .
فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9] .

هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1] .

فتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وضمن للمسلمين الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بما شرع، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم. قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] . قال ابن عباس: "يتَّبعونه حق اتباعه، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال قتادة: "هؤلاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- آمنوا بكتاب الله فصدَّقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه.

نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن 1 - 3] . وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 30 - 31] .

من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] . وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] .

قال علماء التفسير: "وعلُوُّ القرآن على سائر كتب الله -وإن كان الكل من عنده- بأمور، منها: أنه زاد عليها بسور كثيرة؛ فقد جاء في الحديث أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خُصَّ بسورة الحمد، وخواتيم سورة البقرة، وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن السبع الطوال مثل التوراة، والمئين مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد هذا فضل" وأخرج الإمام أحمد والطبراني، عن واثلة بن الأسقع، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأُعطيت مكان الزبور المئين، وأُعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل" (2)
والسبع الطوال: من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الأعراف، فهذه ست سور، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا؛ لعدم الفصل بينهما بالبسملة، بجعل الأنفال وبراءة بمنزلة سورة واحدة أم هي سورة يونس؟
والمئون: هي السور التي تزيد على مائة آية، أو تقاربها، والمثاني هي السور التي تلي المئين في عدد الآيات، أو هي السور التي يكون عدد آياتها أقل من مائة آية؛ لأنها تُثَنَّى أي تكرر أكثر مما تُثَنَّى الطوال والمئون.

وأما المفصل: فهو ما يلي المثاني من قصار السور. وقد اختلف في أوله فقيل: من أول سورة الصافات، وقيل: من أول سورة الفتح، وقيل: من أول سورة الحجرات، وقيل: من أول سورة ق -وهو الذي رجحه الحافظان: ابن كثير، وابن حجر- وقيل غير ذلك، واتفقوا على أن منتهى المفصل آخر القرآن الكريم.

ومنها: أن الله جعل أسلوبه معجزا، وإن كان الإعجاز في سائر كتب الله -تعالى- من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام، ولكن ليس فيها الأسلوب الخارج عن المعهود، فكان القرآن أعلى منها بهذه المعاني وأمثالها وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4] .

ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص 102، 103: "وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم -القرآن- الذي شرفه الله -تعالى- على كل كتاب أنزله، وجعله مهيمنا عليه، وناسخا له وخاتما له؛ لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة، وهذا القرآن نزل منجما بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به، وبمن أنزل عليه، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة" انتهى.

وهذا الكتاب المبارك قرر كثيرا من الحقائق العلمية الكونية في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته ووحدانيته، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وحث على الانتفاع بكل ما يقع تحت أبصارنا في الحياة مما خلقه الله قال -سبحانه-: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وقال -جلت قدرته-: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
فعلى المسلمين أن يُعملِوا أفكارهم في علوم الكون، ولا يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سماواته وأرضه.
_________
(1) شرح الطحاوية 1/172
(2) مسند الإمام أحمد 2 ./107 .

  نعم إن الحديث عن القرآن الكريم لا يَنْضَب معينه، فهو الذي حَبَّب إلى المسلمين العدل والشورى، وكره إليهم الظلم والاستبداد، شعار متبعيه: قوة الإيمان، وإنكار الذات، والإيثار، والرحمة فيما بينهم.

فلنعش مع القرآن الكريم: تلاوة وفهما، وعملا وحفظا، فمعايشة القرآن من أجلِّ الأعمال التي يتصف بها المؤمنون، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
فالله -تبارك وتعالى- يشيد في هاتين الآيتين بالتالِينَ لكتابه، تلاوة مصحوبة بالتدبر الذي ينشأ عنه الإدراك والتأثر، ومما لا شك فيه أن التأثر يفضي بالقارئ -لا محالة- إلى العمل بمقتضى قراءته.

لذا أتبع الحق -تبارك وتعالى- القراءة بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سرا وعلانية من فضل الله، ثم برجاء القارئينَ بسبب ذلك تجارة لن تبور، فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون، ويتاجرون تجارة تؤدي إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله، إنه -سبحانه- غفور شكور، يغفر التقصير، ويشكر الأداء.

إذن فلا بد من قراءة القرآن، قراءة متدبرة واعية، تكون سببا في فهم الجمل القرآنية، فهما دقيقا، فإن عز على القارئ شيء في فهم المعنى سأل أهل الذكر، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ والمُدارسة القرآنية مطلوبة دائما، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه (1) "
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله (2) " ليس البيت قيدا؛ بدلالة رواية مسلم الأخرى: "لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفَّتهم الملائكة…" فإذا اجتمعوا في مكان آخر غير المسجد كان لهم هذا الفضل أيضا، فالتقييد ببيت الله خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، فالاجتماع للتلاوة، والمدارسة للتفقه في آيات الله، وما دلت عليه من أحكام وعبر في أي مكان يترتب عليه هذا الفضل، وإن كان الاجتماع للتلاوة والمدارسة في المسجد أفضل من الاجتماع في أي مكان آخر؛ لِما في المسجد من مزايا وخصائص ليست في غيره.

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف (3) "
وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وهذا يدل على بيان فضل تعليم القرآن والترغيب فيه، وقد سئل سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه"
ومكث الإمام أبو عبد الرحمن السلمي يعلِّم القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة بسبب سماعه لهذا الحديث، وكان إذا روى هذا الحديث يقول: ذلك الذي أقعدني مقعدي هذا.

قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن (4) : "والغرض أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل:88] . وكما قال تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: 26] . في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [الأنعام: 157] . فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33] .

فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.

