القران كاملا مشاري

حمل المصحف بكل صيغه

 حمل المصحف

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 يناير 2023

تفسير سورة الشعراء{من20 الي39.}

 

  

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

الشعراء - تفسير ابن كثير

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) }

يقول تعالى مخبرًا عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران، صلوات الله وسلامه عليه، حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال: { أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه، كما قال في سورة طه: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:25-36]

وقوله: { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } أي: بسبب ما كان [من] (1) قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر.

{ قَالَ كَلا } أي: قال الله له: لا تخف من شيء من ذلك كما قال: { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } أي: برهانا { فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } [القصص:35] .

{ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } كما قال تعالى: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] أي: إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي.

{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وقال في الآية الأخرى: { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [طه:47] أي: كل منا رسول الله إليك، { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون، وهم معك في العذاب المهين. فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية، ونظر بعين الازدراء والغمص فقال: { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ .[ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ] } (2) [ أي: أما أنت الذي ربيناه فينا (3) ]، وفي بيتنا وعلى فراشنا [وغذيناه (4) ] ، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك؛ ولهذا قال: { وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي: الجاحدين. قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.

{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا } أي: في تلك الحال، { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أي: قبل أن يوحى إليّ وينعم الله عليَّ بالرسالة والنبوة (5) .

قال ابن عباس، رضي الله عنهما، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغيرهم: { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أي: الجاهلين.

قال ابن جُرَيْج: وهي كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي: الحال الأول انفصل

(1) زيادة من ف، أ.

(2) زيادة من ف، أ.

(3) زيادة من ف، أ.

(4) زيادة من ف، أ.

(5) في ف: "بالنبوة والرسالة".

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك، فإن أطعته سَلمت، وإن خالفته عَطبت.

ثم قال موسى: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: وما أحسنت إلي وربَّيْتني مقابل ما أسأتَ إلى (1) بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفَيَفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأتَ إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرتَه شيئا بالنسبة إلى ما فعلتَ بهم.

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) }

يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون، وتمرده وطغيانه وجحوده، في قوله: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؟ وذلك أنه كان يقول لقومه: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص:38]، { فَاسْتَخَفَّ (2) قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف:54] ، وكانوا يجحدون الصانع -تعالى -ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى: { إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزخرف:46] ، قال له: ومَنْ هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي: هذه الآية كقوله تعالى: { قَالَ فَمَنْ (3) رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه:49 ، 50] .

ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم؛ أن هذا سؤال عن الماهية، فقد غلط؛ فإنه لم يكن مقرًا بالصانع حتى يسأل عن الماهية (4) ، بل كان جاحدًا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين: { قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي: خالق جميع ذلك ومالكه، والمتصرف فيه وإلهه، لا شريك له، هو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطيور، وما يحتوي عليه الجو، الجميع (5) عبيد له خاضعون ذليلون.

{ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } أي: إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة. فعند ذلك التفت فرعون إلى مَنْ حوله من مَلَئه ورؤساء دولته قائلا لهم، على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله: { أَلا تَسْتَمِعُونَ } أي: ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه: أن لكم إلها غيري؟ فقال لهم موسى: { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } أي: خالقكم وخالق آبائكم الأولين (6) ، الذي كانوا قبل فرعون وزمانه.

{ قال } أي: فرعون لقومه: { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } أي: ليس

(1) في ف، أ: "على".

(2) في أ: "واستخف".

(3) في ف، أ: "ومن" وهو خطأ.

(4) في أ: "ماهيته".

(5) في ف: "والجميع".

(6) في أ: "الأوائل".

قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

له عقل في دعواه أن ثمّ ربا غيري .

{ قال } أي: موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة، فأجاب موسى بقوله: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } أي: هو الذي جعل المشرق مشرقًا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربًا تغرب فيه (1) الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سَخّرها فيه وقدّرها، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربًا، والمغرب مشرقًا، كما أخبر تعالى عن { الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [البقرة:258] ؛ ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته، عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى، عليه السلام، فقال ما أخبر الله تعالى عنه:

{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) }

لما قامت على فرعون الحجة بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال (2) فقال: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } . فعند ذلك قال موسى: { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ } ؟ أي: ببرهان قاطع واضح.

{ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } أي: ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة، ذات قوائم وفم كبير، وشكل هائل مزعج.

{ وَنزعَ يَدَهُ } أي: من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي: تتلألأ كقطعة من القمر. فبادر فرعون -بشقائه -إلى التكذيب والعناد، فقال للملأ حوله: { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي: فاضل بارع في السحر. فَرَوَّج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته، والكفر به. فقال { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } ؟ أي: أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم، فأشيروا عليَّ فيه ماذا أصنع به؟

{ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } (3) [أي: أخِّره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحَّار عليم] (4) يقابلونه، ويأتون بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد. فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى

(1) في ف، أ: "منه".

(2) في هـ: "مقام" والمثبت من ف، أ.

(3) في أ: "ساحر".

(4) زيادة من ف، أ.

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

لهم في ذلك؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد، ولتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.

{ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) }

الشعراء - تفسير القرطبي

الآية: [20] {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}

الآية: [21] {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}

الآية: [22 ]{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ}

قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا؛ إنا ذوو رسالة رب العالمين. قال الهذلي:

ألكني إليها وخير الرسول ... أعلمهم بنواحي الخبر

ألكني إليها معناه أرسلني. وقال آخر:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول

آخر:/ألا أبلغ بني عمرو رسولا ...

