القران كاملا مشاري

حمل المصحف بكل صيغه

 حمل المصحف

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 يناير 2023

تفسير الأيات من{171 الي178.}

 

 


وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

الأعراف - تفسير ابن كثير

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) }

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } يقول: رفعناه، وهو قوله: { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } [النساء:154]

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رفعته الملائكة فوق رءوسهم.

وقال القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم سار بهم موسى، عليه السلام، متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمره (1) الله تعالى [به] (2) -أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق (3) الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال: رفعته الملائكة فوق رءوسهم. رواه النسائي بطوله (4)

وقال سنيد بن داود في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم؟ قالوا: انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة، وحدودها خفيفة قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها؟ فراجعوا موسى مرارا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي،

__________

(1) في م: "أمر".

(2) زيادة من أ.

(3) في د، ك، م: "نتق".

(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وهو حديث الفتون وسيأتي إن شاء الله في سورة طه.

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا الجبل. قال: فحدثني الحسن البصري قال: لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل، فرقًا من أن يسقط [عليه] (1) فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة. قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير، ولا كبير، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه. [أي: حرك كما قال تعالى: { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } [الإسراء:51] أي يحركونها] (2)

{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) }

يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم:30] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على هذه الملة -فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله [تعالى] (3) إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم (4) الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" (5)

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السري بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يتناولون الذرية؟" قال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: "إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو (6) ينصرانها". قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ] } (7) الآية (8)

__________

(1) زيادة من ك، أ.

(2) زيادة من ك، م.

(3) زيادة من ك، م.

(4) في م: "فجاءت".

(5) صحيح مسلم برقم (2865)، وسبق تخريجه هو والذي قبله عند الآية: 30.

(6) في م: "و".

(7) زيادة من أ.

(8) تفسير الطبري (13/321).

وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري (1) به.

=وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: حدثنا الأسود ابن سَرِيع، فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك (2)

وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم، عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و[إلى] (3) أصحاب الشمال، وفي بعضها (4) الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.

قال الإمام أحمد: حدثنا حَجَّاج، حدثنا شُعْبة، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟" قال: "فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم (5) ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي".

أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به (6)

حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير -يعني ابن حازم -عن كلثوم بن جابر (7) عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم، عليه السلام، بنعمان. يعني (9) عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } إلى قوله: { الْمُبْطِلُونَ }

وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن محمد بن عبد الرحيم -صاعقة -عن حسين بن محمد المروزي، به. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد (10) به. إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا. وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جَبْر، به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير (11) (12) هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث، عن كلثوم بن جبر (13) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فوقفه (14) وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبير، عن أبيه، به. (15) وكذا رواه عطاء بن السائب، وحبيب بن أبي ثابت، وعلي بن بَذِيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (16) قوله، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن ==

__________

(1) المسند (3/435).

(2) سنن النسائي الكبرى برقم (8616).

(3) زيادة من ك، م، أ.

(4) في أ: "وفي بعض".

(5) في أ: "ظهر أبيك".

(6) المسند (3/127) وصحيح البخاري برقم (3334) وصحيح مسلم برقم (2805).

(7) في ك، م: "جبر"، وفي أ: "جبير".

(8) زيادة من أ.

(9) في ك، م، أ: "يوم".

(10) المسند (1/272) وسنن النسائي الكبرى برقم (11191) وتفسير الطبري (13/222) وقال النسائي: "كلثوم هذا ليس بالقوى، وحديثه ليس بالمحفوظ".

(11) في ك، م: "جبر".

(12) المستدرك (1/27).

(13) في أ: "جبير".

(14) أخرجه الطبري في تفسيره (13/172).

(15) رواه الطبري في تفسيره (13/224) من طريق ابن علية ورواه (13/229) من طريق وكيع.

(16) تفسير الطبري (13/227 - 229).

==عباس (1) فهذا أكثر وأثبت، والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي جَمْرَة الضبعي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) قال: أخرج الله ذرية آدم [عليه السلام] (3) من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذى من الماء.

وقال أيضا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال: مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم، [وهو] (4) ابن ستة أيام. قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده، فأبرز وجهه، وحُلّ عنه عقده، فإن ابني مُجْلَس، ومسئول. ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمّ يُسأل ابنك؟ من يسأله إياه؟ قال: يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في (5) صلب آدم. قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في (6) صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس [رضي الله عنه] (7) ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها (8) إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه. فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول. ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف (9) به، لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة (10)

فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس، والله أعلم.

حديث آخر: وقال ابن جرير: حدثنا عبد الرحمن بن الوليد، حدثنا أحمد بن أبي طيبة، عن سفيان بن سعيد، عن الأجلح، عن الضحاك وعن (11) -منصور، عن مجاهد -عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال: "أخذ من ظهره، كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: { ألست بربكم قالوا بلى } قَالَتِ الْمَلائِكَةُ { شهدنا أن يقولوا } (12) يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (13)

أحمد بن أبي طيبة هذا هو: أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال ابن عَدِيّ: حدث بأحاديث أكثرها (14) غرائب.

وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد،

__________

(1) تفسير الطبري (13 / 236 ، 237).

(2) زيادة من أ.

(3) زيادة من أ.

(4) زيادة من م.

(5) في ك، م، أ: "من".

(6) في ك، م، أ: "من".

(7) زيادة من أ.

(8) في ك، م، أ: "خالقها".

(9) في ك، م: "يقر".

(10) تفسير الطبري (13/230).

(11) في م: "بن".

(12) في أ: "تقولوا".

(13) تفسير الطبري (13/232) قال الطبري: "ولأعلمه صحيحا؛ لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم واتقانهم، حدثوا بهذا الحديث عن الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طيبة عنه".

(14) في ك، م، أ: "كثيرة".

عن عبد الله بن عمرو، قوله، وكذا رواه جرير، عن منصور، به. وهذا أصح (1) والله أعلم.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا روح -هو ابن عبادة -حدثنا مالك، وحدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ: أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أخبره، عن مسلم بن يَسار الجُهَني: أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } الآية، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئل عنها، فقال: "إن الله خلق آدم، عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بأعمال (2) أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله (3) به الجنة. وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله (4) به النار". وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي -والنسائي عن قتيبة -والترمذي (5) عن إسحاق بن موسى، عن مَعْن. وابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب. وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، من رواية أبي مصعب الزبيري، كلهم عن الإمام مالك بن أنس، به (6) قال الترمذي: وهذا حديث حسن، ومسلم بن يَسَار لم يسمع (7) عُمَر. وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة. زاد أبو حاتم: وبينهما نُعَيْم بن ربيعة.

وهذا الذي قاله أبو حاتم، رواه أبو داود في سننه، عن محمد بن مصفى، عن بَقِيَّةَ، عن عمر ابن جُعْثُم (8) القرشي، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يَسَار الجهني، عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (9) وقد سئل عن هذه الآية: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فذكره (10)

وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك، والله أعلم (11)

قلت: الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر "نعيم بن ربيعة" عمدًا؛ لما جهل حاله ولم يعرفه،

__________

(1) تفسير الطبري (13/233).

(2) في ك، م، أ: "بعمل".

(3) في ك، م، أ: "فيدخل".

(4) في أ: "فيدخل".

(5) في ك، م، أ: "والترمذي في تفسيرهما".

(6) المسند (1/44) وسنن أبي داود برقم (4703) وسنن النسائي الكبرى برقم (11190) وسنن الترمذي برقم (3075) وتفسير الطبري (13/233).

(7) في أ: "لم يسمع من" .

(8) في أ: "عمرو بن خثعم".

(9) زيادة من أ.

(10) سنن أبي داود برقم (4704) ورواه الطبري في تفسيره (13/235) من طريق محمد بن مصفى، به.

(11) العلل للدارقطني (2/221 - 223).

فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات، ويقطع كثيرًا من الموصولات، والله أعلم.

حديث آخر: قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله [عز وجل] (2) آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرّيتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك، يقال له: داود. قال: رب، وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون (3) سنة؟ قال: أوَ لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته".

ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، به. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (4)

ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه حدثه عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال: "ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم، هؤلاء ذريتك. وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم: يا رب، لم فعلت هذا بذريتي؟ قال: كي تشكر نعمتي. وقال آدم: يا رب، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا؟ قال: هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك". ثم ذكر قصة داود، كنحو ما تقدم (5)

حديث آخر: قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري (6) عن أبيه، عن هشام بن حكيم، رضي الله عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتبدأ الأعمال، أم قد قُضِي القضاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه" ثم قال: "هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار".

رواه ابن جرير، وابن مردويه من طرق عنه (7)

__________

(1) زيادة من أ.

(2) زيادة من أ.

(3) في د، أ: "أربعين".

(4) سنن الترمذي برقم (3076) والمستدرك (2/325).

(5) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1015) من طريق محمد بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، به. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.

(6) في أ: "البصري".

(7) تفسير الطبري (13/244) وقد توسع الشيخ محمود شاكر في الكلام عليه في الحاشية بما يغني عن إعادته هنا.

حديث آخر: روى جعفر بن الزبير -وهو ضعيف -عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق، وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله، فقال: يا أصحاب اليمين. فقالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال. قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل: يا رب، لم خلطت بينهم؟ قال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم [عليه السلام] (1) . رواه ابن مردويه (2)

أثر آخر: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب [رضي الله عنه] (3) في قول الله تعالى (4) { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية والتي بعدها، قال: فجمعهم له يومئذ جميعا، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، الآية. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرَضِين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئًا، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم (5) عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال: يا رب، لو سَويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول تعالى (6) { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ] (7) } [الأحزاب:7] وهو الذي يقول: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] } (8) الآية [الروم:30] ، ومن ذلك قال: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [النجم:56] ومن ذلك قال: { وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ] (9) } [الأعراف:102] .

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم، من رواية ابن جعفر الرازي، به. وروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد من علماء السلف، سياقات توافق هذه الأحاديث، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها، وبالله المستعان.

__________

(1) زيادة من أ.

(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/287) من طريق عثمان بن االهيثم، عن جعفر بن الزبير به. وجعفر بن الزبير ضعيف جدا، وقد توبع:

تابعه بشر بن نمير عن القاسم عن أبي أمامة بنحوه. ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (228) والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/51)، ولكن لم يفرح بهذه المتابعة فإن بشر بن نمير متروك متهم.

(3) زيادة من أ.

(4) في أ: "الله عز وجل".

(5) في أ: "ينذرونكم".

(6) في أ: "عز وجل".

(7) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".

(8) زيادة من ك، م، أ.

(9) زيادة من د، ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

فهذه الأحاديث دالة على أن الله، عز وجل، استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر (1) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) وفي حديث عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (3) وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان، كما تقدم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع. وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ } ولم يقل: "من آدم" ، { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل: "من ظهره" { ذُرِّيَّاتِهِمْ } أي: جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام:165] وقال: { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل:62] وقال: { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام:133]

ثم قال: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول، كما قال [تعالى] (4) { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } [الأنعام:130] الآية، وتارة تكون حالا كما قال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [التوبة:17] أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذلك (5) قوله تعالى: { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [العاديات:7] كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كما في قوله: { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم:34] قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال (6) لكان كل أحد يذكره، ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد؛ ولهذا قال: { أَنْ يَقُولُوا } (7) أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي: [عن] (8) التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } (9) الآية.

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) }

قال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق،

__________

(1) في أ: "جبير".

(2) زيادة من أ.

(3) زيادة من أ.

(4) زيادة من أ.

(5) في ك: "وكذا" ، وفي م: "وهذا كقوله".

(6) في م، أ: "قاله".

(7) في ك، م، أ: "تقولوا".

(8) زيادة من م، أ.

(9) في م: "تقولوا".

عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] } (1) الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل، يقال له: بَلْعم بن أبَرَ. وكذا رواه شعبة وغير واحد، عن منصور، به.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) هو صيفي بن الراهب.

قال قتادة: وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيما ببيت (3) المقدس مع الجبارين.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (4) هو رجل من أهل اليمن، يقال له: بَلْعَم، آتاه الله آياته فتركها.

وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السلام.

وقال سفيان بن عيينة، عن حُصَين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (5) هو بلعم بن باعر. وكذا قال مجاهد وعكرمة.

وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (6) قال: هو بلعام -وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت.

وقال شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (7) في قوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] } (8) قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت.

وقد روي من غير وجه، عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة، قبحه الله [تعالى] (9) (10) وقد جاء في بعض الأحاديث: "أنه ممن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه"؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال:

__________

(1) زيادة من ك.

(2) زيادة من أ.

(3) في أ: "بيت".

(4) زيادة من أ.

(5) زيادة من أ.

(6) زيادة من أ.

(7) زيادة من أ.

(8) زيادة من ك، م، أ.

(9) زيادة من أ.

(10) انظر: العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام (2/30).

فلك واحدة، فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فدعا الله، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن (1) ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئًا آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة، فصارت كلبة، فذهبت دعوتان. فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث، وسميت البسوس. (2) غريب.

وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو رجل من مدينة الجبارين، يقال له: "بلعام" (3) وكان يعلم اسم الله الأكبر.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره من علماء السلف: كان [رجلا] (4) مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه.

وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال: كان قد (5) أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير، عن بعضهم، ولا يصح (6)

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل موسى بهم -يعني بالجبارين -ومن معه، أتاه يعني بلعام (7) -أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: { فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] } (8)

وقال السدي: إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [المائدة:26] بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله [قد] (9) أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: "بلعم" وكان عالمًا، يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر -لعنه الله -وأتى الجبارين وقال لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء، يعظمهن (10) فكان ينكح أتانا له، وهو الذي قال الله تعالى (11) { فَانْسَلَخَ مِنْهَا }

__________

(1) في أ: "أنه".

(2) ورواه أبو الشيخ في تفسيره كما في الدر المنثور (3/608).

(3) في د، ك، م، أ: "بلعم".

(4) زيادة من أ.

(5) في أ: "من قال أنه".

(6) تفسير الطبري (13/259).

(7) في د، ك، م، أ: "بلعم".

(8) زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".

(9) زيادة من د، أ.

(10) في أ: "لعظمهن".

(11) في أ: "الله عز وجل".

وقوله: { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي: استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي: من الهالكين الحائرين (1) البائرين.

وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا محمد بن بكر، عن الصلت بن بَهْرام، حدثنا الحسن، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد؛ أن حذيفة -يعني بن اليمان، رضي الله عنه -حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه (2) إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك". قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: "بل الرامي".

هذا إسناد جيد (3) والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهما.

وقوله تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } يقول تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي: لرفعناه من التدنس عن (4) قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } أي: مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر (5) والنهى.

وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } قال: تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة لله، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، وغير واحد.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: وكان من قصة هذا الرجل: ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه: أنه سُئل عن هذه الآية: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ] } (6) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام -أو قال: الشام -قال فرُعب الناس منه رعبًا شديدًا، قال: فأتوا بلعام، فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال: حتى أوَامر ربي -أو: حتى أؤامر -قال: فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم. قال: فقال لقومه: إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا: ادع عليهم. فقال: حتى أوامر. فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. فقال: قد وامرت فلم يَحُر إلى شيء! فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح

__________

(1) في أ: "الجائرين".

(2) في أ: "اعتره".

(3) ورواه البزار في مسنده برقم (175) من طريق: حدثنا محمد بن مرزوق والحسن بن أبي كبشة، حدثنا محمد بن بكر البرساني به. قال الهيثمي في المجمع (1/188): "إسناده حسن".

(4) في أ: "من".

(5) في أ: "الأبصار".

(6) زيادة من أ.

لقومه (1) دعا أن يفتح لموسى وجيشه -أو نحوًا من ذا إن شاء الله. قال (2) ما نراك تدعو إلا علينا. قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء يَسْتقبلنهم (3) ؛ فإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال: ففعلوا. قال: فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها -أو بلعام-: لا تمكني نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، قال: فأرادها على نفسه، فقالت: ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال: فقال: إن منزلتي (4) كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال: وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه (5) فرآهما الناس -أو كما حدَّث -قال: وسلط الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا.

قال أبو المعتمر: فحدثني سَيَّار: أن بلعامًا ركب حمارة له حتى (6) أتى العلولي (7) -أو قال: طريقا من العلولي (8) -جعل يضربها ولا تُقْدم، وقامت عليه فقالت: علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه، قال: فنزل وسجد له، قال الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

قال: فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.

قلت: هو بلعام -ويقال: بلعم -بن باعوراء، ابن أبر. ويقال: ابن باعور بن شهوم (9) بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران -ويقال: ابن حران -بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء.