وكما شملت رحمة الله -تعالى- التالِينَ لكتابه، المقيمين لحدوده شملت أيضا المستمعين له، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ عليَّ. قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا قال: حسبك. فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان (5)
قال الإمام النووي (6) "وفي هذا الحديث فوائد، منها: استحباب استماع القراءة، والإصغاء إليها والبكاء عندها، وتدبرها واستحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه". انتهى.

فيجب على كل مسلم أن يعرف للقرآن الكريم حقه، وأن يراعي حرمته، وأن يلتزم حدود الدِّين عند الاستماع لآيِ القرآن الكريم، وأن يقتفي آثار السلف الصالح في تلاوة القرآن الكريم والاستماع إليه، فقد كانوا شموسا مضيئة، يُحتذَى بهم في كمال الخشوع والتأثر، مؤمنين بقول الله -تعالى-: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] .
_________
(1) صحيح مسلم: ح 2699
(2) الترمذي: ح 3075
(3) صحيح البخاري: ح 4739
(4) فضائل القرآن 126، 127
(5) البخاري: ح 4582، ومسلم: ح 800، أبو داود: ح 3668
(6) شرح صحيح مسلم 6\88 .

  حقا، إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه كلام الله، وهو المنهج السماوي للبشر كافة، وللخلق عامة، وهو المرجع الأول في أمور دِين المسلمين، وهو الحكم الذي إليه يحتكمون، وفصل قضائه الذي إليه ينتهون، والأحكام التي وردت في القرآن الكريم لم تصدر دفعة واحدة، بل نزلت تدريجيا طوال مدة الرسالة، فبعضها لتثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقوية قلبه، وبعضها لتربية هذه الأمة الناشئة، علما وعملا، والبعض الآخر نزل بمناسبة حالات وقعت فعلا للمسلمين في حياتهم اليومية، في أوقات مختلفة، وأزمنة متفرقة، فكلما وقع منها حادث نزل من القرآن الكريم ما يناسبه ويوضح حكم الله فيه، من ذلك الأقضية والوقائع التي كانت تحدث في المجتمع الإسلامي في عهد التشريع، فيحتاج المسلمون إلى معرفة حكمها، فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها، كتحريم الخمر.

فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: 219] . فقال الناس: ما حرَّمَ علينا إنما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) كانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين، أَمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنزل الله فيها آية أغلظ منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] . وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مُفِيق، ثم أُنزلت آية أغلظ من ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .

قالوا: انتهينا ربنا. فقال الناس: يا رسول الله: ناس قتلوا في سبيل الله، أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93] . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو حُرِّمت عليهم لتركوها كما تركتم" (1)
وفي صحيح البخاري (2) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال: فجرَت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قُتلَ قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
مما تقدم نعلم أن: النهي عن الخمر وقع مدرجا ثلاث مرات: حين نزلت آية سورة البقرة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وقد تضمن ذلك نهيا غير جازم، فترك شرب الخمر ناس كانوا أشد تقوى، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيًا"، ثم نزلت آية سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فتجنب المسلمون شربها في الأوقات التي يظن بقاء السكر فيها إلى وقت الصلاة، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيا". ثم نزلت آية سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
عند ذلك قال عمر -رضي الله عنه- عندما دُعِيَ وقُرِئَت عليه: "انتهينا".

وهكذا كان التدرج في التشريع؛ ليطهر الله -سبحانه وتعالى- الأمة الإسلامية من العادات المخالفة لمنهج الله، ويكملهم بالفضائل من الصفح والحلم، والإيثار والمحبة والأمانة، ورعاية الجوار والعدل، وغير ذلك من كريم الخصال.

فالله -تعالى- وحده هو المشرع لعباده، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] . ولا يشرع للناس إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم، سواء أظهرت الحكمة من ذلك أم لم تظهر.
_________
(1) مسند الإمام أحمد 2/351، 352
(2) ح:4620 .

  والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع.

وأما السنة النبوية فهي المصدر الثاني للتشريع، ولا خلاف بين الفقهاء على أنها حجة في التشريع بجانب القرآن الكريم، قال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] . وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] . وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] .

وهاهو الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله يحدد في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) دور السنة بالنسبة للقرآن الكريم فيقول (1) : "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.

والثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، وتفسيرا له.

والثالث: أن تكون موجبة لحكمٍ سكتَ القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما".

لذا فالسنة قد تؤكد ما ورد في القرآن الكريم من أحكام، وقد تفسر نصوصه، أو تفصل ما أجمل من أحكامه، وقد تُنشئ حكما لحالات لم يرد بشأنها نص في الكتاب، ومع ذلك لا يلجأ إلى السنة دليلا للأحكام إلا عند خلو القرآن من نص يفي بالمطلوب، فالسنة هي التي وضحت لنا -نحن المسلمين- أن الصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة، وهي التي بينت لنا عدد ركعاتها وأركانها، وهي التي بينت لنا حقيقة الزكاة، وعلى من تجب وأنصبتها، وكيفية الحج والعمرة، وأن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، وبينت مواقيته، وعدد الطواف.

فعلى كل من يدعي أنه متمسك بالقرآن، ويهجر السنة أن يبادر إلى تجديد إيمانه، وبالرجوع إلى الله -تعالى- قال -سبحانه-: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .

فالقرآن الكريم، والسنة المطهرة هما وحي الله إلى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهما مصدرا التشريع الإسلامي الذي رد الإنسان إلى فطرته، وجعل منه بشرا يعرف طريقه إلى الحياة، مرددا قول الله -تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف: 43] .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(1) 2/363

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج33. كتاب مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

  ج33. كتاب   مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إ...