بأني عن فتاحتكم غني

وقال العباس بن مرداس:

ألا من مبلغ عنى خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها

يعني رسالة فلذلك أنثها. قال أبو عبيد: ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع؛ فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي. ومنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]. وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين. {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم؛ وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا. فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون فقال: ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال فرعون: ايذن له لعلنا نضحك منه؛ فدخلا عليه وأديا الرسالة. وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فعرف موسى لأنه نشأ في بيته؛ فـ {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} على جهة المن عليه والاحتقار. أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فمتى كان هذا الذي تدعيه. ثم قرره بقتل القبطي بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل. وقرأ الشعبي: "فعلتك" بكسر الفاء والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك. وقال الشاعر:

كأن مشيتها من بيت جارت ..هامر السحابة لا ريث ولا عجل

ويقال: كان ذلك أيام الردة والردة. {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قال الضحاك: أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله. وقيل: أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك؛ قاله ابن زيد. الحسن: {مِنَ الْكَافِرِينَ} في أني إلهك. السدي: {مِنَ الْكَافِرِينَ} بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه. وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر. فـ {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً} أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي {وَأَنَا} إذ ذاك {مِنَ الضَّالِّينَ} أي من الجاهلين؛ فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل. وكذا قال مجاهد؛ {مِنَ الضَّالِّينَ} من الجاهلين. ابن زيد: من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل. وفي مصحف عبدالله "من الجاهلين" ويقال لمن جهل شيئا ضل عنه. وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} من الناسين؛ قاله أبو عبيدة. وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة.

قوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة "القصص": {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] وذلك حين القتل. {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} يعني النبوة؛ عن السدي وغيره. الزجاج: تعليم التوراة التي فيها حكم الله. وقيل: علما وفهما. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.

قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} اختلف الناس في معنى هذا الكلام؛ فقال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة؛ كأنه يقول: نعم؟ وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وقيل: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار؛ أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي ليست بنعمة؟ لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي؛ فكيف تذكر إحسانك إلي على الخصوص؟! قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فيه تقدير استفهام؛ أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره. قال النحاس: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم؛ كما قال الشاعر:

تروح من الحي أم تبتكر

ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء. قال: يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكي ترى زيدا منطلقا؟ بمعنى أترى. وكان علي بن سليمان يقول في هذا: إنما أخذه من ألفاظ العامة. قال الثعلبي: قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة؟ على طريق الاستفهام؛ كقوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. قال الشاعر:

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع .فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم:

لم أنس يوم الرحيل وقفتها ... وجفنها من دموعها شرق

وقولها والركاب واقفة ... تركتني هكذا وتنطلق

قلت: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس. وقال الضحاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام؛ والمعنى: لو. لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك علي! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به. وقيل: معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي؟ ومن أهين قومه ذل. و {أَنْ عَبَّدْتَ} في موضع رفع على البدل من {نِعْمَةَ} ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى: لأن عبدت بني إسرائيل؛ أي اتخذتهم عبيدا. يقال: عبدته وأعبدته بمعنى؛ قال الفراء وأنشد:علام يُعْبِدُني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاؤوا وعِبدان

الآية: [23] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}

الآية: [24] {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}

الآية: [25] {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}

الآية: [26] {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}

الآية: [27] {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}

الآية: [28] {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}

الآية: [29] {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}

الآية: [30] {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}

الآية: [31] {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

الآية: [32] {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}

الآية: [33] {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}

الآية: [34] {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}

الآية: [35] {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}

الآية: [36] {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}

الآية: [37] {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}

الآية: [38] {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}

الآية: [39] {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ

الشعراء - تفسير الطبري

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) }

يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعون: فعلت تلك الفعلة التي فعلت، أي قتلت تلك النفس التي قتلت إذن وأنا من الضالين. يقول: وأنا من الجاهلين قبل أن يأتيني من الله وحي بتحريم قتله عليّ. والعرب تضع من الضلال موضع الجهل، والجهل موضع

الضلال، فتقول: قد جهل فلان الطريق وضل الطريق، بمعنى واحد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) قال: من الجاهلين.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.

قال ابن جُرَيج: وفي قراءة ابن مسعود: "وأنا مِنَ الجَاهِلِينَ".

قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:( وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) قال: من الجاهلين.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) فقال موسى: لم أكفر، ولكن فعلتها وأنا من الضالين. وفي حرف ابن مسعود: "فعلتها إذا وأنا من الجاهلين".

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) قبل أن يأتيني من الله شيء كان قتلي إياه ضلالة خطأ. قال: والضلالة ههنا الخطأ، لم يقل ضلاله فيما بينه وبين الله.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) يقول: وأنا من الجاهلين.

وقوله( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ )... الآية، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى لفرعون:( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ) معشر الملأ من قوم فرعون( لَمَّا خِفْتُكُمْ ) أن تقتلوني بقتلي القتيل منكم.( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا ) يقول: فوهب لي ربي نبوّة وهي الحكم.

كما حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السديّ:( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا ) والحكم: النبوّة.

وقوله:( وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول: وألحقني بعداد من أرسله إلى خلقه، مبلغا عنه رسالته إليهم بإرساله إياي إليك يا فرعون.

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) }

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ) يعني بقوله: وتلك تربية فرعون إياه، يقول: وتربيتك إياي، وتركك استعبادي، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه، وهو: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني، فلم تستعبدني، فترك ذكر"وتركتني"لدلالة قوله( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) عليه، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام، ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة، فيعاقب أحدهما، ويعفو عن الآخر، فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا، وتركني، ثم حذف "وتركني"لدلالة الكلام عليه، ولأن في قوله:( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وجهين: أحدهما النصب، لتعلق "تمنها"بها، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام: وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك بني إسرائيل. والآخر: الرفع على أنها ردّ على النعمة. وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام: وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل. ويعني بقوله:( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) : أن اتخذتهم عبيدا لك. يقال منه: عبدت العبيد وأعبدتهم، قال الشاعر:

عَلامَ يُعْبِدنِي قَومِي وقدْ كَثُرَتْ... فِيها أباعِرُ ما شاءُوا وَعُبْدَانُ (1)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال: قهرتهم واستعملتهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:

__________

(1) البيت من شواهد (اللسان: عبد) قال: تعبد الرجل (وعبده) بتشديد الباء فيهما، وأعبده: صيره كالعبد. قال الشاعر: "ختام يعبدني قومي.." البيت.