قال ابن عساكر: وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن. ثم أورد (10) من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهب وغيره، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر؛ أنه حدث: أن موسى، عليه السلام، لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم. قال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! قالوا له: ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه، حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة (11) له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسْبان، فلما سار عليها غير كثير، ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا

__________

(1) في م: "على قومه".

(2) في أ: "فقالوا له".

(3) في أ: "تستقبلهم".

(4) في أ: "إن من منزلتي".

(5) في م: "على رأس رمحه".

(6) في أ: "حتى إذا".

(7) في ك: "العلوي".

(8) في ك: "العلوي".

(9) في أ: "شهتوم".

(10) في أ: "ثم ذكر".

(11) في م، أ: "حمارا".

أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم: أين تذهب؟ أما (1) ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو (2) عليهم؟ فلم ينزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه! قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جَمِّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم، ففعلوا. فلما دخل النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبي ابنة صور، رأس أمته" برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو "زمرى بن شلوم"، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى، عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام عليك؟ قال: أجل، هي حرام عليك، لا تقربها. قال: فوالله لا نطيعك في هذا. ثم دخل بها قبته فوقع عليها. وأرسل الله، عز وجل، الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لَحْيَيْه -وكان بكر العيزار -وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا -والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا -في ساعة من النهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللَّحَى -لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحييه -والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ] } (3) -إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (4)

وقوله تعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } اختلف المفسرون في معناه (5) فأما على سياق ابن إسحاق، عن سالم بن أبي النضر: أن بلعاما اندلع لسانه على صدره -فتشبيهه بالكلب في لهثه (6) في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل: معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهثه (7) في حالتيه، إن

__________

(1) في ك، م: "ألا".

(2) في أ: "تدعو".

(3) زيادة من أ.

(4) رواه الطبري في تفسيره (13/264).

(5) في أ: "في معنى هذا".

(6) في د، ك، م: "لهيثه".

(7) في د، ك، م، "لهيثه".

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

حملت عليه وإن تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة:6]، { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة:80] ونحو ذلك.

وقيل: معناه: أن قلب الكافر والمنافق والضال، ضعيف فارغ من الهدى، فهو كثير الوجيب (1) فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.

وقوله تعالى: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ } أي: لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه -في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب -في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران، [عليه السلام] (2) ؛ ولهذا قال: { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي: فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا، وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.

وقوله: { سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي: ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي (3) لا همة لها (4) إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حَيِّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" (5)

وقوله: { وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } أي: ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) }

يقول تعالى: من هداه الله فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

__________

(1) في أ: "الوجيف".

(2) زيادة من ك.

(3) في د، ك: "الذين".

(4) في ك، م: "لهم".

(5) صحيح البخاري برقم (2622).

الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وغيرهم (1)

__________

(1) المسند (1/392) وسنن أبي داود برقم (1097) وسنن النسائي (6/89) وسنن ابن ماجة برقم (1892).

الأعراف - تفسير القرطبي

الآية: 171 {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} {نَتَقْنَا} معناه رفعنا. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي كأنه لارتفاعه سحابة تظل. {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي بجد. وقد تقدم.

الآيات: 172 - 174 {ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ،

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}

فيه ست مسائل:-

الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه آية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي قال. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم؛ كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.

قلت: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذين القولين، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام. وروى مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت

هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" . فقال رجل: ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" . قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر. وقال فيه يحيى بن معين: مسلم بن يسار لا يعرف، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة، ذكره النسائي، ونعيم غير معروف بحمل العلم. لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته" . في غير الترمذي: فحينئذ أمر بالكتاب والشهود. في رواية: فرأى فيهم الضعف والغني والفقير والذليل والمبتلى والصحيح. فقال له آدم: يا رب، ما هذا؟ ألا سويت بينهم! قال: أردت أن أشكر. وروى عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس" . وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم

بأنه سيبعث إليهم الرسل؛ فشهد بعضهم على بعض. قال أبي بن كعب: وأشهد عليهم السماوات السبع، فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد.

واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال؛ فقال ابن عباس: ببطن نعمان، واد إلى جنب عرفة. وروي عنه أن ذلك برهبا - أرض بالهند - الذي هبط فيه آدم عليه السلام. وقال يحيى بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية: أهبط الله آدم بالهند، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قال يحيى قال الحسن: ثم أعادهم في صلب آدم عليه السلام. وقال الكلبي: بين مكة والطائف. وقال السدي: في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء وقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جريج: خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء، وكل نفس مخلوقة للنار سوداء.

الثانية: قال ابن العربي رحمه الله: "فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه، قلنا: ومن أين يمتنع ذلك، أعقلا أم شرعا؟ فإن قيل: لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلق بأجمعهم له، صرفهم كيف شاء، وحكم بينهم بما أراد، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح؛ لما يتوقع في ذلك من الانتفاع، والباري تعالى متقدس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به".

الثالثة: واختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أو عامة. فقيل: الآية خاصة؛ لأنه تعالى قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} فخرج من هذا الحديث من كان من ولد آدم لصلبه. وقال جل وعز: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون.

وقيل: هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء. وقيل: بل هي عامة لجميع الناس؛ لأن كل أحد يعلم أنه كان طفلا فغذي وربي، وأن له مدبرا وخالقا. فهذا معنى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. ومعنى {قَالُوا بَلَى} أي إن ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]. ثم مكنه من الصيطرة، وأتاه السلطنة، ومكن له دينه في الأرض. قال الطرطوشي: إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة، كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه".

الرابعة: وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في، الميثاق الأول. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول. وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في "الروم" إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب "التذكرة" والحمد لله.

الخامسة: قوله تعالى: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل اشتمال من قوله {مِنْ بَنِي آدَمَ} . وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم، وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلهم بنوه. وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنى عن ذكره لقوله: {مِنْ بَنِي آدَمَ}. {ذُرِّيَّتَهُمْ} قرأ الكوفيون وابن كثير بالتوحيد وفتح التاء، وهي تقع للواحد والجمع؛ قال الله تعالى: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] فهذا للواحد؛ لأنه إنما سأل هبة ولد فبشر بيحيى. وأجمع القراء على التوحيد في قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم: 58] ولا شيء أكثر من ذرية آدم. وقال: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فهذا للجمع. وقرأ الباقون

{ذُرِّيَّاتِهِمْ} بالجمع، لأن الذرية لما كانت تقع للواحد أتى بلفظ لا يقع للواحد فجمع لتخلص الكلمة إلى معناها المقصود إليه لا يشركها فيه شيء وهو الجمع؛ لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذريات كثيرة متناسبة، أعقاب بعد أعقاب، لا يعلم عددهم إلا الله؛ فجمع لهذا المعنى.

السادسة: قوله تعالى: {بَلَى} تقدم القول فيها في "البقرة". {أَنْ يَقُولُوا} {أَوْ يَقُولُوا} قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردهما على لفظ الغيبة المتكرر قبله، وهو قوله: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. وقوله: {قَالُوا بَلَى} أيضا لفظ غيبة. وكذا {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} {وَلَعَلَّهُمْ} فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما؛ ردوه على لفظ الخطاب المتقدم في قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ويكون {شَهِدْنَا} من قول الملائكة. لما قالوا {بَلَى} قالت الملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} {أَوْ تَقُولُوا} أي لئلا تقولوا. وقيل: معنى ذلك أنهم لما قالوا بلى، فأقروا له بالربوبية، قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال ابن عباس وأبي بن كعب: قوله {شَهِدْنَا} هو من قول بني آدم، والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا، وقال ابن عباس: أشهد بعضهم على بعض؛ فالمعنى على هذا قالوا بلى شهد بعضنا على بعض؛ فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على {بَلَى} ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم؛ لأن {أَنْ} متعلقة بما قبل بلى، من قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} لئلا يقولوا. وقد روى مجاهد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا". أي شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية لئلا تقولوا. فهذا يدل على التاء. قال مكي: وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل: إن قوله {شَهِدْنَا}من قول الله تعالى والملائكة. والمعنى: فشهدنا على إقراركم؛ قاله أبو مالك، وروي عن السدي أيضا.

{وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} أي اقتدينا بهم. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} بمعنى: لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد.

الآية: 175 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}

ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات. فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث أنه كان أول من صنف كتابا في أن "ليس للعالم صانع". قال مالك بن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان؛ فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى؛ ففيه نزلت هذه الآيات. روى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: كان بلعام قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه. فقيل له في ذلك؛ لا أقدر على أكثر مما تسمعون؛ واندلع لسانه على صدره. فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى، فإن وقعوا فيه هلكوا؛ ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا. وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره. وروي أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين، فاستجيب له وبقي في التيه. فقال موسى: يا رب، بأي ذنب بقينا في التيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم؛

فسلخه الله ما كان عليه، وقال أبو حامد في آخر كتاب منهاج العارفين له: وسمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرده بعد تلك الآيات والكرامات، فقال الله تعالى: لم يشكرني يوما من الأيام على ما أعطيته، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته. وقال عكرمة: كان بلعام نبيا وأوتي كتابا. وقال مجاهد: إنه أوتي النبوة؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردي: وهذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمن شعره وكفر قلبه" .

وقال سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية؛ فكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: يا محمد، ما هذا الذي جئت به؟ قال: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم" . قال: فإني عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها" . فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم أمات الله الكاذب منا كذلك" وإنما قال هذا يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة. فخرج أبو عامر إلى الشأم ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين: استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة؛ فمات بالشام وحيدا. وفيه نزل: "وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل} [التوبة: 107] وسيأتي في براءة. وقال ابن عباس في رواية: نزلت في رجل كان له ثلاث دعوات يستجاب له فيها، وكانت له امرأة يقال لها "البسوس" فكان له منها ولد؛ فقالت: اجعل لي منها دعوة واحدة. فقال: لك واحدة، فما تأمرين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة

في بني إسرائيل. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه؛ فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة. فذهب فيها دعوتان؛ فجاء بنوها وقالوا: لا صبر لنا عن هذا، وقد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها كما كانت؛ فدعا فعادت إلى ما كانت، وذهبت الدعوات فيها. والقول الأول أشهر وعليه الأكثر. قال عبادة بن الصامت: نزلت في قريش، آتاهم الله آياته التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم فانسلخوا منها ولم يقبلوها. قال ابن عباس: كان بلعام من مدينة الجبارين. وقيل: كان من اليمن. {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي من معرفة الله تعالى، أي نزع منه العلم الذي كان يعلمه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم". فهذا مثل علم بلعام وأشباهه، نعوذ بالله منه؛ ونسأل التوفيق والممات على التحقيق. والانسلاخ: الخروج؛ يقال: انسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه. وقيل: هذا من المقلوب، أي انسلخت الآيات منه. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي لحق به؛ يقال: أتبعت القوم أي لحقتهم. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به.

الآية: 176 {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

الآية: 177 {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}

قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} يريد بلعام. أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة. {بِهَا} أي بالعمل بها. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي ركن إليها؛ عن

ابن جبير والسدي. مجاهد: سكن إليها؛ أي سكن إلى لذاتها. وأصل الإخلاد اللزوم. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه. قال زهير:

لمن الديار غشيتها بالغرقد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد

يعني المقيم؛ فكأن المعنى لزم لذات الأرض فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي ما زين له الشيطان. وقيل: كان هواه مع الكفار. وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت رغبت في أموال حتى حملته على الدعاء على موسى. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} ابتداء وخبر. {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} شرط وجوابه. وهو في موضع الحال، أي فمثله كمثل الكلب لاهثا. والمعنى: أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية؛ كمثل الكلب الذي هذه حالته. فالمعنى: أنه لاهث على كل حال، طردته أو لم تطرده. قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؛ كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له، وإنما فؤاده منقطع. قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل؛ فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]. قال الجوهري: لهث الكلب "بالفتح" يلهث لهثا ولهاثا "بالضم" إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش؛ وكذلك الرجل إذا أعيا.

وقوله تعالى {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإذا تركته شد عليك ونبح؛ فيتعب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول:

إنما شبهه بالكلب من بين السباع لأن الكلب ميت الفؤاد، وإنما لهاثه لموت فؤاده. وسائر السباع ليست كذلك فلذلك لا يلهثن. وإنما صار الكلب كذلك لأنه لما نزل آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض شمت به العدو، فذهب إلى السباع فأشلاهم على آدم، فكان الكلب من أشدهم طلبا. فنزل جبريل بالعصا التي صرفت إلى موسى بمدين وجعلها آية له إلى فرعون وملئه، وجعل فيها سلطانا عظيما وكانت من آس الجنة؛ فأعطاها آدم صلى الله عليه وسلم يومئذ ليطرد بها السباع عن نفسه، وأمره فيما روي أن يدنو من الكلب ويضع يده على رأسه، فمن ذلك ألفه الكلب ومات الفؤاد منه لسلطان العصا، وألف به وبولده إلى يومنا هذا، لوضع يده على رأسه، وصار حارسا من حراس ولده. وإذا أدب وعلم الاصطياد تأدب وقبل التعليم؛ وذلك قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]. السدي: كان بلعام بعد ذلك يلهث كما يلهث الكلب. وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به. وقيل: هو في كل منافق. والأول أصح. قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي إن تحمل عليه بدابتك أو برجلك يلهث أو تتركه يلهث. وكذلك من يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه. وقال غيره: هذا شر تمثيل؛ لأنه مثله في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بكلب لاهث أبدا، حمل عليه أو لم يحمل عليه؛ فهو لا يملك لنفسه ترك اللهثان. وقيل: من أخلاق الكلب الوقوع بمن لم يخفه على جهة الابتداء بالجفاء، ثم تهدأ طائشته بنيل كل عوض خسيس. ضربه الله مثلا للذي قبل الرشوة في الدين حتى انسلخ من آيات ربه. فدلت الآية لمن تدبرها على ألا يغتر أحد بعمله ولا بعلمه؛ إذ لا يدري بما يختم له. ودلت على منع أخذ الرشوة لإبطال حق أو تغييره. وقد مضى بيانه في "المائدة". ودلت أيضا على منع التقليد لعالم إلا بحجة يبينها؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وألا يقبل منه إلا بحجة.

قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي هو مثل جميع الكفار.

الآية: 177 {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}

قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ} يقال: ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساء يسوء مساءة، فهو متعد، أي قبح مثلهم. وتقديره: ساء مثلا مثل القوم؛ فحذف المضاف، ونصب {مَثَلاً} على التمييز. قال الأخفش: فجعل المثل القوم مجازا. والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. التقدير: ساء المثل مثلا هو مثل القوم. وقدره أبو علي: ساء مثلا مثل القوم. وقرأ عاصم الجحدي والأعمش {ساء مثل القوم}رفع مثلا بساء.

الآية: 178 {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

تقدم معناه في غير موضع. وهذه الآية ترد على القدرية كما سبق، وترد على من قال إن الله تعالى هدى جميع المكلفين ولا يجوز أن يضل أحدا.