تمن علي أن عبَّدت بني إسرائيل، قال: قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل.

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وربيتني قبل وليدا.

وقال آخرون: هذا استفهام كان من موسى لفرعون، كأنه قال: أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ) قال: يقول موسى لفرعون: أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا.

واختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي البصرة: وتلك نعمة تمنها عليّ، فيقال: هذا استفهام كأنه قال: أتمنها علي؟ ثم فسر فقال:( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وجعله بدلا من النعمة. وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول، ويقول: هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى، وهو يطلب، فيكون الاستفهام كالخبر، قال: وقد استقبح ومعه أم، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا:

تَرُوحُ منَ الحَيّ أمْ تَبْتَكرْ... وَماذَا يَضُرُّكَ لَوْ تَنْتظرْ? (1)

قال: وقال بعضهم: هو أتروح من الحيّ، وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم. وقال أكثرهم: بل الأوّل خبر، والثاني استفهام، وكأن "أم"إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف، فأما وليس معه أم، فلم يقله إنسان.

وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا. وقال: معنى الكلام: وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي: أي لنعمة تربيتي لك، فأجابه فقال: نعم هي نعمة عليّ أن عبدت الناس ولم تستعبدني.

وقول( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول: وأيّ شيء ربّ العالمين؟

( قال )

__________

(1) البيت: لامرىء القيس بن حجر الكندي (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 115) تروح: أتروح، وتبتكر: تخرج مبكرًا. يقول: أتروح إلى أهلك آخر النهار، أم تخرج إليهم بكرة، وما الذي يعجلك عن الانتظار وهو خير لك. والبيت شاهد على أنه حذف همزة الاستفهام اكتفاء بدلالة أم عليه. وبعضهم يستقبح الحذف في هذا الموضع. ويمنعه فيما يلبس بالخبر.

قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

موسى هو( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ومالكهن(وَمَا بَيْنَهُمَا ) يقول: ومالك ما بين السموات والأرض من شيء.( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) يقول: إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو ربّ السموات والأرض وما بينهما.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) }

يعني تعالى ذكره بقوله( قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ) قال فرعون لمن حوله من قومه: ألا تستمعون لما يقول موسى، فأخبر موسى عليه السلام القوم بالحواب عن مسألة فرعون إياه وقيله له( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ليفهم بذلك قوم فرعون مقالته لفرعون، وجوابه إياه عما سأله، إذ قال لهم فرعون( أَلا تَسْتَمِعُونَ ) إلى قول موسى، فقال لهم الذي دعوته إليه وإلى عبادته( رَبُّكُمْ ) الذي خلقكم( وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فقال فرعون لما قال لهم موسى ذلك، وأخبرهم عما يدعو إليه فرعون وقومه:( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) يقول: إن رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه، وإنما قال ذلك ونسب موسى عدو الله إلى الجنة، لأنه كان عنده وعند قومه أنه لا رب غيره يعبد، وأن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة، فقال موسى عند ذلك محتجًّا عليهم، ومعرفهم ربهم بصفته وأدلته، إذ كان عند قوم فرعون أن الذي يعرفونه ربًّا لهم في ذلك الوقت هو فرعون، وأن الذي يعرفونه لآبائهم أربابا ملوك أخر، كانوا قبل فرعون، قد مضوا فلم يكن عندهم أن موسى أخبرهم بشيء له معنى يفهمونه ولا يعقلونه، ولذلك قال لهم فرعون: إنه مجنون، لأن كلامه كان عندهم كلاما لا يعقلون معناه، وقوله:(قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فمعناه: الذي أدعوكم وفرعون إلى عبادته رب المشرق والمغرب وما بينهما يعني ملك مشرق الشمس ومغربها، وما بينهما من شيء لا إلى عبادة ملوك مصر الذين كانوا ملوكها قبل فرعون لآبائكم فمضوا، ولا إلى عبادة فرعون الذي هو ملكها.( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) يقول: إن كان لكم عقول تعقلون بها ما يقال لكم، وتفهمون بها ما تسمعون مما يعين لكم؛ فلما أخبرهم عليه السلام بالأمر الذي علموا أنه الحق

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

الواضح، إذ كان فرعون ومن قبله من ملوك مصر لم يجاوز ملكهم عريش مصر، وتبين لفرعون ومن حوله من قومه أن الذي يدعوهم موسى إلى عبادته، هو الملك الذي يملك الملوك. قال فرعون حينئذ استكبارا عن الحق، وتماديا في الغي لموسى:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي ) يقول: لئن أقررت بمعبود سواي( لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) يقول: لأسجننك مع من في السجن من أهله.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) }

يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعون لما عرفه ربه، وأنه رب المشرق والمغرب، ودعاه إلى عبادته وإخلاص الألوهة له، وأجابه فرعون بقوله( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) : أتجعلني من المسجونين( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ) يبين لك صدق ما أقول يا فرعون وحقيقة ما أدعوك إليه؟ وإنما قال ذلك له، لأن من أخلاق الناس السكون للإنصاف، والإجابة إلى الحق بعد البيان؛ فلما قال موسى له ما قال من ذلك، قال له فرعون: فأت بالشيء المبين حقيقة ما تقول، فإنا لن نسجنك حينئذ إن اتخذت إلها غيري إن كنت من الصادقين: يقول: إن كنت محقا فيما تقول، وصادقا فيما تصف وتخبر،( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) يقول جلّ ثناؤه: فألقى موسى عصاه فتحوّلت ثعبانا، وهي الحية الذكر كما قد بيَّنت فيما مضى قبل من صفته وقوله( مُبِينٌ ) يقول: يبين لفرعون والملأ من قومه أنه ثعبان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قوله:( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) يقول: مبين له خلق حية.

وقوله:( وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ) يقول: وأخرج موسى يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع( للناظرين ) لمن ينظر إليها ويراها.

قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام بن عليّ، قال: ثنا الأعمش، عن المنهال، قال: ارتفعت الحية في السماء قدر ميل، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها، فجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، فجعل فرعون يقول: يا موسى أسألك. بالذي أرسلك، قال: فأخذه بطنه.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) }

يقول تعالى ذكره: قال فرعون لما أراه موسى من عظيم قدرة الله وسلطانه حجة عليه لموسى بحقيقة ما دعاه إليه، وصدق ما أتاه به من عند ربه( لِلْمَلإ حَوْلَهُ ) يعني لأشراف قومه الذين كانوا حوله.( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) يقول: إن موسى سحر عصاه حتى أراكموها ثعبانا( عَلِيمٌ )، يقول: ذو علم بالسحر وبصر به.( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ) يقول: يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشأم بقهره إياكم بالسحر. وإنما قال: يريد أن يخرجكم فجعل الخطاب للملإ حوله من القبط، والمعنيّ به بنو إسرائيل، لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل، واتخذوهم خدما لأنفسهم ومهانا، فلذلك قال لهم:( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ ) وهو يريد: أن يخرج خدمكم وعبيدكم من أرض مصر إلى الشأم.

وإنما قلت معنى ذلك كذلك، لأن الله إنما أرسل موسى إلى فرعون يأمره بإرسال بني إسرائيل معه، فقال له ولأخيه( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ).

وقوله:( فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) يقول: فأي شيء تأمرون في أمر موسى وما به تشيرون من الرأي فيه؟( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) يقول تعالى ذكره: فأجاب فرعون الملأ حوله بأن قالوا له: أخِّر موسى وأخاه وأنظره، وابعث في بلادك وأمصار مصر حاشرين يحشرون إليك كل سحّار عليم بالسحر.

القول في تأويل قوله تعالى : { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) }

الشعراء - تفسير أضواء البيان

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشعراء

قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَْ}

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، وفي آخر سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} .

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .

أشار جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة إلى أن كثرة ما أنبت في الأرض، {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ، أي؛ صنف حسن من أصناف النبات، فيه آية دالَّة على كمال قدرته.

وقد أوضحنا في مواضع متعدّدة من هذا الكتاب المبارك أن إحياء الأرض بعد موتها، وإنبات النبات فيها بعد عدمه من البراهن القاطعة على بعث الناس بعد الموت.

وقد أوضحنا دلالة الآيات القرءانية على ذلك في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ، إلى قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} ، وفي أوّل سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . قوته تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} .

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} .

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيّه موسى عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ، أي: بسبب أني قتلت منهم نفسًا، وفررت منهم لما خفت أن يقتلوني بالقتيل الذي قتلته منهم، ويوضح هذا المعنى الترتيب بالفاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ؛ لأن من يخاف القتل فهو يتوقع التكذيب، وقوله: {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} ، أي: من أجل العقدة المذكورة في قوله تعالى عن موسى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} ، قدّمنا في الكلام على آية "طه" ، هذه بعض الآيات الدالَّة على ما يتعلق بهذا المبحث.

قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} .

قوله تعالى عن نبيه موسى : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .

لم يبيّن هنا هذا الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه، وقد بيَّن في غير هذا الموضع أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم الغبطي، فقد صرّح تعالى بالقتل المذكور في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، فقوله: {قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} مفسّر لقوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} ، ولذا رتّب بالفاء على كل واحد منهما. قوله: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، وقد أوضح تعالى قصّة قتل موسى له بقوله في "القصص" : {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقوله: {فَقَضَى عَلَيْهِ} ، أي: قتله، ولك هو الذنب المذكور في آية "الشعراء" هذه.

وقد بيَّن تعالى أنه غفر لنبيّه موسى ذلك الذنب المذكور، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} .

قوله تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} .

صيغة الجمع في قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، للتعظيم، وما ذكره جلَّ وعلا في

هذه الآية من ردّه على موسى خوفه القتل من فرعون وقومه، بحرف الزجر الذي هو {كَلَّا} ، وأمره أن يذهب هو وأخوه بآياته مبيّنًا لهما أن اللَّه معهم، أي: وهي معيّة خاصة بالنصر والتأييد، وأنه مستمع لكل ما يقول لهم فرعون، أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} .

قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، و "طه" ، وبيّنا في سورة "طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ، وجه تثنيته الرسول في "طه" ، وإفراده هنا في "الشعراء" ، مع شواهده العربية.

قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} .

تربية فرعون لموسى هذه التي ذكرها له هي التي ذكر مبدؤها في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .

قوله تعالى في كلام فرعون لموسى : {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .

أبهم جلَّ وعلا هذه الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: {الَّتِي فَعَلْتَ} ، وقد أوضحها في آيات أُخر، وبيَّن أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسًا منهم؛ كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} ، وقوله عن الإسرائيلي الذي استغاث بموسى مرّتين: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} .