الأعراف - تفسير الدر المنثور

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة} يَقُول: رفعناه وَهُوَ قَوْله {ورفعنا فَوْقهم الطّور بميثاقهم} النِّسَاء الْآيَة 154 فَقَالَ {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة} وَإِلَّا أَرْسلتهُ عَلَيْكُم

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذ نتقنا الْجَبَل} قَالَ: رفعته الْمَلَائِكَة فَوق رؤوسهم فَقيل لَهُم {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة} فَكَانُوا إِذا نظرُوا إِلَى الْجَبَل قَالُوا: سمعنَا وأطعنا وَإِذا نظرُوا إِلَى الْكتاب قَالُوا: سمعنَا وعصينا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنِّي لأعْلم لم تسْجد الْيَهُود على حرف قَالَ الله {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة وظنوا أَنه وَاقع بهم} قَالَ: لتأخذن أَمْرِي أَو لأرمينكم بِهِ فسجدوا وهم ينظرُونَ إِلَيْهِ مَخَافَة أَن يسْقط عَلَيْهِم فَكَانَت سَجْدَة رضيها الله تَعَالَى فاتخذوها سنة

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن عِكْرِمَة قَالَ: أَتَى ابْن عَبَّاس يَهُودِيّ وَنَصْرَانِي فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: مَا دعَاكُمْ أَن تسجدوا بجباهكم فَلم يدر مَا يجِيبه فَقَالَ: سجدتم بجباهكم لقَوْل

الله {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة} فخررتم لجباهكم تنْظرُون إِلَيْهِ وَقَالَ لِلنَّصْرَانِيِّ: سجدتم إِلَى الشرق لقَوْل الله {إِذْ انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقياً} مَرْيَم الْآيَة 16

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عَطاء قَالَ: إِن هَذَا الْجَبَل جبل الطّور هُوَ الَّذِي رفع على بني إِسْرَائِيل

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {وَإِذ نتقنا الْجَبَل} قَالَ: كَمَا تنتق الزبدة أخرجنَا الْجَبَل

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ثَابت بن الْحجَّاج قَالَ: جَاءَتْهُم التَّوْرَاة جملَة وَاحِدَة فَكبر عَلَيْهِم فَأَبَوا أَن يأخذوه حَتَّى ظلَّل الله عَلَيْهِم الْجَبَل فَأَخَذُوهُ عِنْد ذَلِك

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة {وَإِذ نتقنا الْجَبَل} قَالَ: انتزعه الله من أَصله ثمَّ جعله فَوق رؤوسهم ثمَّ قَالَ: لتأخذن أَمْرِي أَو لأرمينكم بِهِ

وَأخرج الزبير بن بكار فِي الموفقيات عَن الْكَلْبِيّ قَالَ: كتب هِرقل ملك الرّوم إِلَى مُعَاوِيَة يسْأَله عَن الشَّيْء وَلَا شَيْء وَعَن دين لَا يقبل الله غَيره وَعَن مِفْتَاح الصَّلَاة وَعَن غرس الْجنَّة وَعَن صلا ة كل شَيْء وَعَن أَرْبَعَة فيهم الرّوح وَلم يركضوا فِي اصلاب الرِّجَال وَلَا ارحام النِّسَاء وَعَن رجل لَا أَب لَهُ وَعَن رجل لَا قوم لَهُ وَعَن قبر جرى بِصَاحِبِهِ وَعَن قَوس قزَح وَعَن بقْعَة طلعت عَلَيْهَا الشَّمْس مرّة لم تطلع عَلَيْهَا قبلهَا وَلَا بعْدهَا وَعَن ظاعن ظعن مرّة لم يظعن قبلهَا وَلَا بعْدهَا وَعَن شَجَرَة نَبتَت بِغَيْر مَاء وَعَن شَيْء يتنفس لَا روح لَهُ وَعَن الْيَوْم وأمس وغد وَبعد غَد مَا أجزاؤها فِي الْكَلَام وَعَن الرَّعْد والبرق وصوته وَعَن المجرة وَعَن المحو الَّذِي فِي الْقَمَر فَقيل لَهُ: لست هُنَاكَ وَإنَّك مَتى تخطىء شَيْئا فِي كتابك إِلَيْهِ يغتمزه فِيك فَاكْتُبْ إِلَى ابْن عَبَّاس

فَكتب إِلَيْهِ فَأَجَابَهُ ابْن عَبَّاس: أما الشَّيْء: فالماء قَالَ الله {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} واما لَا شَيْء: فالدنيا تبيد وتفنى وَأما الدّين الَّذِي لَا يقبل الله غَيره: فَلَا إِلَه إِلَّا الله وَأما مِفْتَاح الصَّلَاة: فَالله أكبر وَأما غرس الْجنَّة

فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأما صَلَاة كل شَيْء: فسبحان الله وَبِحَمْدِهِ وَأما الْأَرْبَعَة الَّتِي فِيهَا الرّوح وَلم يرتكضوا فِي أصلاب الرِّجَال وَلَا أَرْحَام

النِّسَاء: فآدم وحواء وعصا مُوسَى والكبش الَّذِي فدى الله بِهِ إِسْحَق واما الرجل الَّذِي لَا أَب لَهُ: فعيسى بن مَرْيَم وَأما الرجل الَّذِي لَا قوم لَهُ: فآدم وَأما الْقَبْر الَّذِي جرى بِصَاحِبِهِ: فَالْحُوت حَيْثُ سَار بِيُونُس فِي الْبَحْر وَأما قَوس قزَح: فأمان الله لِعِبَادِهِ من الْغَرق وَأما الْبقْعَة الَّتِي طلعت عَلَيْهَا الشَّمْس وَلم تطلع عَلَيْهَا قبلهَا وَلَا بعْدهَا: فالبحر حَيْثُ انْفَلق لبني إِسْرَائِيل وَأما الظاعن الَّذِي ظعن مرّة لم يظعن قبلهَا وَلَا بعْدهَا: فجبل طور سيناء كَانَ بَينه وَبَين الأَرْض المقدسة أَربع لَيَال فَلَمَّا عَصَتْ بَنو إِسْرَائِيل أطاره الله بجناحين من نور فِيهِ ألوان الْعَذَاب فأظله الله عَلَيْهِم وناداهم مُنَاد إِن قبلتم التَّوْرَاة كشفته عَنْكُم وَإِلَّا أَلقيته عَلَيْكُم فَأخذُوا التَّوْرَاة معذورين فَرده الله إِلَى مَوْضِعه فَذَلِك قَوْله {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة} الْآيَة وَأما الشَّجَرَة الَّتِي نَبتَت من غير مَاء: فاليقطينة الَّتِي أنبتت على يُونُس وَأما الَّذِي تنفس بِلَا روح فالصبح

قَالَ الله {وَالصُّبْح إِذا تنفس} التكوير الْآيَة 18 وَأما الْيَوْم: فَعمل وَأما أمس: فَمثل وَأما غَد: فأجل وَبعد غَد فأمل وَأما الْبَرْق: فمخاريق بأيدي الْمَلَائِكَة تضرب بهَا السَّحَاب وَأما الرَّعْد: فاسم الْملك الَّذِي يَسُوق السَّحَاب وصوته زَجره وَأما المجرة: فأبواب السَّمَاء وَمِنْهَا تفتح الْأَبْوَاب وَأما المحو الَّذِي فِي الْقَمَر فَقَوْل الله {وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ فمحونا آيَة اللَّيْل} الاسراء الْآيَة 12 وَلَوْلَا ذَلِك المحو لم يعرف اللَّيْل من النَّهَار وَلَا النَّهَار من اللَّيْل

فَبعث بهَا مُعَاوِيَة إِلَى قَيْصر وَكتب إِلَيْهِ جَوَاب مسَائِله

فَقَالَ قَيْصر: مَا يعلم هَذَا إِلَّا نَبِي أَو رجل من أهل بَيت نَبِي

وَالله تَعَالَى أعلم

- الْآيَة (172 - 174)

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

- أخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} الْآيَة

قَالَ: خلق الله آدم وَأخذ ميثاقه أَنه ربه وَكتب أَجله ورزقه ومصيبته ثمَّ أخرج وَلَده من ظَهره كَهَيئَةِ الذَّر فَأخذ مواثيقهم أَنه رَبهم وَكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} الْآيَة

قَالَ: لما خلق الله آدم أَخذ ذُريَّته من ظَهره كَهَيئَةِ الذَّر ثمَّ سماهم بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ: هَذَا فلَان بن فلَان يعْمل كَذَا وَكَذَا وَهَذَا فلَان بن فلَان يعْمل كَذَا وَكَذَا ثمَّ أَخذ بِيَدِهِ قبضتين فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَهَؤُلَاء فِي النَّار

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم واللالكائي فِي السّنة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك} الْآيَة

قَالَ: إِن الله خلق آدم ثمَّ أخرج ذُريَّته من صلبه مثل الذَّر فَقَالَ لَهُم: من ربكُم فَقَالُوا: الله رَبنَا

ثمَّ أعادهم فِي صلبه حَتَّى يُولد كل من أَخذ ميثاقه لَا يُزَاد فيهم وَلَا ينقص مِنْهُم إِلَى أَن تقوم السَّاعَة

وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما أهبط آدم عَلَيْهِ السَّلَام حِين أهبط بدحناء فَمسح الله ظَهره فَأخْرج كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ قَالَ: أَلَسْت بربكم قَالُوا: بلَى

فَيَوْمئِذٍ جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة قَالَ: مسح الله على صلب آدم فَأخْرج من صلبه مَا يكون من ذُريَّته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأخذ ميثاقهم أَنه رَبهم وَأَعْطوهُ ذَلِك فَلَا يسْأَل أحد كَافِر وَلَا غَيره من رَبك إِلَّا قَالَ: الله

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ واللالكائي فِي السّنة عَن عبد الله بن عَمْرو فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} قَالَ: أَخذهم من ظهْرهمْ كَمَا يُؤْخَذ بالمشط من الرَّأْس

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مَنْدَه فِي كتاب الرَّد على الْجَهْمِية وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة قَالَ: أخرج ذُريَّته من صلبه كَأَنَّهُمْ الذَّر فِي آذىء من المَاء

وَأخرج عبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة قَالَ: إِن الله ضرب بِيَمِينِهِ على منْكب آدم فَخرج مِنْهُ مثل اللُّؤْلُؤ فِي كَفه فَقَالَ: هَذَا للجنة

وَضرب بِيَدِهِ

الْأُخْرَى على مَنْكِبه الشمَال فَخرج مِنْهُ سَواد مثل الحمم فَقَالَ: هَذَا ذَرْء النَّار

قَالَ: وَهِي هَذِه الْآيَة {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ والإِنس} الْأَعْرَاف الْآيَة 179

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة قَالَ: مسح الله ظهر آدم وَهُوَ بِبَطن نعْمَان - وَاد إِلَى جنب عَرَفَة - فَأخْرج مِنْهُ كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ أَخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق وتلا (أَن يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة) هَكَذَا قَرَأَهَا يَقُولُوا بِالْيَاءِ

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن عبد الْكَرِيم بن أبي أُميَّة قَالَ: أخرجُوا من ظَهره مثل طَرِيق النَّمْل

وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: أقرُّوا لَهُ بالإِيمان والمعرفة الْأَرْوَاح قبل أَن يخلق أجسادها

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: خلق الله الْأَرْوَاح قبل أَن يخلق الأجساد فَأخذ ميثاقهم

وَأخرج ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد من طَرِيق السّديّ عَن أبي مَالك وَعَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مرّة الْهَمدَانِي عَن ابْن مَسْعُود وناس من الصَّحَابَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} قَالُوا: لما أخرج الله آدم من الْجنَّة قبل تهبيطه من السَّمَاء مسح صفحة ظَهره الْيُمْنَى فَأخْرج مِنْهُ ذُريَّته بَيْضَاء مثل اللُّؤْلُؤ كَهَيئَةِ الذَّر فَقَالَ لَهُم: ادخُلُوا الْجنَّة برحمتي

وَمسح صفحة ظَهره الْيُسْرَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة سَوْدَاء كَهَيئَةِ الذَّر فَقَالَ: ادخُلُوا النَّار وَلَا أُبَالِي

فَذَلِك قَوْله: أَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال ثمَّ أَخذ مِنْهُم الْمِيثَاق فَقَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} فَأعْطَاهُ طَائِفَة طائعين وَطَائِفَة كارهين على وَجه التقية فَقَالَ: هُوَ وَالْمَلَائِكَة {شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة انَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل} قَالُوا: فَلَيْسَ أحد من ولد آدم إِلَّا وَهُوَ يعرف الله أَنه ربه وَذَلِكَ قَوْله عز وَجل {وَله أسلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} آل عمرَان الْآيَة 83 وَذَلِكَ قَوْله {فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} الْأَنْعَام الْآيَة 149 يَعْنِي يَوْم أَخذ الْمِيثَاق

وَأخرج ابْن جرير عَن أبي مُحَمَّد رجل من أهل الْمَدِينَة قَالَ: سَأَلت عمر بن الْخطاب عَن قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا سَأَلتنِي فَقَالَ خلق الله آدم بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه ثمَّ أجلسه فَمسح ظَهره بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَأخْرج ذراً فَقَالَ: ذَرْء ذرأتهم للجنة ثمَّ مسح ظَهره بِيَدِهِ الْأُخْرَى - وكلتا يَدَيْهِ يَمِين - فَقَالَ: ذَرْء ذرأتهم للنار يعْملُونَ فِيمَا شِئْت من عمل ثمَّ اختم بِأَسْوَأ أَعْمَالهم فأدخلهم النَّار

وَأخرج عبد بن حميد وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل فِي زَوَائِد الْمسند وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مَنْدَه فِي كتاب الرَّد على الْجَهْمِية والالكائي وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه عَن أبيّ بن كَعْب فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} قَالَ: إِلَى قَوْله {بِمَا فعل المبطلون} جَمِيعًا فجعلهم أرواحاً فِي صورهم ثمَّ استنطقهم فتكلموا ثمَّ أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد والميثاق {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} قَالَ: فَإِنِّي أشهد عَلَيْكُم السَّمَوَات السَّبع وَأشْهد عَلَيْكُم أَبَاكُم آدم {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة} انَّا لم نعلم بِهَذَا اعلموا أَنه لَا إِلَه غَيْرِي وَلَا رب غَيْرِي وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئا إِنِّي سأرسل إِلَيْكُم رُسُلِي يذكرونكم عهدي وميثاقي وَأنزل عَلَيْكُم كتبي قَالُوا: شَهِدنَا بأنك رَبنَا وإلهنا لَا رب لنا غَيْرك وَلَا إِلَه لنا غَيْرك فأقروا وَرفع عَلَيْهِم آدم ينظر إِلَيْهِم فَرَأى الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَحسن الصُّورَة وَدون ذَلِك فَقَالَ: يَا رب لَوْلَا سوّيت بَين عِبَادك قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْت أَن أشكر

وَرَأى الْأَنْبِيَاء فيهم مثل السرج عَلَيْهِم النُّور وخصوا بميثاق آخر فِي الرسَالَة والنبوة أَن يبلغُوا وَهُوَ قَوْله {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم} الْأَحْزَاب الْآيَة 7 الْآيَة وَهُوَ قَوْله {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} الرّوم الْآيَة 30 وَفِي ذَلِك قَالَ {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين} الْأَعْرَاف الْآيَة 102 وَفِي ذَلِك قَالَ {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل} الْأَعْرَاف الْآيَة 101 قَالَ: فَكَانَ فِي علم الله يَوْمئِذٍ من يكذب بِهِ وَمن يصدق بِهِ فَكَانَ روح عِيسَى من تِلْكَ الْأَرْوَاح الَّتِي أَخذ عهدها وميثاقها فِي زمن آدم فَأرْسلهُ الله إِلَى مَرْيَم فِي صُورَة بشر فتمثل لَهَا بشرا سوياً

قَالَ: أبي فَدخل من فِيهَا

وَأخرج مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَأحمد وَعبد بن حميد وَالْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن حبَان والآجري فِي الشَّرِيعَة وَأَبُو الشَّيْخ وَالْحَاكِم وَابْن مرْدَوَيْه واللالكائي وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ أَن عمر بن الْخطاب سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} الْآيَة

فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ أَن الله خلق آدم ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ

فَقَالَ الرجل: يَا رَسُول الله فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ: إِن الله إِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال أهل الْجنَّة فيدخله الله الْجنَّة وَإِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال أهل النَّار فيدخله الله النَّار

وَأخرج أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله أَخذ الْمِيثَاق من ظهر آدم بنعمان يَوْم عَرَفَة فَأخْرج من صلبه كل ذُرِّيَّة ذرأها فنثرها بَين يَدَيْهِ كالذر ثمَّ كَلمهمْ قبلا قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا} إِلَى قَوْله {المبطلون}

وَأخرج ابْن جرير وَابْن مَنْدَه فِي كتاب الرَّد على الْجَهْمِية عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} قَالَ أَخذ من ظَهره كَمَا يُؤْخَذ بالمشط من الرَّأْس

فَقَالَ لَهُم {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} قَالَت الْمَلَائِكَة {شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة انَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين}

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن مَنْدَه وَأَبُو الشَّيْخ فِي العظمة وَابْن عَسَاكِر عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله لما خلق آدم مسح ظَهره فخرت مِنْهُ كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَنزع ضلعاً من أضلاعه فخلق مِنْهُ حَوَّاء ثمَّ أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} ثمَّ اختلس كل نسمَة من بني آدم بنوره فِي وَجهه وَجعل فِيهِ الْبلوى الَّذِي كتب أَنه يَبْتَلِيه بهَا فِي الدُّنْيَا من الأسقام ثمَّ عرضهمْ على آدم فَقَالَ: يَا آدم هَؤُلَاءِ ذريتك

وَإِذا فيهم الأجذم والأبرص وَالْأَعْمَى وأنواع الأسقام فَقَالَ آدم: يَا رب لم فعلت هَذَا بذريتي قَالَ: كي

تشكر نعمتي

وَقَالَ آدم: يَا رب من هَؤُلَاءِ الَّذين أَرَاهُم أظهر النَّاس نورا قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء من ذريتك

قَالَ: من هَذَا الَّذِي أرَاهُ أظهرهم نورا قَالَ: هَذَا دَاوُد يكون فِي آخر الْأُمَم

قَالَ: يَا رب كم جعلت عمره قَالَ: سِتِّينَ سنة

قَالَ: يَا رب كم جعلت عمري قَالَ: كَذَا وَكَذَا

قَالَ: يَا رب فزده من عمري أَرْبَعِينَ سنة حَتَّى يكون عمره مائَة سنة

قَالَ: أتفعل يَا آدم قَالَ: نعم يَا رب

قَالَ: فَيكْتب وَيخْتم إنَّا كتبنَا وختمنا وَلم نغير

قَالَ: فافعل أَي رب

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَلَمَّا جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى آدم ليقْبض روحه قَالَ: مَاذَا تُرِيدُ يَا ملك الْمَوْت قَالَ: أُرِيد قبض روحك

قَالَ: ألم يبْق من أَجلي أَرْبَعُونَ سنة قَالَ: أَو لم تعطها ابْنك دَاوُد قَالَ: لَا

قَالَ: فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: نسي آدم ونسيت ذُريَّته وَجحد آدم فَجحدت ذُريَّته

وَأخرج ابْن جرير عَن جُوَيْبِر قَالَ: مَاتَ ابْن الضَّحَّاك بن مُزَاحم ابْن سِتَّة أَيَّام فَقَالَ: إِذا وضعت ابْني فِي لحده فأبرز وَجهه وَحل عقده فَإِن ابْني مجْلِس ومسؤول

فَقلت: عمَّ يسْأَل قَالَ: عَن مِيثَاق الَّذِي أقرَّ بِهِ فِي صلب آدم حَدثنِي ابْن عَبَّاس: أَن الله مسح صلب آدم فاستخرج مِنْهُ كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَأخذ مِنْهُم الْمِيثَاق أَن يعبدوه وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا وتكفل لَهُم بالأرزاق ثمَّ أعادهم فِي صلبه فَلَنْ تقوم السَّاعَة حَتَّى يُولد من أعطي الْمِيثَاق يَوْمئِذٍ فَمن أدْرك مِنْهُم الْمِيثَاق الآخر فوفى بِهِ نَفعه الْمِيثَاق الأوّل وَمن أدْرك الْمِيثَاق الآخر فَلم يقر بِهِ لم يَنْفَعهُ الْمِيثَاق الأول وَمن مَاتَ صَغِيرا قبل أَن يدْرك الْمِيثَاق الآخر مَاتَ على الْمِيثَاق الأول على الْفطْرَة

وَأخرج عبد بن حميد عَن سلمَان قَالَ: إِن الله لما خلق آدم مسح ظَهره فَأخْرج مِنْهُ مَا هُوَ ذارىء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَكتب الْآجَال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة فَمن علم السَّعَادَة فعل الْخَيْر ومجالس الْخَيْر وَمن علم الشقاوة فعل الشَّرّ ومجالس الشَّرّ

وَأخرج عبد بن حميد والحكيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول وَأَبُو الشَّيْخ فِي العظمة وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي أُمَامَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: خلق الله الْخلق وَقضى الْقَضِيَّة وَأخذ مِيثَاق النَّبِيين وعرشه على المَاء فَأخذ أهل الْيَمين بِيَمِينِهِ وَأخذ أهل الشمَال بِيَدِهِ الْأُخْرَى - وكلتا يَدي الرَّحْمَن يَمِين - فَقَالَ: يَا أَصْحَاب الْيَمين

فاستجابوا لَهُ فَقَالُوا: لبيْك رَبنَا وَسَعْديك

قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} قَالَ: يَا أَصْحَاب الشمَال

فاستجابوا لَهُ فَقَالُوا: لبيْك رَبنَا وَسَعْديك

قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} فخلط بَعضهم بِبَعْض فَقَالَ قَائِل مِنْهُم: رب لم خلطت بَيْننَا قَالَ {وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} الْمُؤْمِنُونَ الْآيَة 63

{أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة انَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} ثمَّ ردهم فِي صلب آدم فَأهل الْجنَّة أَهلهَا وَأهل النَّار أَهلهَا فَقَالَ قَائِل: يَا رَسُول الله فَمَا الْأَعْمَال قَالَ: يعْمل كل قوم لمنازلهم

فَقَالَ عمر بن الْخطاب: إِذا نجتهد

وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خلق الله آدم مسح ظَهره فَسقط من ظَهره نسمَة هُوَ خَالِقهَا من ذُريَّته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَجعل بَين عَيْني كل إِنْسَان مِنْهُم وبيصاً من نور ثمَّ عرضهمْ على آدم فَقَالَ: أَي رب من هَؤُلَاءِ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذريتك

فَرَأى رجلا مِنْهُم فأعجبه وبيص مَا بَين عَيْنَيْهِ فَقَالَ: أَي رب من هَذَا فَقَالَ: رجل من آخر الْأُمَم من ذريتك يُقَال لَهُ دَاوُد

قَالَ: أَي رب وَكم جعلت عمره قَالَ: سِتِّينَ سنة قَالَ: أَي رب زده من عمري أَرْبَعِينَ سنة

فَلَمَّا انْقَضى عمر آدم جَاءَ ملك الْمَوْت فَقَالَ: أولم يبْق من عمري أَرْبَعُونَ سنة قَالَ: أولم تعطها ابْنك دَاوُد قَالَ: فَجحد فَجحدت ذُريَّته وَنسي فنسيت ذُريَّته

وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي الشُّكْر وَأَبُو الشَّيْخ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن الْحسن قَالَ: لما خلق الله آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَأخرج أهل الْجنَّة من صفحته الْيُمْنَى وَأخرج أهل النَّار من صفحته الْيُسْرَى فدبوا على وَجه الأَرْض مِنْهُم الْأَعْمَى والأصم والأبرص والمقعد والمبتلى بأنواع الْبلَاء فَقَالَ آدم: يَا رب أَلا سويت بَين وَلَدي قَالَ: يَا آدم إِنِّي أردْت أَن أشكر ثمَّ ردهم فِي صلبه

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن قَتَادَة وَالْحسن قَالَا: لما عرضت على آدم ذُريَّته فَرَأى فضل بَعضهم على بعض قَالَ: أَي رب أفهلا سوّيت بَينهم قَالَ: إِنِّي أحب أَن أشكر يرى ذُو الْفضل فَضله فيحمدني ويشكرني

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن بكر

مثله

 

وَأخرج ابْن جرير وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ والآجري فِي الشَّرِيعَة وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن هِشَام بن حَكِيم أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَتُبتدأ الْأَعْمَال أم قد قضي الْقَضَاء فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أَخذ ذُرِّيَّة آدم من ظُهُورهمْ ثمَّ أشهدهم على أنفسهم ثمَّ أَفَاضَ بهم فِي كفيه فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَهَؤُلَاء فِي النَّار

فَأهل الْجنَّة ميسرون لعمل أهل الْجنَّة وَأهل النَّار ميسرون لعمل أهل النَّار

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن مُعَاوِيَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أخرج ذُرِّيَّة آدم من صلبه حَتَّى ملؤوا الأَرْض وَكَانُوا هَكَذَا فضم إِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى

وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول وَابْن مرْدَوَيْه عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلت رَبِّي فَأَعْطَانِي أَوْلَاد الْمُشْركين خدماً لأهل الْجنَّة وَذَلِكَ أَنهم لم يدركوا مَا أدْرك آباؤهم من الشّرك وهم فِي الْمِيثَاق الأوّل

وَأخرج أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُقَال للرجل من أهل النَّار يَوْم الْقِيَامَة: أَرَأَيْت لَو كَانَ لَك مَا على الأَرْض من شَيْء أَكنت مفتدياً بِهِ فَيَقُول: نعم

فَيَقُول: قد أردْت مِنْك أَهْون من ذَلِك قد أخذت عَلَيْك فِي ظهر أَبِيك آدم أَن لَا تشرك بِي فأبيت إِلَّا أَن تشرك بِي

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير عَن عَليّ بن حُسَيْن

أَنه كَانَ يعْزل ويتأوّل هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ}

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعَزْل فَقَالَ لَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا إِن تكن مِمَّا أَخذ الله مِنْهَا الْمِيثَاق فَكَانَت على صَخْرَة نفخ فِيهَا الرّوح

وَأخرج أَحْمد وَابْن أبي حَاتِم عَن أنس قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعَزْل فَقَالَ لَو أَن المَاء الَّذِي يكون مِنْهُ الْوَلَد صب على صَخْرَة لأخرج الله مِنْهَا مَا قدر ليخلق الله نفسا هُوَ خَالِقهَا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن ابْن مَسْعُود

أَنه سُئِلَ عَن الْعَزْل فَقَالَ: لَو أَخذ الله مِيثَاق نسمَة من صلب رجل ثمَّ أفرغه على صفا لأخرجه من ذَلِك الصَّفَا فَإِن شِئْت فأعزل وَإِن شِئْت فَلَا تعزل

وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِن النُّطْفَة الَّتِي قضى الله فِيهَا الْوَلَد لَو وَقعت على صَخْرَة لأخرج الله مِنْهَا الْوَلَد

وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف وَأَبُو الشَّيْخ عَن فَاطِمَة بنت حُسَيْن قَالَت: لما أَخذ الله الْمِيثَاق من بني آدم جعله فِي الرُّكْن فَمن الْوَفَاء بِعَهْد الله استلام الْحجر

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ: كنت مَعَ أبي مُحَمَّد بن عَليّ فَقَالَ لَهُ رجل: يَا أَبَا جَعْفَر مَا بَدْء خلق هَذَا الرُّكْن فَقَالَ: إِن الله لما خلق الْخلق قَالَ لبني آدم {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} فأقروا وأجرى نَهرا أحلى من الْعَسَل وألين من الزّبد ثمَّ أَمر الْقَلَم فاستمد من ذَلِك النَّهر فَكتب إقرارهم وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى الْيَوْم الْقِيَامَة ثمَّ ألقم ذَلِك الْكتاب هَذَا الْحجر فَهَذَا الإِستلام الَّذِي ترى إِنَّمَا هُوَ بَيْعه على إقرارهم الَّذِي كَانُوا أقرُّوا بِهِ

وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: ضرب الله متن آدم فَخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بَيْضَاء نقية فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل الْجنَّة وَخرجت كل نفس مخلوقة للنار سَوْدَاء فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل النَّار أَمْثَال الْخَرْدَل فِي صور الذَّر فَقَالَ: يَا عباد الله أجِيبُوا الله: يَا عباد الله أطِيعُوا الله

قَالُوا: لبيْك اللَّهُمَّ أطعناك اللَّهُمَّ أطعناك اللَّهُمَّ أطعناك

وَهِي الَّتِي أعْطى الله إِبْرَاهِيم فِي الْمَنَاسِك: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك

فَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد بالإِيمان بِهِ والإِقرار والمعرفة بِاللَّه وَأمره

وَأخرج الجندي فِي فَضَائِل مَكَّة وَأَبُو الْحسن الْقطَّان فِي الطوالات وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان وَضَعفه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: حجَجنَا مَعَ عمر بن الْخطاب فَلَمَّا دخل الطّواف اسْتقْبل الْحجر فَقَالَ: إِنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبلك مَا قبلتك ثمَّ قبله فَقَالَ لَهُ عَليّ بن أبي طَالب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه يضر وينفع قَالَ: بِمَ

 

قَالَ: بِكِتَاب الله عز وَجل قَالَ: وَأَيْنَ ذَلِك من كتاب الله قَالَ الله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} إِلَى قَوْله {بلَى} خلق الله آدم وَمسح على ظَهره فقررهم بِأَنَّهُ الرب وَإِنَّهُم العبيد وَأخذ عهودهم ومواثيقهم وَكتب ذَلِك فِي رق وَكَانَ لهَذَا الْحجر عينان ولسان فَقَالَ لَهُ افْتَحْ فَاك

فَفتح فَاه فألقمه ذَلِك الرّقّ فَقَالَ: أشهد لمن وافاك بالموافاة يَوْم الْقِيَامَة وَإِنِّي أشهد لسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بِالْحجرِ الْأسود وَله لِسَان ذلق يشْهد لمن يستلمه بِالتَّوْحِيدِ فَهُوَ يَا أَمِير

الْمُؤمنِينَ يضر وينفع

فَقَالَ عمر: أعوذ بِاللَّه أَن أعيش فِي قوم لست فيهم يَا أَبَا حسن

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك} الْآيَة

قَالَ: أَخذهم فِي كَفه كَأَنَّهُمْ الْخَرْدَل الْأَوَّلين والآخرين فقلبهم فِي يَده مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا يرفع ويطأطئها مَا شَاءَ الله من ذَلِك ثمَّ ردههم فِي أصلاب آبَائِهِم حَتَّى أخرجهم قرنا بعد قرن ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد} الْأَعْرَاف الْآيَة 102 الْآيَة

ثمَّ نزل بعد ذَلِك {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ} الْمَائِدَة الْآيَة 7

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن عبد الله بن عمر قَالَ: لما خلق الله آدم نفضه نفض المزود فَخر مِنْهُ مثل النغف فَقبض مِنْهُ قبضتين فَقَالَ لما فِي الْيَمين: فِي الْجنَّة وَقَالَ لما فِي الْأُخْرَى: فِي النَّار

وَأخرج ابْن سعد وَأحمد عَن عبد الرَّحْمَن بن قَتَادَة السّلمِيّ وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله تبَارك وَتَعَالَى خلق آدم ثمَّ أَخذ الْخلق من ظَهره فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي

فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله فعلى مَاذَا نعمل قَالَ: على مواقع الْقدر

وَأخرج أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: خلق الله آدم حِين خلقه فَضرب كتفه الْيُمْنَى فَأخْرج ذُرِّيَّة بَيْضَاء كَأَنَّهُمْ الذَّر وَضرب كتفه الْيُسْرَى فَأخْرج ذُرِّيَّة سَوْدَاء كَأَنَّهُمْ الحممة فَقَالَ للَّذي فِي يَمِينه: إِلَى الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَقَالَ للَّذي فِي كتفه الْيُسْرَى: إِلَى النَّار وَلَا أُبَالِي

وَأخرج الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ والآجري وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله جلّ ذكره يَوْم خلق آدم قبض من صلبه قبضتين فَوَقع كل طيب فِي يَمِينه وكل خَبِيث بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَصْحَاب الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاء أَصْحَاب النَّار وَلَا أُبَالِي ثمَّ أعادهم فِي صلب آدم فهم يَنْسلونَ على ذَلِك إِلَى الْآن

وَأخرج الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي القبضتين هَذِه فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي

وَأخرج الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي القبضتين هَؤُلَاءِ لهَذِهِ وَهَؤُلَاء لهَذِهِ

قَالَ: فَتفرق النَّاس وهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْقدر

وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نوادرالأصول والآجري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خلق الله آدم ضرب بِيَدِهِ على شقّ آدم الْأَيْمن فَأخْرج ذَرأ كالذر فَقَالَ: يَا آدم هَؤُلَاءِ ذريتك من أهل الْجنَّة ثمَّ ضرب بِيَدِهِ على شقّ آدم الْأَيْسَر فَأخْرج ذَرأ كالحمم ثمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذريتك من أهل النَّار

وَأخرج أَحْمد عَن أبي نضر

فَإِن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَال لَهُ أَبُو عبد الله دخل عَلَيْهِ أَصْحَابه يعودونه وَهُوَ يبكي فَقَالُوا لَهُ: مَا يبكيك قَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول إِن الله قبض بِيَمِينِهِ قَبْضَة وَأُخْرَى بِالْيَدِ الْأُخْرَى فَقَالَ: هَذِه لهَذِهِ وَهَذِه لهَذِهِ وَلَا أُبَالِي فَلَا أَدْرِي فِي أَي القبضتين أَنا

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله قبض قَبْضَة فَقَالَ: للجنة برحمتي وَقبض قَبْضَة فَقَالَ: إِلَى النَّار وَلَا أُبَالِي

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك قَالَ: إِن الله أخرج من ظهر آدم يَوْم خلقه مَا يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَأخْرجهُمْ مثل الذَّر ثمَّ قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} قَالَت الْمَلَائِكَة: شَهِدنَا

ثمَّ قبض قَبْضَة بِيَمِينِهِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة

ثمَّ قبض قَبْضَة أُخْرَى فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج فِي قَوْله {إِن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة انَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} قَالَ: عَن الْمِيثَاق الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل} فَلَا يَسْتَطِيع أحد من خلق الله من الذُّرِّيَّة {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا} وَنَقَضُوا الْمِيثَاق {وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا} بذنوب آبَاؤُنَا وَبِمَا فعل المبطلون

وَالله تَعَالَى أعلم

 

- الْآيَة (175 - 177)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

- أخرج الْفرْيَابِيّ وَعبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن مَسْعُود {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ: هُوَ رجل من بني إِسْرَائِيل يُقَال لَهُ بلعم بن أبر

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه من طرق عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ بلعم بن باعوراء

وَفِي لفظ: بلعام بن عَامر الَّذِي أُوتِيَ الِاسْم كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا} الْآيَة