وأظهر الأقوال عندي في معنى قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، أن المراد به كفر

النعمة، يعني أنعمنا عليك بتربيتنا إياك صغيرًا، وإحساننا إليك تتقلب في نعمتنا فكفرت نعمتنا، وقابلت إحساننا بالإساءة لقتلك نفسًا منّا، وباقي الأقوال تركناه؛ لأن هذا أظهرها عندنا.

وقال بعض أهل العلم: ردّ موسى على فرعون امتنانه عليه بالتربية، بقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} ، يعني: تعبيدك لقومي، وإهانتك لهم لا يعتبر معه إحسانك إليّ لأني رجل واحد منهم، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} .

أي: قال موسى مجيبًا لفرعون: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً} ، أي: إذ فعلتها {وَأَنَا} في ذلك الحين {مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: قبل أن يوحي اللَّه إليّ، ويبعثني رسولاً، وهذا هو التحقيق إن شاء اللَّه في معنى الآية.

وقول من قال من أهل العلم: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: من الجاهلين، راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه بالنسبة إلى ما علمه اللَّه من الوحي يعتبر قبله جاهلاً، أي: غير عالم بما أوحى اللَّه إليه.

وقد بيَّنا مرارًا في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرءان، وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات:

الإطلاق الأوّل : يطلق الضلال مرادًا به الذهاب عن حقيقة الشىء، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شىء ضلّ عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شىء ما، وليس من الضلال في الدين.

ومن هذا المعنى قوله هنا: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، أي: من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي، لأني في ذلك الوقت لم يوحَ إليّ، ومنه على التحقيق: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، أي: ذاهبًا عمّا علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي.

ومن هذا المعنى قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، أي: لا يذهب عنه علم شىء كائنًا

ما كان، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، فقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} ، أي: تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ،وقوله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، على التحقيق في ذلك كلّه. ومن هذا المعنى قول الشاعر:

وتظنّ سلمى أنني أبغي بها ... بدلاً أراها في الضلال تهيم

والإطلاق الثاني : وهو المشهور في اللغة، وفي القرءان هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحقّ إلى الباطل، وعن طريق الجنّة إلى النار، ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .

والإطلاق الثالث : هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضلّ الشىء إذا غاب واضمحلّ، ومنه قولهم: ضلّ السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحلّ، ولأجل هذا سمّت العرب الدفن في القبر إضلالاً؛ لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحلّ.

ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، يعنون: إذا دفنوا وأكلتهم الأرض، فضلوا فيها، أي: غابوا فيها واضمحلّوا.

ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارثبن أبي شمر الغساني:

فإن تحيي لا أملك حياتي وأن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل

فآب مضلّوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل

وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم:

أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها ... وفارسها في الدهر قيس بن عاصم

فقول الذبياني: فآب مضلّوه، يعني: فرجع دافنوه، وقول السعدي: أضلّت، أي: دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضًا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:

كنت القذى في موج أكدر مزيد ... قذف الأتى به فضل ضلالا

وقول الآخر:

ألم تسأل فتخبرك الديار ... عن الحي المضلل أين ساروا

وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقًا رابعًا، قال: ويطلق أيضًا على المحبّة، قال: ومنه قوله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، قال: أي في حبّك القديم ليوسف، قال: ومنه قول الشاعر:

هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحقّقا

عجبًا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

وزعم أيضًا أن منه قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، قال: أي محبًّ للهداية فهداك، ولا يخفى سقوط هذا القول، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} .

خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم، قد أوضحه تعالى وبيّن سببه في قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، وبيّن خوفه المذكور بقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} .

قوله تعالى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة "مريم" ،وغيرها.

وقوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} ، قال بعضهم: الحكم هنا هو النبوّة، وممن يروى عنه ذلك السدي.

والأظهر عندي: أن الحكم هو العلم الذي علّمه اللَّه إيّاه بالوحي، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

ظاهر هذه الآية الكريمة أن فرعون لا يعلم شيئًا عن ربّ العالمين، وكذلك قوله تعالى عنه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وقوله: {ئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ، ولكن اللَّه جلَّ وعلا بيَّن أن سؤال فرعون في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، تجاهل عارف أنه عبد مربوب لربّ العالمين، بقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقوله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ف} .

وقد أوضحنا هذا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وفي سورة "طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} .

قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ، إلى آخر القصّة.

قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية في سورة "طه" و "الأعراف" .

قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، ـ إلى قوله - {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} .

قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} ، وفي "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .

قوله تعالى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * َاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون، فيها جاء موضحًا في مواضع أُخر من كتاب اللَّه تعالى؛ كقوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * َالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} ، إلى قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .

وقد قدّمنا إيضاح هذا بالآيات القرءانية في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ، وفي سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .

قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} .

قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ، وفي سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {هَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا } .

قوله تعالى :{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

دلَّت هذه الآية الكريمة على أمرين:

الأول منهما أن الكفّار يوم القيامة، يتمنّون الردّ إلى الدنيا، لأن {لَوْ} في قوله هنا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا} للتمنّي، والـ {كَرَّةً} هنا: الرجعة إلى الدنيا، وإنهم زعموا أنهم إن ردّوا إلى الدنيا كانوا من المؤمنين المصدقين للرسل، فيما جاءت به، وهذان الأمران قد قدّمنا الآيات الموضحة لكل واحد منهما.

أمّا تمنّيهم الرجوع إلى الدنيا، فقد أوضحناه بالآيات القرءانية في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} . وأمّا زعمهم

أنهم إن ردّوا إلى الدنيا آمنوا، فقد بيّنا الآيات الموضحة له في "الأعراف" ، في الكلام على الآية المذكورة، وفي "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ،.

قد قدّمنا الكلام عليها في سورة "الحج" وفي غيرها، وتكلّمنا على قوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، في قصّة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب. وبيَّنا الآيات الموضحة لذلك في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .

قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} .