قَالَ: هُوَ رجل من مَدِينَة الجبارين يُقَال لَهُ بلعم تعلم اسْم الله الْأَكْبَر فَلَمَّا نزل بهم مُوسَى أَتَاهُ بَنو عَمه وَقَومه فَقَالُوا: إِن مُوسَى رجل جَدِيد وَمَعَهُ جنود كَثِيرَة وَإنَّهُ إِن يظْهر علينا يُهْلِكنَا فَادع الله أَن يرد عَنَّا مُوسَى وَمن مَعَه

قَالَ: إِنِّي إِن دَعَوْت الله أَن يرد مُوسَى وَمن مَعَه مَضَت دنياي وآخرتي فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِم فسلخ مِمَّا كَانَ فِيهِ

وَفِي قَوْله {إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث} قَالَ: إِن حمل الْحِكْمَة لم يحملهَا وَإِن ترك لم يهتد لخير كَالْكَلْبِ إِن كَانَ رابضاً لهث وَإِن طرد لهث

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه} الْآيَة

قَالَ: هُوَ رجل أعْطى ثَلَاث دعوات يُسْتَجَاب لَهُ فِيهِنَّ وَكَانَت لَهُ امْرَأَة لَهُ مِنْهَا ولد فَقَالَت: اجْعَل لي مِنْهَا وَاحِدَة

قَالَ: فلك وَاحِدَة فَمَا الَّذِي ترتدين قَالَت: ادْع الله أَن يَجْعَلنِي أجمل امْرَأَة فِي بني إِسْرَائِيل

فَدَعَا الله فَجَعلهَا أجمل امْرَأَة فِي بني إِسْرَائِيل فَلَمَّا علمت أَن لَيْسَ فيهم مثلهَا رغبت عَنهُ وأرادت شَيْئا آخر فَدَعَا الله أَن يَجْعَلهَا كلبة فَصَارَت كلبة فَذَهَبت دعوتان فجَاء بنوها فَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا على هَذَا قَرَار قد صَارَت أمنا كلبة يعيرنا النَّاس بهَا

فَادع الله أَن يردهَا إِلَى الْحَال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ فَدَعَا الله فَعَادَت كَمَا كَانَت فَذَهَبت الدَّعْوَات الثَّلَاث وَسميت البسوس

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ رجل يدعى بلعم من أهل الْيمن آتَاهُ الله آيَاته فَتَركهَا

وَأخرج عبد بن حميد وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن عمر {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ: هُوَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيّ

وَفِي لفظ: نزلت فِي صَاحبكُم أُميَّة بن أبي الصَّلْت

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: قدمت الفارعة أُخْت أُميَّة بن أبي الصَّلْت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد فتح مَكَّة فَقَالَ لَهَا هَل تحفظين من شعر أَخِيك شَيْئا قَالَت: نعم

فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا فارعة إِن مثل أَخِيك كَمثل الَّذِي آتَاهُ الله آيَاته فانسلخ مِنْهَا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن ابْن شهَاب قَالَ: قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت: أَلا رَسُول لنا منا يخبرنا مَا بعد غايتنا من رَأس نجرانا قَالَ: ثمَّ خرج أُميَّة إِلَى الْبَحْرين وتنبأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَقَامَ أُميَّة بِالْبَحْرَيْنِ ثَمَانِي سِنِين ثمَّ قدم فلقي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمَاعَة من أَصْحَابه فَدَعَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الإِسلام وَقَرَأَ عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يس وَالْقُرْآن الْحَكِيم} يس الْآيَتَانِ 1 - 2 حَتَّى فرغ مِنْهَا وثب أُميَّة يجر رجلَيْهِ فتبعته قُرَيْش تَقول: مَا تَقول يَا أُميَّة قَالَ: أشهد أَنه على الْحق

قَالُوا: فَهَل تتبعه قَالَ: حَتَّى أنظر فِي أمره

ثمَّ خرج أُميَّة إِلَى الشَّام وَقدم بعد وقْعَة بدر يُرِيد أَن يسلم فَلَمَّا أخبر بقتلى بدر ترك الإِسلام وَرجع إِلَى الطَّائِف

فَمَاتَ بهَا قَالَ: فَفِيهِ أنزل الله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا}

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن عَسَاكِر عَن نَافِع بن عَاصِم بن عُرْوَة ابْن مَسْعُود قَالَ: إِنِّي لفي حَلقَة فِيهَا عبد الله بن عمر فَقَرَأَ رجل من الْقَوْم الْآيَة الَّتِي فِي الْأَعْرَاف {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} فَقَالَ: أَتَدْرُونَ من هُوَ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ صَيْفِي بن الراهب

وَقَالَ بَعضهم: هُوَ

بلعم رجل من بني إِسْرَائِيل

فَقَالَ: لَا

فَقَالُوا: من هُوَ قَالَ: أُميَّة بن أبي الصَّلْت

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن الشّعبِيّ فِي هَذِه الْآيَة {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ رجل من بني إِسْرَائِيل يُقَال لَهُ بلعم بن باعورا وَكَانَت الْأَنْصَار تَقول: هُوَ ابْن الراهب الَّذِي بنى لَهُ مَسْجِد الشقاق وَكَانَت ثَقِيف تَقول: هُوَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ صَيْفِي بن الراهب

وَأخرج ابْن جرير عَن مُجَاهِد فِي الْآيَة قَالَ: هُوَ نَبِي فِي بني إِسْرَائِيل يَعْنِي بلعم أُوتِيَ النبوّة فرشاه قومه على أَن يسكت فَفعل وتركهم على مَا هم عَلَيْهِ

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {فانسلخ مِنْهَا} قَالَ: نزع مِنْهُ الْعلم

وَفِي قَوْله {وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا} قَالَ: رَفعه الله بِعِلْمِهِ

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مَالك بن دِينَار قَالَ: بعث نَبِي الله مُوسَى بلعام بن باعورا إِلَى ملك مَدين يَدعُوهُم إِلَى الله وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَكَانَ من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل فَكَانَ مُوسَى يقدمهُ فِي الشدائد فاقطعه وأرضاه فَترك دين مُوسَى وَتبع دينه فَأنْزل الله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا}

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن كَعْب فِي قَوْله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا} قَالَ: كَانَ يعلم اسْم الله الْأَعْظَم الَّذِي إِذا دعِي بِهِ أجَاب

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ: هَذَا مثل ضربه الله لمن عرض عَلَيْهِ الْهدى فَأبى أَن يقبله وَتَركه {وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا} قَالَ: لَو شِئْنَا لرفعناه بإيتائه الْهدى فَلم يكن للشَّيْطَان عَلَيْهِ سَبِيل وَلَكِن الله يَبْتَلِي من يَشَاء من عباده {وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ} قَالَ: أَبى أَن يصحب الْهدى {فَمثله كَمثل الْكَلْب} الْآيَة

قَالَ: هَذَا مثل الْكَافِر ميت الْفُؤَاد كَمَا أميت فؤاد الْكَلْب

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم فِي قَوْله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ: أنَاس من الْيَهُود وَالنَّصَارَى والحنفاء مِمَّن أَعْطَاهُم الله من آيَاته وَكتابه {فانسلخ مِنْهَا} فَجعله مثل الْكَلْب

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا} قَالَ: لدفعناه عَنهُ بهَا {وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض} قَالَ: سكن {إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث} إِن تطرده بدابتك ورجليك وَهُوَ مثل الَّذِي يقْرَأ الْكتاب وَلَا يعْمل بِهِ

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله {وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض} قَالَ: ركن نزع

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن فِي قَوْله {إِن تحمل عَلَيْهِ} قَالَ: أَن تسع عَلَيْهِ

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج فِي قَوْله {إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث} قَالَ: الْكَلْب مُنْقَطع الْفُؤَاد لَا فؤاد لَهُ مثل الَّذِي يتْرك الْهدى لَا فؤاد لَهُ إِنَّمَا فُؤَاده مُنْقَطع كَانَ ضَالًّا قبل وَبعد

وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن الْمُعْتَمِر قَالَ: سُئِلَ أَبُو الْمُعْتَمِر عَن هَذِه الْآيَة {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} فَحدث عَن سيار أَنه كَانَ رجلا يُقَال لَهُ بلعام وَكَانَ قد أُوتِيَ النبوّة وَكَانَ مجاب الدعْوَة ثمَّ أَن مُوسَى أقبل فِي بني إسرئيل يُرِيد الأَرْض الَّتِي فِيهَا بلعام فرعب النَّاس مِنْهُ رعْبًا شَدِيدا فَأتوا بلعام فَقَالُوا: ادْع الله على هَذَا الرجل قَالَ: حَتَّى أؤامر رَبِّي فوامر فِي الدُّعَاء عَلَيْهِم فَقيل لَهُ: لَا تدع عَلَيْهِم فَإِن فيهم عبَادي وَفِيهِمْ نَبِيّهم فَقَالَ لِقَوْمِهِ: قد وَأمرت فِي الدُّعَاء عَلَيْهِم وَإِنِّي قد نهيت

قَالَ: فاهدوا إِلَيْهِ هَدِيَّة فقبلها ثمَّ راجعوه فَقَالُوا: ادْع الله عَلَيْهِم

فَقَالَ: حَتَّى أوَامِر فوامر فَلم يحار إِلَيْهِ شَيْء

فَقَالَ: قد وَأمرت فَلم يحار إِلَى شَيْء

فَقَالُوا: لَو كره رَبك أَن تَدْعُو عَلَيْهِم لنهاك كَمَا نهاك الأولى فَأخذ يَدْعُو عَلَيْهِم فَإِذا دَعَا جرى على لِسَانه الدُّعَاء على قومه فَإِذا أرسل أَن يفتح على قومه جرى على لِسَانه أَن يفتح على مُوسَى وجيشه فَقَالُوا: مَا نرَاك إِلَّا تَدْعُو علينا

قَالَ: مَا يجْرِي على لساني إِلَّا هَكَذَا وَلَو دَعَوْت عَلَيْهِم مَا اسْتُجِيبَ لي وَلَكِن سأدلكم على أَمر عَسى أَن يكون فِيهِ هلاكهم إِن الله يبغض الزِّنَا وَإِن هم وَقَعُوا بِالزِّنَا هَلَكُوا فاخرِجُوا النِّسَاء فَإِنَّهُم قوم مسافرون فَعَسَى أَن يزنوا فيهلكوا فأخْرَجُوا النِّسَاء تستقبلهم فوقعوا بِالزِّنَا فَسلط الله عَلَيْهِم الطَّاعُون فَمَاتَ مِنْهُم سَبْعُونَ ألفا

وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا}

قَالَ: كَانَ اسْمه بلعم وَكَانَ يحسن اسْما من أَسمَاء الله فغزاهم مُوسَى فِي سبعين ألفا فَجَاءَهُ قومه فَقَالُوا: ادْع الله عَلَيْهِم - وَكَانُوا إِذا غزاهم أحد أَتَوْهُ فَدَعَا عَلَيْهِم فهلكوا - وَكَانَ لَا يَدْعُو حَتَّى ينَام فَينْظر مَا يُؤمر بِهِ فِي مَنَامه فَنَامَ فَقيل لَهُ: ادْع الله لَهُم وَلَا تدع عَلَيْهِم فَاسْتَيْقَظَ فَأبى أَن يَدْعُو عَلَيْهِم فَقَالَ لَهُم: زَينُوا لَهُم النِّسَاء فَإِنَّهُم إِذا رأوهن لم يصبروا حَتَّى يُصِيبُوا من الذُّنُوب فتدالوا عَلَيْهِم

 

- الْآيَة (178)

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

- أخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي الْخطْبَة الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله

وَأخرج مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن جَابر قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي خطبَته نحمد الله ونثني عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله ثمَّ يَقُول: من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ أصدق الحَدِيث كتاب الله وَأحسن الْهَدْي هدي مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار ثمَّ يَقُول: بعثت أَنا والساعة كهاتين

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة ثمَّ ألْقى عَلَيْهِم من نوره فَمن أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور يَوْمئِذٍ شَيْء اهْتَدَى وَمن اخطأه ضل فَلذَلِك أَقُول: جف الْقَلَم على علم الله

- الْآيَة (179)

الأعراف - تفسير أضواء البيان  .

المجلد الثاني

سورة الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعراف

قوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} الآية، قال مجاهد، وقتادة، والسدي: {حَرَجٌ} أي شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً، وعلى هذا القول فالآية، كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [2/147]، وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [3/60]، {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [10/94].

والممتري: هو الشاك؛ لأنه مفتعل من المرية وهي الشك، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

والمراد: نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الراجز: "الرجز"

إياك أعني واسمعي يا جارة

وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [76/24]، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/65]، وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الآية [2/120 و145] و [13/37].

ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً من ذلك، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.

وجمهور العلماء: على أن المراد بالحرج في الآية الضيق. أي: لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك؛ لأن تحمل عدواة الكفار، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة"، أخرجه مسلم. والثلغ: الشدخ وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ، وهذا البطش مما

يضيق به الصدر.

ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [11/12] وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [15/97]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [18/6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [26/3].

ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب: الضيق. وذلك معروف في كلامهم، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [24/61]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [22/78]، وقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [6/125]، أي: شديد الضيق، إلى غير ذلك من الآيات، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل: "الكامل"

فخرجت خوف يمينها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج

وقول العرجي: "السريع"

عوجي علينا ربة الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي

والمراد بالإحراج في البيتين: الإدخال في الحرج. بمعنى الضيق كما ذكرنا.

قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، لم يبين هنا المفعول به لقوله: {لِتُنْذِرَ} ، ولكنه بينه في مواضع أُخر كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [19/97]، وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [36/6]، إلى غير ذلك من الآيات. كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر، كقوله {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} الآية [18/2]، وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [92/14]، وقوله: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} الآية[78/40]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [7/3] فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدلّ لذلك قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [19/97]، وقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [50/51]، وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [50/45].

ولا ينافي ما ذكرنا من أن الإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [36/11]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم.

ومن أساليب اللغة العربية: التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء.

وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث: أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين:

أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [74/1، 2]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1].

وهذا الإنذار العام: هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} الآية؛ لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.

والثاني: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}، وقوله هنا: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} اهـ.

والإنذار في اللغة العربية: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.

قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}، خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، بأنه أهلك كثيراً من القرى بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها {بَيَاتاً}، أي: ليلاً، ومنهم من أهلكها و {هُمْ قَائِلُونَ}، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار. يعني: فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [6/10]، وقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [22/45]، وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [28/58]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [47/10]، ثم بين أنه

يريد تهديدهم بذلك بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحى في حالة اللعب، في قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [7/97، 98]، وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [16/45، 46، 47].

قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.

وأوضح هذا المعنى في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [21/11-15].

قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، حدثنا بذلك ابن حميد، حدثنا جرير عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، قال: قلت لعبد الله: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [7/5].

قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ، لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.

وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.

قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [5/109].

وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [28/65].

وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعلمون، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/92، 93].

وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [7/6]، وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [37/24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [55/39].

وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وسنزيده إيضاحاً هنا إن شاء الله تعالى.

اعلم أولاً: أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخص من السؤال المثبت فيها؛ لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة، فإنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، فخصه بكونه عن الذنوب، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، فخصه بذلك أيضاً، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه؛ لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [33/8]، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [5/116]، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الآية [5/119]، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات: المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [37/24،25]، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [52/15]، إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ، بين تعالى في هذه الآية

الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [58/7]، وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [57/4]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [10/61].

تنبيه

في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني، القائلين: إنه تعالى عالم بذاته، لا بصفة قامت بذاته، هي العلم، وهكذا في قولهم: قادر مريد، حي سميع، بصير متكلم، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [7/7]، ونظيره قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية[4/166]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.

قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه، ولا ظلم، فلا يزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [21/47]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الآية [4/40] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من ثقلت موازينهم أفلحوا، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا.

وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار، وذلك في قوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [101/6-11].

وبين أيضاً خسران من خفت موازينة، بقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [23/103، 104]]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} الآية،لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، كقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً َعِنَباً وَقَضْباً َزَيْتُوناً وَنَخْلاً َحَدَائِقَ غُلْباً َفَاكِهَةً وَأَبّا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [80/24-32].

وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [32/27]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} [20/53، 54].

وذكر كثيراً من ذلك في سورة النحل كقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [5] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، قال بعض العلماء: معناه: ما منعك أن تسجد، و "لا" صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى: في سورة "ص" {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية [38/75]، وقد أوضحنا زيادة لفظة "لا" وشواهد ذلك من القرآن، ومن كلام العرب في سورة البلد، في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، ذكر في هذه الآية الكريمة: أن إبليس لعنه الله خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن، فقد زاد في مواضع أخر أوصافاً للنار التي خلقه منها، من ذلك أنها نار السموم، كما في قوله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [15/27]، ومن ذلك أنها خصوص المارج، كما في قوله: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍٍ} [55/15]، والمارج أخص من مطلق النار؛ لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.

وسميت نار السموم؛ لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"، ورواه عنها أيضاً الإمام أحمد.

قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغراً حقيراً ذليلا، متصفاً بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [7/13]، والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} [7/18]، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك؛ وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [40/56].

وبين في مواضع أخر كثيراً من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر، ـ أعاذنا الله والمسلمين منه، ـ فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [7/146]، ومن ذلك أَنَه من أسباب الثواء في النار، كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [38/60]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [37/35]، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [16/23]، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعاذ إلا مما هو شر، كما في قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [40/27]، إلى غير ذلك من

نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.

وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [25/63]، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [28/83] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، وقد قال الشاعر: "الطويل"

تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه ... على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى صفحات الجو وهو وضيع

وقال أبو الطيب المتنبي: "الوافر"

ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام

قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }، لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في "الحجر" و "ص"، مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم؛ لقوله: في سورة "الحجر" و "ص" {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [/80] فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.

وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بني آدم فيه قاله ظناً منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم، وقد بين تعالى في سورة "سبأ" أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} الآية [34/20]، كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} ، بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: أخرج منها في حال كونك مذءوماً مدحوراً، والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ

أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [38/84، 85]، وقوله: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [17/63، 64]، وقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [26/94، 95] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} ، حذر تعالى في هذه الآية الكريمة بني آدم أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم، وصرح في موضع آخر: أنه حذر آدم من مكر إبليس قبل أن يقع فيما وقع فيه، ولم ينجه ذلك التحذير من عدوه، وهو قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [20/117].

قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا فعلوا فاحشة، استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد.

وبين في موضع آخر: أن هذا واقع من جميع الأمم، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [43/23].

ورد الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [2/170]، وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [5/104]، وقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [43/24]، وقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [37/69، 70]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، في هذه الآية الكريمة للعلماء وجهان من التفسير:

الأول: أن معنى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، أي: كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه، فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن

سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، ويدل لهذا الوجه قوله بعده: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [7/30]، وهو ظاهر كما ترى، ومن الآيات الدالة عليه أيضاً قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [64/2]، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} الآية [11/119]، أي: ولذلك الاختلاف إلى شقي، وسعيد خلقهم.

الوجه الثاني: أن معنى قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [7/29]، أي: كما خلقكم أولاً، ولم تكونوا شيئاً، فإنه يعيدكم مرة أخرى، ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرتم عظاماً رميماً، والآيات الدالة على هذا الوجه كثيرة جداً، كقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا} [21/104]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [30/27]، وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية [36/97]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [22/5]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنه قد يكون في الآية وجهان، وكل واحد منهما حق، ويشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم على هدى.

وبين في موضع آخر: أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملاً، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [18/103، 104].

تنبيه

هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل، وعناداً،

فلذلك كان غير معذور. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يسأل سؤال إنكار من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، كاللباس في الطواف، {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كالأنعام، والحرث التي حرمها الكفار، وكاللحم والودك الذي حرمه بعض العرب في الجاهلية في الحج.

وصرح في مواضع أخر: أن من قال ذلك على الله فهو مفتر عليه جل وعلا، كقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [16/116]، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [6/140]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/59]، وطلبهم في موضع آخر طلب إعجاز أن يأتوا بالشهداء الذين يشهدون لهم أن الله حرم هذا، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم إن شهد لهم شهود زور أن يشهد معهم، وهو قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [6/150]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ، لم يبين هنا السبب الذي مكنهم من إضلالهم، ولكنه بين في موضع آخر: أن السبب الذي مكنهم من ذلك هو كونهم سادتهم وكبراءهم، ومعلوم أن الأتباع يطيعون السادة الكبراء فيما يأمرونهم به، وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [33/67، 68] . وبسط ذلك في سورة "سبأ" بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداًً} [34/31-33].

قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات: أن الأتباع يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب للمتبوعين،

وبين في مواضع أخر: أن مضاعفة العذاب للمتبوعين لا تنفع الأتباع، ولا تخفف عنهم من العذاب، كقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [43/39]، وقوله هنا: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} الآية [7/38]، وقوله: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [7/39]، وقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [40/48]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جل وعلا، ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد، والحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة، وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخواناً على سرر متقابلين آمنين من النصب، والخروج من الجنة، وهو قوله تعالى في "الحجر": {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [15/47، 48].

قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بين أهل الجنة، وأهل النار حجاباً يوم القيامة، ولم يبين هذا الحجاب هنا، ولكنه بينه في سورة "الحديد"، بقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية [57/13].

قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف، {يَعْرِفُونَ كُلّاً} من أهل الجنة، وأهل النار {بِسِيمَاهُمْ}، ولم يبين هنا سيما أهل الجنة، ولا أهل النار، ولكنه أشار لذلك في مواضع أخر، كقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية [3/106].

فبياض الوجوه وحسنها؛ سيما أهل الجنة، وسوادها وقبحها، وزرقة العيون، سيما أهل النار، كما قال أيضاً في سيما أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [83/24] ، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الآية [75/22]، وقال في سيما أهل النار: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [10/27] . وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} الآية [80/40] ، وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [20/102].

قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، ذكر تعالى في هذه

الآية الكريمة: أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار: {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا.

وبين في مواضع أخر وجه ذلك: وهو أن الإنسان يوم القيامة، يحشر فرداً، لا مال معه، ولا ناصر، ولا خادم، ولا خول. وأن استكباره في الدنيا يجزى به عذاب الهون في الآخرة، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [6/94]، وقوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [19/80]، وقوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [19/95]، وقوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [46/20].

قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار، إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق، ويتمنون أحد أمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل، ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر، فبين: أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} الآية [26/100]، وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [74/48]، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21/28] مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [39/7]، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [9/96]، وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [32/12، 13].

فقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية، دليل على أن النار وجبت لهم، فلا يردون، ولا يعذرون، وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [35/37].

فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا؛ بالإمهال مدة يتذكرون فيها؛ وإنذار الرسل،

وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: {َأَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [14/44]، جواباً لقولهم: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [40/12]، بعد قوله تعالى عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [40/11] ، وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآية [42/45]، بعد قوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [42/44]، وقوله هنا: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم} الآية [7/53]، بعد قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ} الآية.

فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه.

وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان؛ وهو قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [6/28]، وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى، ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به في قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، ويعلم أن المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك لا يحضرونها؛ لأنه هو الذي ثبطهم عنها لحكمة كما بينه بقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} الآية [9/46]، وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآية [9/47] ، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [23/75]، إلى غير ذلك من الآيات.

وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، لا ينفعهم كقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [67/11]، وقوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]، ونحو ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة "فصلت" بقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ

الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [41/9-12].

قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الآية، هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [48/10] ونحو ذلك، أشكلت على كثير من الناس إشكالاً ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة، فصار قوم إلى التعطيل وقوم إلى التشبيه، سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن ذلك كله، والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين:

أحدهما: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

والثاني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُُ} [2/140]، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [53/3،4]، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعماً أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا، سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!.

ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال، والتنزيه عن مشابهة الخلق، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا؛ هي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [42/11]، فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الإتصاف بصفات الكمال والجلال.

والظاهر أن السر في تعبيره بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، دون أن يقول مثلاً:

وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة؛ أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فبين أن الله متصف بهما، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى، وبين صفات خلقه، ولذا جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحاً تاماً بحسب طاقتنا، وبالله جل وعلا التوفيق.

اعلم أولاً: أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:

صفة نفسية، وصفة سلبية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة جامعة، والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية؛ لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة، فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجوداً قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء؛ لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية، وليستا من صفات الأفعال، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عالم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح؛ لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز، وإن كان المقصود به صحيحاً؛ لأن الصفة النفسية في الإصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس، كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً، المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينا لك، من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى؛ لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته، ولا من صفاته، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة.

والفصل: هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضاً وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به؛ لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد؛ لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.

فمن ذلك: الصفات السبع، المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي: القدرة، والإدارة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.

فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [2/284] و[3/29] و[3/189] و [5/19] و [5/40] و [8/41].

وقال في وصف الحادث بها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [5/34]، فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء، وبين قدرته وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه.

وقال في وصف نفسه بالإرادة: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [11/107] و[85/16]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36/82]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2/185]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف المخلوق بها: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآية[8/67]، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [33/13]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [61/8]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضاً مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالعلم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [24/35]، {لَكِنِ اللَّهُ

يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية[4/ 166]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [7/7].

وقال في وصف الحادث به: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [51/28]، وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [12/68]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالحياة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [2/255]، {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية [40/65]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [25/58]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف المخلوق بها: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [19/15]، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [21/30]، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [30/19].

فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضاً حياة مناسبة لحاله؛ وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [22/75] و [31/28]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف الحادث بهما: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [76/2]، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية[19/38]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله، وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال في وصف نفسه بالكلام {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [4/164]، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [7/144]، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [9/6]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف المخلوق به: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [12/54]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} الآية[36/65]، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [ 19/29]، ونحو ذلك من الآيات.

فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله؛ وللمخلوق كلام أيضاً مناسب لحاله. وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.

والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها، فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته هكذا فراراً منهم من تعدد القديم.

ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلاً استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات، استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة، قال في "مراقي السعود":"الرجز"

وعند فقد الوصف لا يشتق ... وأعوز المعتزلي الحق

وأما الصفات المعنوية عندهم: فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة، وهي كونه تعالى: قادراً، مريداًً، عالماً حياً، سميعاً بصيراً، متكلماً.

والتحقيق: أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بالمعاني، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني، مبني على ما يسمونه الحال المعنوية، زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود، ولا معدوم؛ والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها؛ لأن العقل الصحيح حاكم حكماً لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة، فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود، فإنه معدوم قطعاً، وكل ما هو غير معدوم، فإنه موجود قطعاً، وهذا مما لا شك فيه كما ترى.

وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني، مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها.

وأما الصفات السلبية عندهم: فهي خمس، وهي عندهم: القدم، والبقاء، والوحدانية، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق، المعروف عندهم بالقيام بالنفس.

وضابط الصفة السلبية عندهم: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلاً، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله.

أما الصفة التي تدل على معنى وجودي، فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى، فالقدم مثلاً عندهم لا معنى له بالمطابقة، إلا سلب العدم السابق، فإن قيل: القدرة مثلاً تدل على سلب العجز، والعلم يدل على سلب الجهل، والحياة تدل على سلب الموت، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضاً؟.

فالجواب: أن القدرة مثلا تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية. وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلاً، وهكذا في باقي المعاني.

أما القدم عندهم مثلا: فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود، إلا سلب العدم السابق، وهكذا في باقي السلبيات، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم، والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} الآية[57/3]، جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضاً، قال في وصف الحادث بالقدم: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [36/39]، وقال: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [ 12/95]، وقال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [26/75، 76]، وقال في وصف الحادث بالبقاء: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [37/77]، وقال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [16/96]، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية المذكورتين في الآية، قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [77/16، 17]، ووصف نفسه بأنه واحد، قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [2/163]، وقال في وصف الحادث بذلك: {يُسْقَى بِمَاءٍ

وَاحِدٍ} [13/4]، وقال في وصف نفسه بالغنى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [35/15]، {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [14/8]، وقال في وصف الحادث بالغنى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية [4/6]، {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} الآية [24/32]، فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، والحادث موصوف بها أيضاً على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه، وعجزه وافتقاره، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق، كما بيناه في صفات المعاني.

وأما الصفة النفسية عندهم، فهي واحدة، وهي: الوجود، وقد علمت ما في إطلاقها على الله، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة، كأبي الحسن الأشعري، وعلى كل حال، فلا يخفى أن الخالق موجود، والمخلوق موجود، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق، كما بينا.

ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم.

وأما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه، قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} الآية [51/58]، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [34/39]، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الآية [11/6]، وقال في وصف الحادث بذلك: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [4/8]، وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية [2/233]، ووصف نفسه بالعمل، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} الآية [36/71]، وقال في وصف الحادث به: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [66/7]، ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [55/1-4].

وقال في وصف الحادث به: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية [62/2].

وجمع المثالين في قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [5/4]، ووصف

نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بذلك، وجمع المثالين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [66/3]، ووصف نفسه بالإيتاء، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [2/258]، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [2/269]، وقال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [11/3]، وقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [57/21].

وقال في وصف الحادث بذلك: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [4/20]، {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [4/2]، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [4/4]، وأمثال هذا كثيرة جداً في القرآن العظيم.

ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضاً، على الوجه المناسب لحاله، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وأما الصفات الجامعة، كالعظم والكبر والعلو، والملك والتكبر والجبروت، ونحو ذلك. فإنها أيضاً يكثر جداً وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم.

ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق. قال في وصف نفسه جلا وعلا بالعلو والعظم والكبر: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [2/255]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [4/34]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [13/9] .

وقال في وصف الحادث بالعظم: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[26/63]، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [17/40]، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [27/23]، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [9/129]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف الحادث بالكبر: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [67/12]، وقال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [17/31]، وقال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [8/73]، وقال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [2/143]، وقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [2/45.]

وقال في وصف الحادث بالعلو: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [19/57]، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [19/50]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف نفسه بالملك: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} الآية [62/1]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} الآية [59/23]، وقال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [54/55].

وقال في وصف الحادث به: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} الآية [12/43]، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [12/50] و [12/54]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [18/79]، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [2/247]، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [3/26] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف نفسه بالعزة: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [2/209]، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [62/1]، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [38/9].

وقال في وصف الحادث بالعزة {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} الآية[12/51]، {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [38/23].

وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [59/23].

وقال في وصف الحادث بهما: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [40/35]، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [39/60]، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [26/130] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في وصف نفسه بالقوة: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [51/58]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [22/40].

وقال في وصف الحادث بها: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الآية [41/15]، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية[11/52]، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [28/26]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ

جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} الآية [30/54]، إلى غير ذلك من الآيات.

وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله، وجلاله. وإنما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث، ولا إشكال في شيء من ذلك، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون؛ هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته؛ أنها صفات معان أثبتها الله، جل وعلا، لنفسه، كالرأفة والرحمة.

قال في وصفه جل وعلا بهما: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [16/47]، وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [9/128]، وقال في وصف نفسه بالحلم: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [22/59].

وقال في وصف الحادث به: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [37/101]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [9/114].

وقال في وصف نفسه بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [2/182] و [5/34] و [5/39] و [5/98] و [8/69] و [9/5] و [9/99] و [9/102] و [24/62] و [29/14] و [60/12] و [73/20]. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [49/3]، ونحو ذلك من الآيات.

وقال في وصف الحادث بها: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [42/43]، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} الآية[45/14]، . {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [2/263]، ونحو ذلك من الآيات.

ووصف نفسه جل وعلا بالرضى، ووصف الحادث به أيضاً فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [5/119]، ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة، ووصف الحادث بها، فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [5/54]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية[3/31].

ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الآية[5/60]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية [4/93].

وقال في وصف الحادث بالغضب: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [7/150]، وأمثال هذا كثير جداً.

والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع أوهام المشابهة بين صفاته جل وعلا، وبين صفات خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

فإذا حققت كل ذلك علمت ذلك أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات، فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه، ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال، والجلال؛ القاضية بعظمته وجلاله جل وعلا، وأنه الرب وحده، المستحق لأن يعبد وحده.

الموضع الأول: بحسب ترتيب المصحف الكريم، قوله هنا في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [54].

الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة "يونس": {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [3-4].

الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة "الرعد": {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2، 3، 4].

الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة "طه": {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [2-6].

الموضع الخامس: قوله في سورة "الفرقان" {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [58، 59].

الموضع السادس: قوله تعالى في سورة "السجدة" {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} الآية [4، 5].

الموضع السابع: قوله تعالى في سورة "الحديد" {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [57/4].

وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الآية[43/13]، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الآية[23/28]، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} الآية [11/44]، ونحو ذلك من الآيات.

وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضاً استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق؛ على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، كما تقدم إيضاحه.

وينبغي للناظر في هذه المسألة التأمل في أمور:

الأمر الأول: أن جميع الصفات من باب واحد؛ لأن الموصوف بها واحد، ولا

يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم، فمن أثبت مثلاً أنه: سميع بصير. وسمعه وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات؛ كالاستواء، واليد، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال.

الأمر الثاني: أن الذات والصفات من باب واحد أيضاً، فكما أنه جل وعلا، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق.

الأمر الثالث: في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات؛ كالاستواء واليد مثلاً.

اعلم أولاً: أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا: في الآيات القرآنية، هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً؛ لأن اعتقاد ظاهرة كفر؛ لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.

والنَّبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [16/44]، لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء، على أنه صلى الله عليه وسلم: لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنَّبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!

ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث.

فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى

ـــــــ

1 واحتج أهل التأويل بحديث ابن ماجه الذي أخرجه في مقدمته بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، فقال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل". فهذا يشعر أن التأويل حاجة لا بد منها وإن أتت متأخرة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته، وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.

والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله؛ لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهاً أولا، ومعطلا ثانياً، فارتكب ما لا يليق الله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي، طاهراً من أقذار التشبيه؛ لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فلو قال متنقطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها، قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا، فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو، كما أثنى على نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [20/110]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [112/1-4]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [16/74].

فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد، وأن الحق فيها متركب من أمرين:

الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشهابة الخلق.

والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً، أو نفياً؛ وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، والسلف الصالح رضي الله عنهم، ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم، ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي: "الطويل":

وكيف أخاف الناس والله قابض ... على الناس والسبعين في راحة اليد

ـــــــ

1 أي التي تشعر بالجسمية.

ومراده بالسبعين: سبع سماوات، وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة.

ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، ذكر في هذه الآية الكريمة: أن رحمته جل وعلا قريب من عباده المحسنين، وأوضح في موضع آخر صفات عبيده الذين سيكتبها لهم في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآية[7/156].

ووجه تذكير وصف الرحمة مع أنها مؤنثة في قوله: {قَرِيبٌ} [7/56]، ولم يقل قريبة، فيه للعلماء أقوال تزيد على العشرة، نذكر منها إن شاء الله بعضاً، ونترك ما يظهر لنا ضعفه أو بعده عن الظاهر.

منها: أن الرحمة مصدر بمعنى الرحم، فالتذكير باعتبار المعنى.

ومنها: أن من أساليب اللغة العربية أن القرابة إذا كانت قرابة نسب تعين التأنيث فيها في الأنثى فتقول: هذا المرأة قريبتي أي في النسب، ولا تقول: قريب مني؛ وإن كانت قرابة مسافة جاز التذكير والتأنيث، فتقول: داره قريب وقريبة مني، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [42/17]، وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [33/63]، وقول امرىء القيس: "الطويل"

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

ومنها: أن وجه ذلك إضافة الرحمة إلى الله جل وعلا.

ومنها: أن قوله {قَرِيبٌ}، صفة موصوف محذوف، أي: شيء قريب من المحسنين.

ومنها: أنها شبهت بفعيل بمعنى مفعول الذي يستوي فيه الذكر والأنثى.

ومنها: أن الأسماء التي على فعيل ربما شبهت بالمصدر الآتي على فعيل، فأفردت لذلك؛ قال بعضهم: ولذلك أفرد الصديق في قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [24/61]، وقول الشاعر: "المتقارب"

وهن صديق لمن لم يشب اهـ

والظهير في قوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [66/4]، إلى غير ذلك من الأوجه.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، على قراءة عاصم {بَشَرًا} بضم الباء الموحدة، وإسكان الشين: جمع بشير؛ لأنها تنتشر أمام المطر مبشرة به، وهذا المعنى يوضحه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} الآية [30/46]، وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [7/57]، يعني برحمته المطر كما جاء مبيناً في غير هذا الموضع، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} الآية [42/28]، وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [30/50].

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية، بين في هذه الآية الكريمة أنه يحمل السحاب على الريح، ثم يسوقه إلى حيث يشاء من بقاع الأرض، وأوضح هذا المعنى آيات كثيرة كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية[35/9]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [32/27]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} الآية، أنكر تعالى في هذه السورة الكريمة على قوم نوح، وقوم هود عجبهم من إرسال رجل؛ وبين في مواضع أخر أن جميع الأمم عجبوا من ذلك. قال في عجب قوم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [10/2]، وقال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} الآية[50/2]، وقال عن الأمم السابقة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ

رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [64/6]، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} الآية [54/23، 24]، وقال: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [23/34]، وصرح بأن هذا العجب من إرسال بشر مانع للناس من الإيمان بقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [17/94].

ورد الله عليهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} الآية[21/7]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [25/20]، وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} الآية[6/9]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا}، لم يبين هنا كيفية إغراقهم، ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} الآية [54/11]، وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [29/14].

قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الآية، لم يبين هنا شيئاً من هذا الجدال الواقع بين هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين عاد. ولكنه أشار إليه في مواضع أخر كقوله: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [11/53-56].

قوله تعالى: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} الآية،لم يبين هنا كيفية قطعه دابر عاد، ولكنه بينه في مواضع أُخر كقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} الآية [69/6]، وقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} الآية [51/41]، ونحو ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} الآية، ظاهر هذه الآية الكريمة أن عقرها باشرته جماعة، ولكنه تعالى بين في سورة القمر: أن المراد أنهم نادوا واحداً منهم، فباشر

عقرها، وذلك في قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [29].

قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية،لم يبين هنا هذا الذي يعدهم به، ولكنه بين في مواضع أخر أنه العذاب كقوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [11/64]، وقوله هنا {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ} [7/73]، وقوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [11/65]، ونحو ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، لم يبين هنا سبب رجفة الأرض بهم، ولكنه بين في موضع آخر أن سبب ذلك صيحة الملك بهم، وهو قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} الآية [11/67]، والظاهر أن الملك لما صاح بهم رجفت بهم الأرض من شدة الصيحة، وفارقت أرواحهم أبدانهم، والله جل وعلا أعلم.

قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} الآية، وبين تعالى هذه الرسالة التي أبلغها نبيه صالح إلى قومه في آيات كثيرة كقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، بين تعالى أن المراد بهذه الفاحشة اللواط بقوله بعده: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} الآية[7/81]، وبين ذلك أيضاً بقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [26/165]، وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [29/29].

قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لم ينج مع لوط إلا خصوص أهله، وقد بيَّن تعالى ذلك في "الذاريات" بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [51/35، 36]، وقوله هنا: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [7/83]، أوضحه في مواضع أخر: فبين أنها خائنة، وأنها من أهل النار، وأنها واقعة فيما أصاب قومها من الهلاك، قال فيها: هي وامرأة نوح: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [66/10، وقال فيها وحدها، أعني امرأة لوط {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [11/81]،

وقوله هنا في قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [7/84].

لم يبين هنا هذا المطر ما هو، ولكنه بين في مواضع أخر أنه مطر حجارة أهلكهم الله بها كقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [15/74]، وأشار إلى أن السجيل الطين بقوله في "الذاريات": {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [51/33]، وبين أن هذا المطر مطر سوء لا رحمة بقوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [25/40]، وقوله تعالى في "الشعراء": {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [173].

قوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} ، الضمير في قوله: {وَتَبْغُونَهَا}، راجع إلى السبيل وهو نص قرآني على أن السبيل مؤنثة، ولكنه جاء في موضع آخر ما يدل على تذكير السبيل أيضاً، وهو قوله تعالى: في هذه السورة الكريمة: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [7/146].

قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، بين تعالى حكمه الذي حكم به بينهم بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [11/94]، وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [7/78]، وقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}، وقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [26/189]، فإن قيل: الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر تعالى في الأعراف أنه رجفة، وذكر في هود أنه صيحة، وذكر في الشعراء أنه عذاب يوم الظلة.

فالجواب: ما قاله ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"، قال: وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابه عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام اهـ. منه.

قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، بين جل وعلا الرسالات التي أبلغها رسوله شعيب إلى قومه

في آيات كثيرة كقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} الآية [11/84]، ونحوها من الآيات. وبين نصحه لهم في آيات كثيرة، كقوله: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} الآية [11/89]، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [7/93]، أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى، أي: الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجاً وعناداً، وإنكاره لذلك يدل على أنه لا ينبغي، وقد صرح تعالى بذلك فنهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه في قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [5/68]، ومعنى {لا تَأْسَ}: لا تحزن،

وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} الآية [16/127].

قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} الآية، ذكر أنباءهم مفصلة في مواضع كثيرة، كالآيات التي ذكر فيها خبر نوح وهود، وصالح ولوط، وشعيب وغيرهم، مع أممهم صلوات الله وسلامه عليهم.

قوله تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} الآية، في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه من التفسير: بعضها يشهد له القرآن.

منها: أن المعنى فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به، ولم يؤمنوا به، لاستحالة التغير فيما سبق به العلم الأزلي. ويروى هذا عن أبي بن كعب وأنس، واختاره ابن جرير، ويدل لهذا الوجه لآيات كثيرة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية[10/96]، وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [10/101]، ونحو ذلك من الآيات.

ومنها: أن معنى الآية أنهم أخذ عليهم الميثاق، فآمنوا كرهاً، فما كانوا ليؤمنوا بعد ذلك طوعاً. ويروى هذا عن السدي وهو راجع في المعنى إلى الأول.

ومنها: أن معنى الآية أنهم لو ردوا إلى الدنيا مرة لكفروا أيضاً، فما كان ليؤمنوا في الرد إلى الدنيا بما كذبوا به من قبل، أي: في المرة الأولى، ويروى هذا عن مجاهد. ويدل لمعنى هذا القول قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [6/28]، لكنه بعيد من ظاهر الآية.

ومنها: أن معنى الآية: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، وهذا القول حكاه ابن عطية، واستحسنه ابن كثير، وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية الكريمة. ووجهه ظاهر؛ لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [4/155]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [61/5]، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [2/10]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [63/3]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها أوجه من التفسير كلها يشهد له قرآن، وكلها حق. فنذكر جميعها والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} الآية، بين تعالى هنا أن فرعون وملأه ظلموا بالآيات التي جاءهم بها موسى، وصرح في النمل بأنهم فعلوا ذلك جاحدين لها، مع أنهم مستيقنون أنها حق لأجل ظلمهم وعلوهم؛ وذلك في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [13، 14].

وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ، ذكر تعالى هنا أن موسى نزع يده فإذا هي بيضاء، ولم يبين أن ذلك البياض خال من البرص، ولكنه بين ذلك في سورة "النمل" و "القصص" في قوله فيهما: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [12؛/32]، أي من غير برص.

قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ، بين هنا أن موسى لما جاء بآية العصا واليد، قال الملأ من قوم فرعون إنه ساحر، ولم يبين ماذا قال فرعون: ولكنه بين في "الشعراء" أن فرعون قال مثل ما قال الملأ من قومه، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [26/34].

قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} ، لم يبين هنا هذا السحر العظيم ما هو؟ ولم يبين هل أوجس موسى في نفسه الخوف منه؟ ولكنه بين كل ذلك في "طه" بقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي

يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [66-69]، ولم يبين هنا أنهم تواعدوا مع موسى موعداً لوقت مغالبته مع السحرة، وأوضح ذلك في سورة "طه" في قوله عنهم: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} الآية[58-59].

قوله تعالى: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، لم يبين هنا الشيء الذي توعدهم بأنهم يصلبهم فيه، ولكنه بينه في موضع آخر، كقوله في "طه" {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} الآية[71].

قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي قحط وجدب ونحو ذلك، تطيروا بموسى وقومه فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} الآية [4/78]، وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية [27/47]، وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية[36/18]، وبين تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم ومعاصيهم، لا من قبل الرسل، قال في "الأعراف": {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [131]، وقال في سورة "النمل" في قوم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [27/47]، وقال في "يس": {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية[19].

قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية، لم يبين هنا من هؤلاء القوم، ولكنه صرح في سورة "الشعراء": بأن المراد بهم بنو إسرائيل لقوله في القصة بعينها: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} الآية[59]، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية[7/137].

قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية،لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم، ولكنه بينها في "القصص" بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [28/5، 6].

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تراني} الآية، استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكور، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم، كما صرح به تعالى في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [75/22]، وقوله في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [83/15]، فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.

وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [10/26]، {الْحُسْنَى}: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [50/35]، وقد تواترت الأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار: جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا، قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [7/143]؛ لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى، وأما شرعاً فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح، وأما في الدنيا فممنوعة شرعاً كما تدل عليه آية "الأعراف" هذه، وحديث: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا"، كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب".

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}، بين في هذه الآية الكريمة سخافة عقول عبدة العجل، ووبخهم على أنهم يعبدون ما لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً، وأوضح هذا في "طه"، بقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} الآية[89]، وقد قدمنا في سورة "البقرة"، أن جميع آيات اتخاذهم العجل إلاهاً حذف فيها المفعول الثاني في جميع القرآن، كما في قوله هنا: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} الآية" 7/148]، أي اتخذوه إلاها، وقد قدمنا أن النكتة في حذفه دائماً التنبيه: على أنه لا ينبغي التلفظ بأن عجلاً مصطنعاً من جماد إله، وقد أشار تعالى إلى هذا المفعول المحذوف دائماً في "طه" بقوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [20/88].

قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ

لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن عبدة العجل اعترفوا بذنبهم، وندموا على ما فعلوا، وصرح في سورة "البقرة" بتوبتهم ورضاهم بالقتل وتوبة الله جل وعلا عليهم بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [54].

قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} الآية، أوضح الله ما ذكره هنا بقوله في "طه" {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} .الآية [86، 87].

قوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} الآية، أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ما اعتذر به نبي الله هارون لأخيه موسى عما وجهه إليه من اللوم، وأوضحه في "طه"، بقوله: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [94]، وصرح الله تعالى ببراءته بقوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [20/90، 91].

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/28]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1]، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [11/17]، وقيد في موضع آخر: عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [6/19]، وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [3/20]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} الآية، لم يبين هنا كثرة كلماته، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً

لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [18/109]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [31/27].

قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} الآية، هذا الميثاق المذكور يبينه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [3/187].

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}.

في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء:

أحدهما: أن معنى أخذه ذرية بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين كما قال تعالى: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [6/133]، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} [35/39]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} [27/62]، ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [7/172]، أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه فمعنى: {قَالُواْ بَلَى}، أي: قالوا ذلك: بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [9/17]، أي: بلسان حالهم على القول بذلك، وقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [100/6، 7]، أي: بلسان حاله أيضاً على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضاً.

واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن الله جل وعلا جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك به جل وعلا، في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [7/172، 173]، قالوا: فلو كان الإشهاد المذكور الإشهاد عليهم يوم الميثاق، وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم؛

لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسل بالميثاق المذكور كاف في ثبوته، قلنا: قال ابن كثير في "تفسيره" : "الجواب عن ذلك أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا} الآية. اهـ منه بلفظه.

فإذا علمت هذا الوجه الذي ذكرنا في تفسير الآية، وما استدل عليه قائله به من القرآن، فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة.

أما وجه دلالة القرآن عليه، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من غرائب صنع الله؛ الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]، فإنه قال فيها: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.

ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية[4/165]، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم: هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.

وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في "طه" بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [134]، وأشار لها في "القصص" بقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [47]، ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك

بنصب الأدلة كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [67/8،9]، وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]، ومعلوم أن لفظة {كُلَّمَا} في قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ}، صيغة عموم، وأن لفظة {الَّذِينَ} في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، صيغة عموم أيضاً؛ لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته.

وأما السنة: فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال أبو عمر، يعني ابن عبد البر، لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. اهـ. محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة، هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في "شرح مسلم"، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في "مراقي السعود"، بقوله:

ذو فترة بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع

وقد حققنا هذه المسألة مع مناقشة أدلة الفريقين في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولذلك اختصرناها هنا.

قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} الآية، ضرب الله تعالى المثل لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب، ولم تكن حقارة الكلب مانعة من ضربه تعالى المثل به، وكذلك ضرب المثل بالذباب في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [22/73]، وكذلك ضرب المثل ببيت

العنكبوت في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [29/41]، وكذلك ضرب المثل بالحمار في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [62/5]، وهذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يستحيي من بيان العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة، وقد صرح بهذا المدلول في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [2/26] .

قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، هدّد تعالى في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين:

الأول: صيغة الأمر في قوله: {وَذَرُوا} فإنها للتهديد.

والثاني: في قوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وهدد الذين يلحدون في آياته في سورة حم "السجدة" بأنهم لا يخفون عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [41/40]، ثم أتبع ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} الآية، وأصل الإلحاد في اللغة: الميل، ومنه اللحد في القبر، ومعنى إلحادهم في أسمائه هو ما كاشتقاقهم اسم اللات من اسم الله، واسم العزى من اسم العزيز، واسم مناة من المنان، ونحو ذلك. والعرب تقول لحد وألحد بمعنى واحد، وعليهما القراءتان يلحدون بفتح الياء والحاء من الأول، وبضمها وكسر الحاء من الثاني.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدل على ذلك أيضاً كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [79/42، 43، 44]، وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [6/59]، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [31/34].

قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} الآية، وهذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وقد أمره تعالى أن يقول إنه لا يعلم الغيب في قوله في "الأنعام": {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}

[50] وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [72/26، 27]، وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية [27/65]، إلى غير ذلك من الآيات.

والمراد بالخير في هذه الآية الكريمة قيل: المال، ويدل على ذلك كثرة ورود الخير بمعنى المال في القرآن، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [100/8]، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [2/180]، وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} الآية [2/215]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقيل: المراد بالخير فيها العمل الصالح كما قاله مجاهد وغيره، والصحيح الأول لأنه صلى الله عليه وسلم مستكثر جداً من الخير الذي هو العمل الصالح؛ لأن عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملاً أثبته.

قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الآية، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي: ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [30/21].

قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، والقرآن يشهد لأحدهما:

الأول: أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت، فجاءها الشيطان، فقال لها سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث فقال تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} [7/190]، أي: ولداً إنساناً ذكراً جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث، وقد جاء بنحو هذا حديث مرفوع وهو معلول كما أوضحه ابن كثير في "تفسيره".

الوجه الثاني: أن معنى الآية أنه لما آتى آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء؛ لأنهما أصل لذريتهما كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [7/11]، أي بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم بدليل قوله بعده: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده: {فَتَعَالَى اللَّهُ

عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [7/190، 191]، وهذا نص قرآني صريح في أن المراد المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن البصري، واختاره ابن كثير ، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، بين في هذه الآية الكريمة ما بنبغى أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن، فبين أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته، وأن شيطان الجن لا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه، قال في الأول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [7/199]، وقال في الثاني: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [7/200]، وبين هذا الذي ذكرنا في موضعين آخرين.

أحدهما: في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [23/1]، قال فيه في شيطان الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [96]، وقال في الآخر: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [97، 98].

والثاني: في حم "السجدة"، قال فيه في شيطان الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [41/34]، وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلا لذي الحظ الكبير والبخت العظيم عنده، فقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [41/35]، ثم قال في شيطان الجن: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [41/36].

قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}، ذكر في هذه الآية الكريمة أن إخوان الإنس من الشياطين يمدون الإنس في الغي، ثم لا يقصرون، وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [19/83]، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} [6/128]، وبين في موضع آخر أن بعض الإنس إخوان للشياطين، وهو قوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [17/27] .

تم بحمد الله تفسير سورة الأعراف

الأعراف - تفسير فتح القدير    .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

عَنْهُ قَالَ: سُوءَ الْعَذابِ الْخَرَاجُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَقَطَّعْناهُمُ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ بَسَطَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ مِنْهَا بُقْعَةٌ إِلَّا وَفِيهَا عِصَابَةٌ مِنْهُمْ وَطَائِفَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ قَالَ: عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً قَالَ: يَهُودُ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَهُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ قَالَ: الْيَهُودُ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ قَالَ: الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ وَالسَّيِّئاتِ قَالَ: الْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بِالْخِصْبِ وَالْجَدْبِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى قَالَ:

أَقْوَامٌ يُقْبِلُونَ عَلَى الدُّنْيَا فَيَأْكُلُونَهَا وَيَتَّبِعُونَ رُخَصَ الْقُرْآنِ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَالَ: النَّصَارَى يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى قَالَ: مَا أَشْرَفَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا حَلَالًا أَوْ حَرَامًا يَشْتَهُونَهُ أَخَذُوهُ ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا آخر مِثْلَهُ يَأْخُذُوهُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْآيَةَ، يَقُولُ: يَأْخُذُونَ مَا أَصَابُوا وَيَتْرُكُونَ مَا شَاؤُوا مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فِيمَا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ إِلَيْهَا وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ قَالَ: عَلِمُوا مَا فِي الْكِتَابِ، لَمْ يَأْتُوهُ بِجَهَالَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قَالَ: هِيَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قَالَ: من اليهود والنصارى.

 

[سورة الأعراف (7) : آية 171]

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

قَوْلُهُ: وَإِذْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَاسْأَلْهُمْ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ أَيْ: رَفَعْنَا الجبل فَوْقَهُمْ وكَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أَيْ: كَأَنَّهُ لِارْتِفَاعِهِ سَحَابَةٌ تُظِلُّهُمْ، وَالظُّلَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا أَظَلَّ، وَقُرِئَ «طُلَّةٌ» بِالطَّاءِ، مِنْ أَطَلَّ عَلَيْهِ إِذَا أَشْرَفَ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أَيْ: سَاقِطٌ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ خُذُوا، وَالْقُوَّةُ: الْجِدُّ وَالْعَزِيمَةُ، أَيْ: أَخْذًا كَائِنًا بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُنْسُوهُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رَجَاءَ أَنْ تَتَّقُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَتَعْمَلُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا هُنَا فِي الْبَقَرَةِ مستوفى فلا نعيده.

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ يَقُولُ:

رَفَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ «1» فَقَالَ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَإِلَّا أَرْسَلْتُهُ عَلَيْكُمْ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ فَكَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ لِمَ تَسْجُدُ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ اللَّهُ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ قَالَ: لَتَأْخُذُنَّ أَمْرِي أَوْ لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهِ، فَسَجَدُوا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ سَجْدَةً رَضِيَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ قَالَ: انْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَصْلِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: لَتَأْخُذُنَّ أمري أو لأرمينكم به.

 

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

قَوْلُهُ: وَإِذْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي آدَمَ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِينَ هُنَا: هُمْ ذُرِّيَّةُ بَنِي آدَمَ، أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: وَمَعْنَى أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ دَلَّهُمْ بِخَلْقِهِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، فَقَامَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَقَامَ الْإِشْهَادِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مِنَ المعرفة ما فهمت به خِطَابِهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِبَنِي آدَمَ هُنَا: آدَمُ نَفْسُهُ كَمَا وَقَعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عَالَمُ الذَّرِّ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ وَلَا الْمَصِيرُ إِلَى غَيْرِهِ لِثُبُوتِهِ مَرْفُوعًا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مُلْجِئَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وَسَنَذْكُرُ آخِرَ هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: مِنْ ظُهُورِهِمْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقِيلَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ قَوْلُهُ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ كَثِيرٍ ذُرِّيَّتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَهِيَ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «ذُرِّيَّاتِهِمْ» بِالْجَمْعِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أَيْ: قَائِلًا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، فَهُوَ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ: قالُوا بَلى شَهِدْنا أَيْ: عَلَى أَنْفُسِنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا. قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي هَذَا وفي قوله: أَوْ تَقُولُوا عَلَى الْغَيْبَةِ، كَمَا كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى:

__________

(1) . النساء: 154.

(2) . فصلت: 11.

كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا أَوْ لِئَلَّا يَقُولُوا، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ الْأَخْذَ وَالْإِشْهَادَ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَيْ: عَنْ كَوْنِ اللَّهِ رَبَّنَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ مَعْطُوفٌ عَلَى تَقُولُوا الْأَوَّلِ، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْتَذِرُوا بِالْغَفْلَةِ، أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، وأَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ، فَقَدْ يَعْتَذِرُونَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ زَمَانِنَا وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لَا نَهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ وَلَا نَعْرِفُ الصَّوَابَ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ مِنْ آبَائِنَا وَلَا ذَنْبَ لَنَا لِجَهْلِنَا وَعَجْزِنَا عَنِ النَّظَرِ وَاقْتِفَائِنَا آثَارَ سَلَفِنَا، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَعْتَلُّوا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْبَاطِلَةِ وَيَعْتَذِرُوا بِهَذِهِ الْمَعْذِرَةِ السَّاقِطَةِ وَكَذلِكَ أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَيَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الْآيَةَ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَفِيمَ الْعَمَلُ؟

فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدُ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النَّارَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمَانَ «1» يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَشَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ» . وَإِسْنَادُهُ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ:

«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، قَالَ: أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُشْطُ مِنَ الرَّأْسِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» وَفِي إِسْنَادِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي ظبية أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ قَاضِي قَوْمَسَ كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ، وَأَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ غَرَائِبَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عبد الله بن عمر،

__________

(1) . واد إلى جنب عرفة.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ وَقَضَى الْقَضِيَّةَ وَأَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فَأَخَذَ أَهْلَ الْيَمِينِ بِيَمِينِهِ وَأَخَذَ أَهْلَ الشَّمَالِ بِيَدِهِ الْأُخْرَى وَكِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَمِينٌ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟

قَالُوا: بَلَى» الْحَدِيثَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَعْضُهَا مُطْلَقٌ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ إِخْرَاجِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِخْرَاجِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ فِي عَالَمِ الذَّرِّ وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْآيَةَ قَالَ: [خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَأَخَذَ مِيثَاقَهُ أَنَّهُ رَبُّهُ وَكَتَبَ أجله ورزقه ومصيبته] «1» ، ثُمَّ أَخْرَجَ وَلَدَهُ مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَكَتَبَ آجَالَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ ومصائبهم «2» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ هَذِهِ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْآيَةَ قَالَ: أَخَذَهُمْ كَمَا يَأْخُذُ الْمُشْطَ مِنَ الرَّأْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ الْمُسْنَدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْآيَةَ قَالَ: جَمَعَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا فِي صُوَرِهِمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِخْرَاجِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَفِيمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مَا يغني عن التطويل.

 

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 178]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)

قَوْلُهُ وَاتْلُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْقِصَصِ السَّابِقَةِ، وَإِيرَادُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَذْكِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مَذْكُورَةً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الَّذِي أوتي الآيات فَانْسَلَخَ مِنْها

__________

(1) . ما بين حاصرتين من الدر المنثور.

(2) . في الأصل: «مصيباتهم» والتصحيح من الدر المنثور.

فَقِيلَ: هُوَ بَلْعَمُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَكَانَ قَدْ حَفِظَ بَعْضَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَقِيلَ: كَانَ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى مَدْيَنَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَأَعْطَوْهُ الْأُعْطِيَّةَ الْوَاسِعَةَ فَاتَّبَعَ دِينَهُمْ وَتَرَكَ مَا بُعِثَ بِهِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، سَأَلَ الْجَبَّارُونَ بَلْعَمَ بْنَ بَاعُورَاءَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى، فَقَامَ لِيَدْعُوَ عَلَيْهِ فَتَحَوَّلَ لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَسْمَعُونَ، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، وَسَأَمْكُرُ لَكُمْ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُخْرِجُوا إِلَيْهِمْ فَتَيَاتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الزِّنَا، فَإِنْ وَقَعُوا فِيهِ هَلَكُوا، فَوَقَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الزِّنَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ ألْفًا وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ اسْمُهُ بَاعِمْ وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ فَلَمَّا أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ وَقِيلَ هُوَ أَبُو عَامِرِ بْنُ صَيْفِيِّ وَكَانَ يَلْبَسُ الْمُسُوحَ فِي الجاهلية، فكفر بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى انْتَظَرُوا خُرُوجَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ. قَوْلُهُ فَانْسَلَخَ مِنْها أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الشَّاةُ عَنْ جِلْدِهَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُ بِهَا اتِّصَالٌ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ عِنْدَ انْسِلَاخِهِ عَنِ الْآيَاتِ، أَيْ: لَحِقَهُ فَأَدْرَكَهُ وَصَارَ قَرِينًا لَهُ، أَوْ فَأَتْبَعَهُ خُطُوَاتِهِ، وَقُرِئَ فَأَتْبَعَهُ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى تَبِعَهُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ الْمُتَمَكِّنِينَ فِي الْغِوَايَةِ وَهُمُ الْكُفَّارُ. قَوْلُهُ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا رَفْعَهُ بِمَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَلَكِنْ لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ لِانْسِلَاخِهِ عَنْهَا وَتَرْكِهِ لِلْعَمَلِ بِهَا وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَوْ شِئْنَا لَأَمَتْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْصِيَ فَرَفَعْنَاهُ إِلَى الْجَنَّةِ بِهَا، أَيْ: بِالْعَمَلِ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أَصْلُ الْإِخْلَادِ: اللُّزُومُ، يُقَالُ أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُ مَالَ إِلَى الدُّنْيَا وَرَغِبَ فِيهَا وَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ هَواهُ أَيِ: اتَّبَعَ مَا يَهْوَاهُ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ حُطَامُ الدُّنْيَا وَقِيلَ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: اتَّبَعَ رِضَا زَوْجَتِهِ، وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. قَوْلُهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَيْ:

فَصَارَ لَمَّا انْسَلَخَ عَنِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا مُنْحَطًّا إِلَى أَسْفَلِ رُتْبَةٍ مُشَابِهًا لِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ فِي الدَّنَاءَةِ، مُمَاثِلًا لَهُ فِي أَقْبَحِ أَوْصَافِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَلْهَثُ فِي كِلَا حَالَتَيْ قَصْدِ الْإِنْسَانِ لَهُ وَتَرْكِهِ، فَهُوَ لَاهِثٌ سَوَاءً زُجِرَ أَوْ تُرِكَ، طُرِدَ أَوْ لَمْ يُطْرَدْ، شُدَّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشَدَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا فِي الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ شَيْءٌ، وَجُمْلَةُ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ حَالَ كَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْمُنْسَلِخَ عَنِ الْآيَاتِ لَا يَرْعَوِي عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي جَمِيعِ أحواله سواء وعظه وَذَكَّرَهُ الْمُذَكِّرُ، وَزَجَرَهُ الزَّاجِرُ أَوْ لَمْ يَقَعْ شيء من ذلك. قال القتبي: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ، إِلَّا الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الكَلَالِ، وَحَالِ الرَّاحَةِ، وَحَالِ الْمَرَضِ، وَحَالِ الصِّحَّةِ، وَحَالِ الرِّيِّ، وَحَالِ الْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ ضَلَّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ ضَلَّ، فَهُوَ كَالْكَلْبِ إِنْ تَرَكْتَهُ لَهَثَ وَإِنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ

صامِتُونَ

«1» وَاللَّهْثُ: إِخْرَاجُ اللِّسَانِ لِتَعَبٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَهَثَ الْكَلْبُ بِالْفَتْحِ يَلْهَثُ لَهْثًا وَلُهَاثًا بِالضَّمِّ إِذَا أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ التَّعَبِ أَوِ الْعَطَشِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إِذَا أَعْيَا. قِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّكَ إِذَا حَمَلْتَ عَلَى الْكَلْبِ نَبَحَ وَوَلَّى هَارِبًا، وَإِنْ تَرَكْتَهُ شَدَّ عَلَيْكَ وَنَبَحَ، فَيُتْعِبُ نَفْسَهُ مُقْبِلًا عَلَيْكَ وَمُدْبِرًا عَنْكَ، فَيَعْتَرِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِيهِ عِنْدَ الْعَطَشِ مِنْ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّمْثِيلِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ ذَلِكَ الْمَثَلُ الْخَسِيسُ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بِهَا وَعَرَفُوهَا، فَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَتَمُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبُوا بِهَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أَيْ: فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَصَصَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ الْمُنْسَلِخِ عَنِ الْآيَاتِ فَإِنَّ مَثَلَهُ الْمَذْكُورَ كَمَثَلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقُصُّ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ وَيُعْمِلُونَ فِيهِ أَفْهَامَهُمْ، فَيَنْزَجِرُونَ عَنِ الضَّلَالِ، وَيُقْبِلُونَ عَلَى الصَّوَابِ. قَوْلُهُ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْبَالِغَةِ فِي الْقُبْحِ إِلَى الْغَايَةِ، يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ: قَبُحَ، فَهُوَ لَازِمٌ، وَسَاءَهُ يَسُوؤُهُ مَسَاءَةً: فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ: كَبِئْسَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ، وَمَثَلًا تَمْيِيزٌ مُفَسِّرٌ لَهُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ لِأَجْلِ الْمُطَابَقَةِ أَيْ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جُعِلَ الْمَثَلُ الْقَوْمَ مَجَازًا، وَالْقَوْمُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، التَّقْدِيرُ: سَاءَ الْمَثَلُ مَثَلًا هُوَ مَثَلُ الْقَوْمِ، كَذَا قَالَ. وَقَدَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ والأعمش ساء مثل الْقَوْمُ. قَوْلُهُ وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أَيْ: مَا ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، لَا يَتَعَدَّاهَا ظُلْمُهُمْ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُهَا، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَمَّا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ، مَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَمُ بْنَ آبَزَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بَلْعَمُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَفِي لَفْظٍ: بَلْعَامُ بْنُ بَاعَرَ الَّذِي أُوتِيَ الِاسْمَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَمُ، تَعَلَّمَ اسْمَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ مُوسَى أَتَاهُ بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَنَّا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: إِنِّي إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَضَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا اللَّهَ فَسَلَخَ مَا كَانَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قَالَ: إِنْ حُمِّلَ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنْ تُرِكَ لَمْ يَهْتَدِ لِخَيْرٍ كَالْكَلْبِ إِنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ يُطْرَدْ لَهَثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حاتم

__________

(1) . الأعراف: 193

تعقيب المدون:

 

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)  الاعراف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج33. كتاب مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

  ج33. كتاب   مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إ...