قد قدّمنا الكلام عليه في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى عن قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} .

قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} .

قد قدّمنا ما يدلّ عليه من القرءان في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} .

وأوضحناه بالآيات القرءانيّة في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، إلى قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وفي سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} .

قوله تعالى هنا عن نوح: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} ، أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً *

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} ، وقوله هنا: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} ، أي: احكم بيني وبينهم حكمًا، وهذا الحكم الذي سأل ربّه إيّاه هو إهلاك الكفّار، وإنجاؤه هو ومن آمن معه، كما أوضحه تعالى في آيات أُخر؛ كقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} ، وقوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} ، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا عن نوح: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قد بيَّن في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا؛ كقوله هنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وقوله هنا: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

و {الْمَشْحُونِ} المملوء، ومنه قول عبيد بن الأبرص:

شحنا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذلّ من الصّراط

والفلك: يطلق على الواحد والجمع، فإن أطلق على الواحد جاز تذكيره؛ كقوله هنا: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، وإن جمع أنّث، والمراد بالفلك هنا السفينة؛ كما صرّح تعالى بذلك في قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} .

قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} .

قال أكثر أهل العلم: إن أصحاب الأيكة هم مدين. قال ابن كثير: "وهو الصحيح"، وعليه فتكون هذه الآية بيّنتها الآيات الموضحة قصّة شعيب مع مدين، ومما استدلّ به أهل هذا القول، أنّه قال هنا لأصحاب الأيكة: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، وهذا الكلام ذكر اللَّه عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعدّدة؛ كقوله في "هود" : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا

الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدّمنا في سورة "الأعراف" ، قولنا: فإن قيل الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر اللَّه جلَّ وعلا في "الأعراف" أنه رجفة، وذكر في "هود" أنه صيحة، وذكر في "الشعراء" ، أنه عذاب يوم الظلّة.

فالجواب ما قاله ابن كثير رحمه اللَّه في تفسيره، قال: "وقد اجتمع عليهم ذلك كلّه، أصابهم عذاب يوم الظلّة، وهي سحابة أظلّتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، انتهى. وعلى القول بأن شعيبًا أرسل إلى أُمّتين: مدين وأصحاب الأيكة، وأن مدين ليسوا هم أصحاب الأيكة، فلا إشكال. وقد جاء ذلك في حديث ضعيف عن عبد اللَّه بن عمرو، وممن روي عنه هذا القول: قتادة، وعكرمة وإسحاق بن بشر".

وقد قدّمنا بعض الآيات الموضحة لهذا في سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، وأوضحنا هنالك أن نافعًا، وابن عامر، وابن كثير قرأوا {لَيْكَةَ} في سورة "الشعراء" ، و سورة "ص?" ، بلام مفتوحة أول الكلمة، وتاء مفتوحة آخرها من غير همز، ولا تعريف على أن اسم للقرية غير منصرف، وأن الباقين قرأوا: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} بالتعريف والهمز وكسر التاء، وأن الجميع اتّفقوا على ذلك في "ق" و "الحجر" ، وأوضحنا هنالك توجيه القراءتين في "الشعراء" و "ص?" ، ومعنى {الْأَيْكَةِ} في اللغة مع بعض الشواهد العربية.

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}

{الْجِبِلَّةَ} : الخلق، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} ، وقد استدلّ بآية "ي?س" ، المذكورة على آية "الشعراء" هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير، ومن ذلك قول الشاعر:

والموت أعظم حادث ... مما يمرّ على الجبلة

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .

أكَّد جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرءان العظيم تنزيل ربّ العالمين، وأنه نزل به الروح الأمين الذي هو جبريل على قلب نبيّنا صلى اللَّه عليهما وسلم ليكون من المنذرين به، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين، وما ذكره جلَّ وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع. أمّا كون هذا القرءان تنزيل رب العالمين، فقد أوضحه جلّ وعلا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، وقوله: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، بيّنه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ، أي: نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به، جاء مبيّنًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} ، أي: أنزل إليك لتنذر به، وقوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} . وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، ذكره أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {لسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} .

وقد بيَّنا معنى اللسان العربي بشواهده في سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرءان

على قلبه صلى الله عليه وسلم بالآيات القرءانية في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} .

قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} .

قد قدَّمنا هذه الآية الكريمة، مع ما يوضحها من الآيات في "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {ِلسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} .

واعلم أن كل صوت غير عربيّ تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة:

فلم أرَ مثلي شاقه صوت مثلها ولا عربيًّا شاقه صوت أعجما

قوله تعال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .

قوله: {سَلَكْنَاهُ} ، أي: أدخلناه، كما قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانيّة والشواهد العربية في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى :{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ، والضمير في {سَلَكْنَاهُ} ، قيل: للقرءان، وهو الأظهر. وقيل: للتكذيب والكفر، المذكور في قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} ، وهؤلاء الكفار الذين ذكر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وسبق في علم اللَّه أنهم أشقياء؛ كما يدلّ لذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، وقد أوضحنا شدّة تعنّت هؤلاء، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة "الفرقان" ، وفي سورة "بني إسرائيل" وغيرهما. وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} نعت لمصدر محذوف، أي: كذلك السلك، أي: الإدخال، {سَلَكْنَاهُ} ، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين، وإيضاحه على أنه القرءان: أن اللَّه أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه لأنه بلغتهم، ودخلت معانيه في قلوبهم، ولكنهم لم يؤمنوا به؛ لأن كلمة العذاب حقّت عليهم، وعلى أن الضمير في {سَلَكْنَاهُ} للكفر والتكذيب، فقوله عنهم: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} ، يدلّ على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم، أي: كذلك السلك سكناه، الخ.

قوله تعالى: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} .

لفظة: {هَلْ} هنا يراد بها التمنّي، والآية تدلّ على أنهم تمنّوا التأخير والإنظار، أي: الإمهال، وقد دلّت آيات أُخر على طلبهم ذلك صريحًا، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا؛ كقوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} ، وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، وقوله تعالى: {مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الرعد" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، وذكرنا طرفًا منه في سورة "يونس" ، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} .

قد قدَّمنا إيضاحه في سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} .

قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} .

قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .

قوله تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الدالّة عليه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ

حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ،إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {ذِكْرِى} ، أعربه بعضهم مرفوعًا، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وأعربه بعضهم منصوبًا، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه:

منها أنه ما ناب عن المطلق، من قوله: {مُنذِرُونَ} ، لأن أنذر وذكر متقاربان.

ومنها أنه مفعول من أجله، أي: منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة.

ومنها أنها حال من الضمير في {مُنذِرُونَ} ، أي: ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة.

قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا} .

قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} .

قد أوضحنا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، بالدليل القرءاني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاطب بمثل هذا الخطاب، والمراد التشريع لأُمّته مع بعض الشواهد العربيّة، وقوله هنا: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية، جاء معناه في آيات كثيرة؛ كقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} ، وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}

هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين، لا ينافي الأمر بالإنذار العام، كما دلّت على ذلك الآيات القرءانية؛ كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، وقوله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "المائدة" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وفي "الحجر" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وقد وعدنا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، بأنا نوضح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة "الشعراء" ، في هذا الموضع، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسمّاة: "منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز" .

فقد قلنا فيها، ما نصّه: والجواب عن قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ، أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يدّ الإنسان وعضده وإبطه. قال تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ، والخفض مستعمل في معناه الحقيقي، الذي هو ضدّ الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما؛ كما قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع، ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر

وأنت الشهير بخفض الجنا ... ح فلا تكُ في رفعه أجدلا

وأما إضافة الجناح إلى الذلّ، فلا تستلزم المجاز كما يظنّه كثير؛ لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك: حاتم الجود.

فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:

لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي

جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئًا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني

بريشة من جناح الذل صببت لك شيئًا من ماء الملام، فلا حجّة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذلّ جناحًا، وإنما يراد بها خفض الجناح المتّصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود، ونظيره في القرءان الإضافة في قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} ، و {عَذَابَ الْهُونِ} ، أي: مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذلّ مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح، أن خفض الجناح كني به عن ذلّ الإنسان، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ، وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} ، وأمثال ذلك كثيرة في القرءان، وفي كلام العرب. وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدلّ عليه كلام السلف من المفسّرين.

وقال ابن القيّم في "الصواعق" : "إن معنى إضافة الجناح إلى الذلّ أن للذلّ جناحًا معنويًّا يناسبه لا جناح ريش، واللَّه تعالى أعلم"، انتهى. وفيه إيضاح معنى خفض الجناح.

والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كما أوضحنا، والعلم عند اللَّه تعالى. وقال الزمخشري في "الكشاف" ، في تفسير قوله تعالى: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، "فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتّبعون للرسول، فما قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

قلت: فيه وجهان، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، لمشارفتهم ذلك. وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتّبع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق، لا يخفض لهما الجناح.

والمعنى: المؤمنين من عشريتك وغيرهم، أي: أنذر قومك فإن اتّبعوك وأطاعوك، فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتّبعوك فتبرّأ منهم ومن أعمالهم من الشرك باللَّه وغيره"، انتهى منه.

والأظهر عندي في قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرءان العظيم؛ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} ، ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ، ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم، وقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ، وقوله تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} .

قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، وتكون في الآية قرينة، تدلّ على عدم صحته، وذكرنا أمثلة متعدّدة لذلك في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب.

وإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله هنا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، قال فيه بعض أهل العلم المعنى: وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين، أي: المؤمنين باللَّه كآدم ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل.

واستدلّ بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه، بقوله تعالى عن إبراهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} ، وممّن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي، وفي الآية قرينة تدلّ على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالى قبله مقترنًا به: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعًا، وأوّل الآية مرتبط بأخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك ومجلسك، ويرى {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: المُصلِّين، على أظهر الأقوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يتقلب في المصلّين قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وقال بعضهم: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: إلى الصلاة وحدك، و {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: المصلّين إذا صلُّيت بالناس.

وقوله هنا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، يدلّ على الاعتناء به صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .

وقوله: {وَتَوَكَّلْ} قرأه عامّة السبع غير نافع وابن عامر: {وَتَوَكَّلْ} بالواو، وقرأه نافع وابن عامر: {فَتَوَكَّلْ} بالفاء، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء، وقوله هنا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الفاتحة" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وبسطنا إيضاحه بالآيات القرءانية مع بيان معنى التوكّل في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} .

قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} .

{وَالشُّعَرَاءُ} : جمع شاعر، كجاهل وجهلاء، وعالم وعلماء. و {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} : جمع غاو وهو الضالّ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} يدلّ على أن اتّباع الشعراء من اتِّباع الشيطان، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} ، وقرأ هذا الحرف نافع وحده: {يَتَّبِعُهُمُ} بسكون التاء المثناة، وفتح الباء الموحدة، وقرأه الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} بتشديد المثناة، وكسر الموحدة، ومعناهما واحد.

وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة، في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، يدلّ على تكذيب الكفار في دعواهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر؛ لأن الذين يتبعهم الغاوون، لا يمكن أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم.

ويوضح هذا المعنى ماجاء من الآيات، مبيّنًا أنهم ادّعوا عليه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر وتكذيب اللَّه لهم في ذلك، أما دعواهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقوله تعالى: {أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . وأمّا تكذيب اللَّه لهم في ذلك، فقد ذكره في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ؛ لأن

قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون.

مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: "لأن يمتلىء جوف رجل قيحًا يريه خير له من أن يمتلىء شعرًا" ، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقوله في الحديث: "يريه" بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء، مضارع ورى القيح جوفه، يريه، وريا إذا أكله وأفسده، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد.

واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.

ومن الأدلّة القرءانيّة على ذلك أنه تعالى لمّا ذمّ الشعراء، بقوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} .

وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرّح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرءان، وطاعة اللَّه تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمّن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيّات، ونحو ذلك.

المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدًا، هل يقام عليه الحدّ؟ على قولين:

أحدهما : أنه يقام عليه لأنه أقرّ به، والإقرار تثبت به الحدود.

والثاني : أنه لا يحد بإقراره في الشعر؛ لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد، واقع لا نزاع فيه.

قال مقيّده -عفا اللَّه عنه وغفر له- : أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقرّ في شعره بما يستوجب الحدّ، لا يقام عليه الحدّ؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا صرّح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحدّ،

ولكن الأظهر أنه إن أقرّ بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحدّ به، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصّة عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة.

قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية الكريمة: "وقد ذكر بن محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في "الطبقات" ، والزبير بن بكّار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه استعمل النعمان بن عديّ بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال:

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم

إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم

فإن كنت ندماني فبالأكبر سقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم

فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، قال: "إي واللَّه إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، {حم* تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، أما بعد: فقد بلغني قولك:

لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم

وايم اللَّه إنه ليسوءني، وقد عزلتك. فلمّا قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال: واللَّه يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وما ذلك الشعر إلا شىء طفح على لساني، فقال عمر: أظنّ ذلك، ولكن واللَّه لا تعمل لي عملاً أبدًا، وقد قلت ما قلت"، فلم يذكر أنه حدّه على الشراب، وقد ضمّنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به"، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا.

وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمانبن عبد الملك، لما سمع قول الفرزدق:

فبتن بجانبي مصرعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام

قال له: "قد وجب عليك الحدّ"، فقال الفرزدق: "يا أمير المؤمنين? قد درأ اللَّه عني

الحدّ، بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} "، فلم يحدّه مع إقراره بموجب الحدّ.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} .

هذا الذي ذكره هنا عن الشعراء من أنهم يقولون ما لا يفعلون، بيّن في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده جلَّ وعلا، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، والمقت في لغة العرب: البغض الشديد، فقول الإنسان ما لا يفعل، كما ذكر عن الشعر يبغضه اللَّه، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} ، مع شواهده العربية.

قوله تعالى: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} .

أثنى اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم اللَّه كثيرًا، وهذا الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر اللَّه، أمر به في آيات أُخر، وبيَّن جزاءه؛ قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} .

قوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له؛ كقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، في آخر سورة "النحل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} .

قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

المنقلب هنا المرجع والمصير، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي، وقد تقرّر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول.

والمعنى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أيّ مرجع يرجعون، وأيّ مصير يصيرون، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون، أي: يعلمون العاقبة السيّئة التي هي مآلهم، ومصيرهم ومرجعهم، جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} ، وقوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.

وقوله: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ} ، ما ناب عن المطلق من قوله: {يَنْقَلِبُونَ} ، وليس مفعولاً به، لقوله: {وَسَيَعْلَمُ} ، قال القرطبي: و {أَيُّ} منصوب {يَنْقَلِبُونَ} ، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبًا بـ {سَيَعْلَمُ} ، لأن أيًا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض، انتهى منه. والعلم عند اللَّه تعالى.

 

سورة الشُّعَرَاء 26/114

سبب التسمية :

سُميت " ‏سورة ‏الشعراء" ‏لأن ‏الله ‏تعالى ‏ذكر ‏فيها ‏أخبار ‏الشعراء ‏وذلك ‏للرد ‏على ‏المشركين ‏في ‏زعمهم ‏أن ‏محمد ‏كان ‏شاعرا ‏وان ‏ما ‏جاء ‏به ‏من ‏قبيل ‏الشعر ‏فرد ‏الله ‏عليهم ‏ذلك ‏الكذب ‏والبهتان ‏بقوله ‏‏" ‏والشعراء ‏يتبعهم ‏الغاوون ‏‏* ‏ألم ‏تر أنَّهم ‏في ‏كل ‏واد ‏يهيمون ‏ *وأنهم ‏يقولون ‏ما ‏لا ‏يفعلون ‏‏" ‏وبذلك ‏ظهر ‏الحق ‏وبان ‏‏.

التعريف بالسورة :

1) مكية .ماعدا الآية 197 ومن الآية رقم 224 إلى أخر السورة فمدنية .

2) من المئين .

3) آياتها 227 .

4) ترتيبها السادسة والعشرون .

5) نزلت بعد سورة " الواقعة " ،بدأت بأحد حروف الهجاء " طسم " .

6) الجزء "19" ، الحزب "37،38" ، الربع "3،4،5،6"

محور مواضيع السورة :

سورة الشعراء مكية وقد عالجت أصول الدين من التوحيد والرسالة والبعث شأنها شأن سائر السور المكية التي تهتم بجانب العقيدة وأصول الإيمان .

سبب نزول السورة :

عن أبي الحسن مولى بني نوفل أن عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت أتيا رسول الله حين نزلت الشعراء يبكيان وهو يقرأ " والشعراء يتبعهم الغاوون " حتى بلغ " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال " أنتم " وذكروا الله كثيرا " قال أنتم " وانتصروا من بعدما ما ظلموا " قال أنتم " وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون " قال الكفار.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج33. كتاب مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

  ج33. كتاب   مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إ...